الرؤية القرآنية للعالم ومفهوم الحياة الطيبة من خلال سورة النحل


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

يندر أن تجد أحدا منا، نحن المسلمين، لا يعاني من اضطراب في العلاقات سواء في الأسرة أو في دائرة الأصدقاء أو في العمل.. ويندر أن يعيش أحدنا بدون خلافات ونزاعات وخصومات يصل بعضها لدرجات مدمّرة نفسيا واجتماعيا..

وفي المقابل، يقول الله عز وجل في سورة النحل (آية 97): “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”. فلماذا نعاني في حياتنا اليومية من كثرة المشاكل والخلافات والقلق، رغم إيماننا وعملنا الصالح؟ وهل نحتاج لإعادة نظر وإعادة ترتيب في رؤيتنا للحياة لتحقيق معنى “الحياة الطيبة” المشار إليه؟

سورة النحل، قرأتها سابقا عشرات المرات.. إلا أنني شعرت في الأيام الفارطة كأنني أقرأها للمرة الأولى.. وجدت أن السورة ملخص كامل للقرآن الكريم.. وقارنت محتواها بما قرأته سابقا عن مفهوم “رؤية العالم” الذي يعتمده الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة منذ أواخر القرن التاسع عشر.. وقارنت محتواها بخلاصة علم النفس الفردي، فوجدت أن توجيهات السورة تلتقي كثيرا مع ما تدعو له هذه المعارف الجديدة..

هذا الأمر ينبّه إلى الحاجة لتجديد فهمنا للقرآن وتنويع زوايا النظر على ضوء المعارف الجديدة:

1. فتطور المعارف حول الطبيعة والنفس البشرية، واكتساب معرفة إضافية، يدعونا لمراجعة بعض القضايا بما يتفق وهذا الجديد من العلم. والقضايا الدينية عموما لا تخرج عن هذه القاعدة. فنحن بحاجة أحيانا لإعادة قراءة القرآن من زوايا جديدة اعتمادا على تطور معارفنا.

2. أضف لذلك، أن مهمتنا كأجيال أتت بعد الجيل الأول للإسلام لا يمكن قصرها على مجرد جمع أقوال الجيل الأول وحفظها وشرحها وشرح الشروح عليها.. وإنما نحن مكلفون أيضا بخدمة (الحق والدعوة إلى الله) بالمعارف الجديدة التي نكتسبها، خصوصا وأن الكفر والإلحاد والتشكيك في حقائق الدين أمر قائم ودائم، ويجدد وسائله ومقولاته ويبتكر أدوات معرفية جديدة، يتحدى بها الإيمان، وهذا يفرض علينا التعامل معه وفق المستجدات والمتغيرات، وتحديه بأدوات معرفية جديدة..

 

1.                ما المقصود برؤية العالم؟

هو اصطلاح يستعمل لعرض وجهة نظر شمولية لفرد مّا أو لمفكر أو جماعة، حول الكون والعالم والحياة، وحول المشكلات والقضايا التي تتعرض لها الإنسانية في واقعها.. ويعرّفها الفلاسفة بأنها مجموعة متجانسة من المفاهيم تسمح “بصياغة تصور عام للعالم والحياة، وصياغة فهم لأكبر عدد ممكن من عناصر الخبرة والتجربة الحياتية”.

ويشترط الفلاسفة لكي تكون الرؤية كاملة، أن تجيب عن ستة أسئلة جوهرية لتشكيل “رؤية للعالم”:

1. سؤال الواقع، ويمكن التعبير عنه بسؤال “ماذا؟”: ما هي طبيعة عالمنا الذي نعيش فيه الآن؟ ما هي تركيبته؟ وكيف يتم توظيفه؟ ما هي علة وجود شيء، وعلة انتفاءه ؟ إلخ.

2. سؤال الماضي والأحداث السابقة والبدايات: كيف نشأ العالم؟ ومن أين؟ ولماذا أصبحت وضعية العالم على ما هي عليه الآن، ولم تتخذ شكلا مختلفا؟ وما هي المبادئ التفسيرية العامة التي يمكن تطويرها حول نشأة الكون والعالم والحياة على الأرض؟

3. سؤال المستقبل: إلى أين؟ ما هو مصير الحياة في هذا الكون في المستقبل؟ وما هي السيناريوهات المتاحة للبشرية؟ وكيف نرجّح بينها، وندفع باتجاه معين ونتحاشى غيره؟

4. سؤال القيم والأخلاق: ما هو الخير وما هو الشر؟ وما هي غاية الحياة؟ ما الذي ينبغي أن نناضل من أجله؟ وبأي وسائل نناضل؟ وما هي الوسائل التي نتجنبها؟

5. سؤال الفعل والسلوك الإنساني: كيف ينبغي أن نتصرف؟ وعلى أي مبادئ نؤسس فعلنا وسلوكنا؟

6. سؤال المعرفة: كيف نكتسب المعرفة، ونصوغ تصوراتنا؟ وكيف نتأكد من صوابية معرفتنا ونبرهن عليها؟ وبأي لغة وأدوات نصوغ هذه المعرفة ؟

7. ثم يقترحون سؤالا كليا شاملا وهو: من أين نبدأ، للإجابة عن كل الأسئلة السابقة؟ وما هي المنهجية؟

 

2.                أنواع رؤى العالم:

يمكن أن نجد رؤية دينية (منطلقة من أسس دينية، مثل الرؤية الإسلامية، الرؤية المسيحية، الرؤية البوذية)، أو رؤية إيديولوجية وفلسفية (مثل الرؤية القومية، الشيوعية، النازية، الليبرالية، الاشتراكية). وتوجد رؤى فرعية من كل الرؤى الكبرى (مثل الشيعة والسنة، والسلفية والصوفية، والكاثوليك والبروتستانت، والقومية البعثية، والشيوعية التروتسكية واللينينية، والليبرالية، والاشتراكية المسيحية، والاشتركاية الديموقراطية).

وكما نلاحظ، فمفهوم رؤية العالم قريب جدا لعلم الفرق والملل والنحل، الذي كتب فيه بعض العلماء (عبد القاهر البغدادي، وابن حزم، الشهرستاني، النوبختي).. ولكن كتابتهم لم تكن ممنهجة بل تجميع للفروقات البسيطة والمركبة.

 

3.                هل هناك ضرورة لامتلاك رؤية للعالم؟

صياغة “رؤية للعالم” تلبي احتياجات نفسية واجتماعية حقيقية.. ومن يملك رؤية دينية أو فلسفية واضحة للعالم، يكون أقل شعورا بالقلق الوجودي واليأس وضعف الثقة بالنفس.

والإيمان والعقائد الدينية من أهم العوامل في تحصيل السعادة لأنها تضفي معنى على الحياة والوجود، وتملأ النفس بالأمل والثقة، وتعطي تفسيرا عميقا للآلام والمعاناة، وإحساسا بالانتماء إلى كيان أكبر.

وعلى هذا، فنحن جميعا بحاجة ماسة إلى رؤية ما للعالم، ولو لم تكن كاملة الوضوح، وبحاجة أيضا لأن يكون لدينا بعض عناصر الإجابة لكافة التساؤلات المتعلقة بالكون والحياة.

 

4.                الرؤية القرآنية للعالم من خلال سورة النحل:

آياتها: 128.. سورة مكية ماعدا الآيات 126-128 فمدنية. نزلت بعد سورة الكهف وقبل سورة نوح.

1) السورة خلاصة شبه كاملة للرؤية القرآنية للعالم، وتجيب عن الأسئلة الستة. وتدعو الإنسان للنظر والتأمل في كل ما يحيط به في الحياة، وإدراك ما وفره الله للإنسان لبناء “الحياة الطيبة” على الأرض بشكل عام.. وتعطيه إجابات سريعة ومركّزة عن كل ما يحتاجه لبناء رؤيته للكون والعالم والحياة.

2) تبدأ السورة بالحديث عن المدخل لامتلاك الإجابة السليمة عن التساؤلات الكبرى للحياة حتى لا يبقى الإنسان حائرا ضعيفا أمامها: كيف وجدتُ في هذه الأرض ولماذا؟ وماذا عليّ أن أفعل؟ وما هو مآلي بعد الموت؟ وكيف أتعامل مع الخير والشر؟ إلخ.. فتذكر أن المدخل الوحيد هو الوحي والنبوة، ولا يمكن لأي مدخل معرفي آخر أن يوفر الإجابة السليمة عن هذه الأسئلة: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.. يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱتَّقُونِ). وبالتالي فسؤال وجود الله وصفاته لا يمكن الإجابة عنه لا بالعلم التجريبي ولا بالفلسفة وإنما بالوحي والنبوة.

3) ثم تنطلق في بيان الرؤية، منذ بدايات الخلق (سؤال الماضي والبدايات): فالسماوات والأرض خلقتا بِالْحَقِّ (في غير عبث).. تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.. والإنسان خلق من نطفة (من قطرة ماء صغيرة). ولكنه سيصبح تدريجيا خصيما مبينا، مجادلا بعقل ولسان، قادرا من خلالهما على التفكير والبيان والتواصل مع الآخرين.

4) ثم تتحدث السورة عن أدوات الحياة التي وفرها لله للإنسان (سؤال الواقع): الحيوانات (الأنعام، الخيل البغال، الحمير)، ووظيفتها المباشرة (الغذاء والملبس والتنقل وحمل الأشياء التي يصعب على الإنسان حملها بنفسه) ووظيفتها غير المباشرة (كأداة للتأمل في طريقة حياتها وحركتها، لاختراع الأشياء على شاكلتها، إلخ).. ثم الماء والزرع، ومظاهر التنوع والجمال في الطبيعة والحياة، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).. وتسخير البحر للطعام واستخراج حلي الزينة، وأهمية الجبال والأنهار والمسالك والطرقات، وعلم الفلك للاهتداء بالنجوم. (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.. وَعَلامَاتٍ.. وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ).

5) ثم تتحدث السورة عن أدوات الفعل الإنساني التي وفرها الله للإنسان: السمع والبصر والعقل، والمعرفة. وتبشّر مَنْ أحسن استخدامها (ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ..)، وتحذّر من يسيء استخدامها (ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ).

6) ثم تتحدث عن دور الرسل في الهداية، وتصحيح الانحرافات عبر التاريخ البشري، وإعادة تصحيح البوصلة نحو الله، والدعوة لاجتناب الطغيان المادي والسياسي والاجتماعي والإفساد في الأرض: “وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱلله وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ”.. “وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ

7) وتذكّر بنعم الله.. وحق الشّكر له والاعتراف بفضله وضرورة عبادته: “وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱلله”. “وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها”.. وتذكّر بأهمية حفظ مقام الألوهية والاعتراف بوجودها والإذعان لها: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ),..

ثم تعطي نماذج للمستكبرين وشرك الكفار وإنكارهم للنبوة، وتحذّر من نموذجهم.. وتجمع في السياق بين الإيمان بوحدانية الله والإيمان بالآخرة. بل تجعل أحدهما دالا على الآخر فلا يمكن الإيمان بوجود الله دون الإيمان باليوم الآخر والبعث والجزاء: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. فَالذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)..

ثم تتحدث عن المشيئة الإلهية ومفهوم القضاء والقدر.. وتنفي مفهوم الإجبار، وتقرّر أن الله يأمر عباده بالخير وينهاهم عن الشر.. ثم يترك لهم حرية الاختيار.

ثم تتحدث عن موقع المرأة في المجتمع، وتصحّح المفاهيم الخاطئة حولها، وتدفع الظلم الذي كانت تعاني منه في المجتمعات البشرية المنحرفة: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم). وتنبه على قيمة مؤسسة الأسرة والزواج كإطار سليم للحياة.

 

وتنبه على أهمية تكريس التعاون في إطارين:

1.                إطار المجتمع بما يوفر للجميع الرزق وأسباب العيش الكريم تضرب الأمثال لشرح سبب الاختلاف في الرزق (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْق فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)

2.                إطار الزواج، وإنجاب الأبناء لضمان استمرار الحياة البشرية وعمران الأرض: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً)

ثم تشير لأهمية البيت والمسكن والملبس كضرورات للعيش الكريم، وتسخير الأدوات لذلك من الطبيعة التي وفرها الله في الأرض، مثل صناعة الملابس من جلود وصوف الحيوانات، واستعمال حجارة الجبال في البناء..

ثم تتحدث السورة عن سؤال الفعل والسلوك (السؤال الخامس)، وأهمية الأخلاق والنهي عن نقض الوعود. والأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي.

وتختم السورة هذه الرؤية القرآنية بست إشارات هامة:

1. الإشارة إلى أن هذا الإطار العام لرؤية العالم هو الكفيل بتحقيق الحياة الطيبة في الأرض.. وأن البشرية مأمورة باتباع هذه الرؤية لتحقيق وظيفة “عمران الأرض” التي خُلِق الإنسان من أجلها.. “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

2. أن الرافضين للالتزام بهذه الرؤية الربانية للعالم مآلهم الخسران في الدنيا والعقاب في الآخرة، باعتبار أن أي رؤية مخالفة ستنحرف جزئيا أو كليا عن المهمة الأساسية للإنسانية في الأرض.. (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.. وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).. وتذكر السورة أنّ أهمّ مثال بشري على الانحراف عن هذه الرؤية القرآنية هو نموذج بني إسرائيل (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

3. أن المخالفين للرؤية القرآنية للعالم نوعان: مخالف مُعرِض جاحد تماما.. ومخالِف مُكْرَهٌ على ذلك، بشكل من الأشكال.. وتبيّن الفرق بينهما: “مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.. أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ”.

4. أن هذه الرؤية القرآنية للعالم ليست حكرا على أتباع الإسلام، بل هي في الأصل إعادة إحياء لنفس الرؤية التي أوحى بها الله للأنبياء السابقين.. وتذكر إبراهيم (ع) كنموذج أمثل للإنسان الذي عاش حياة طيبة، متمثلا الرؤية القرآنية كاملة، وتطلب من محمد (ص) وأتباعه اتّباع نموذج إبراهيم (ع): (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.. شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ.. اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.. ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

5. أن البشرية ستشهد اختلافا كثيرا حول رؤية العالم، ونزاعا بين الملتزمين بالرؤية القرآنية، والرافضين لها.. وأن الحل في ذلك بالحوار وليس بالحرب والصراع: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).. وتبيّن أن هذا الاختلاف ستشوبه كثير من الانفعالات والمشاحنات النفسية التي قد تؤدي لتبادل العنف والعدوان.. وأن من المنطقي أن نعامل المعتدي بالمثل.. ولكن الصبر أفضل، لأهمية ضبط المشاعر ومقاومة الانفعالات، وكبح النزعة نحو العنف: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

6. تدعو المؤمن للالتزام باستحضار القرآن الكريم في حياته اليومية، لأنه الكتاب الذي يلخص له الرؤية السليمة للكون والعالم والحياة، ويساعده على تحسس الحلول الحقيقية لمشاكله وقضاياه، ويحميه من الانحرافات المحتملة عن الطريق.. وتخبره بأنه سيتعرض للوساوس التي تشككه في صدقية ووثاقة القرآن، وتشككه في صلاحيته للزمن ومتغيرات الواقع، وتوهمه بعجز القرآن عن الإجابة عن التعقيدات الجديدة للحياة في كل عصر وكل بلد كل مجتمع: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

السورة إذن تشكّل خلاصة كاملة لرؤية العالم الإسلامية.. بل وخلاصة أيضا للقرآن الكريم ذاته. وقد أتت في أسلوب فني بليغ وعميق في غير تعقيد، يفهمه الإنسان أيا كان عصره وزمانه وبيئته ومعرفته..

7. الحياة الطيبة في سورة النحل:

نتوقف عند مفهوم “الحياة الطيبة”.. يقول الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).. هذه الآية تقرر جملة من القواعد:

1. أولها: أن البشرية تتكون من جنسين (ذكر وأنثى)،

2. أن هذين الجنسين متساويان في قاعدة العمل والجزاء، وفي صلتهما بالله، وفي جزائهما عند الله.

3. وبالتالي فإن هذه المساواة في قاعدة العمل والأجر تقتضي التعاون بين الرجل والمرأة.. ولا يمكنها أن تؤدي لمجتمع أبوي/ذكوري.

4. وأن المطلوب في الحياة هو أداء الدور والوظيفة بالشكل السليم (العمل الصالح)، من أجل البناء والإصلاح، وليس من أجل التدمير والإفساد..

5. وأن هذا العمل الصالح وأداء الدور في الحياة يكفل، لمن يقوم به وللمجتمع، حياةً طيبة في هذه الأرض.

6. وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة.

 

6-              ماذا يقول علم النفس؟

علم النفس يهدف لتفسير آليات الطبيعة الإنسانية، وتشكّل الشخصية، ودراسة السلوك الإنساني، والعوامل التي تجعله يختار طريقةً دون غيرها في مواجهة مشاكله الاجتماعية والثقافية. ويوجد اتجاهان رئيسيان في التحليل النفسي:

1. المدرسة الكلاسيكية (فرويد)، والتي تفسّر السلوك البشري بمفاهيم الغرائز، واللاشعور، والعُقَد الجنسية، والحتمية البيولوجية. وتعتبر أن الإنسان كائن بيولوجي. ويؤكد على أهمية الحاجات البيولوجية. وأهمية الغرائز، والأهمية القصوى للجنس. وأن الإنفعالات لا يسيطر الفرد عليها. وأن الشخصية مكونة من الأنا الأعلى والأنا والهوَ والغرائز. وأن العُقَد الجنسية أمر مشترك بين جميع الأطفال.

2. المدرسة الحديثة (يونج، آدلر، إيريك فروم)، والتي تفسر السلوك البشري بالعوامل الثقافية والاجتماعية والتعليم، وتطوير الذات، وأنماط الشخصية. وتعتبر أن الإنسان كائن اجتماعي. وتؤكد على أهمية الحاجات الاجتماعية. وأهمية الميل إلى الانتماء إلى جماعة. وإمكانية ضبط الانفعالات والسيطرة عليها، والشخصية تخضع لأنماط أساسية.. والجنس أقل أهمية مما يتصوره فرويد، والعقد الجنسية استثناء وليس ظاهرة عامة..

وسنركّز على مدرسة آدلر باعتبارها الأكثر انتشارا وتأثيرا في الخمسين سنة الأخيرة.. وتمثّل الأساس النظري لكل النظريات المعاصرة حول القيادة، والتنمية البشرية وتحسين الأداء الفردي، وإدارة التغيير، والإدارة بالأهداف، وحل المشكلات في العلاقات الاجتماعية والزوجية، والبرمجة العصبية، إلخ.. ونعرض في البداية لـ”معنى الحياة” عند آدلر:

يرى آدلر أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا إذا عرف أن لحياته معنى.. وهذا المعنى محصّلة جهد معقّد ومتراكم، وهضم عقلي ونفسي وثقافي، تبدأ منذ الرضاعة. وكثيرا ما يتغير المعنى الذي نحمله عن بعض الحقائق من فرد لآخر، وحتى لدى الفرد نفسه من فترة عمرية لأخرى، نتيجةً لتغير الخبرات وتطورها وتنوعها، ونتيجة المراجعة الذاتية وتصويب الرؤية الذاتية وإصلاح السلوك الذاتي.

ويرى أن سؤال “ما معنى الحياة؟” سؤال قديم قِدَم الإنسان نفسه.. وكثيرون يتهربون من طرحه ولا يصدّعون رؤوسهم بسبب الاستغراق في هموم الحياة اليومية.. وينتبهون إليه فقط حين يمرون بأزمة أو بمكروه أو إحباطات وتجارب فاشلة، أو يعيشون موت أحد الأهل والأقارب والأصدقاء.

ويرى أن الحياة وضع اضطراري لا نختاره.. فنحن نولد دون اختيار فنجد أنفسنا في هذه الحياة.. ثم نجد أنفسنا نعيش تحت ثلاثة ظروف اضطرارية تشكّل معنى الحياة وتتسبب في كل المشاكل التي تواجهنا:

1. الظرف الأول: أننا نعيش على سطح كوكب صغير جدا، ومجبرون أن نعيش في حدود ما يوفره من موارد طبيعية محدودة، وأن نحاول تطوير هذه الموارد واستخدامها أحسن استخدام في حدود معارفنا، وأن نقوم بتطوير أجسامنا وعقولنا للاستمرار في الحياة على الأرض.

2. الظرف الثاني: أن الضعف المميز للفرد ومحدودية قدراته تجعل من المستحيل تحقيق أهدافه في الحياة بمفرده أو بمعزل عن الآخرين.. ولذلك فكل فرد عضو في جماعة البشر المحيطين به، ووجوده مرتبط بوجودهم.. وبالتالي فأعظم منحة يقدمها الإنسان لأخيه الإنسان هي منحة “الزمالة” (أو الأخوة). والحاجة لوجود الآخرين ليس فقط لإشباع الحاجات المادية وإنما أيضا لإشباع الحاجات المعنوية اللازمة لاستمرار الحياة..

3. الظرف الثالث: إن الجنس البشري يتكون من رجل وامرأة، وبقاء الجنس البشري واستمراره يعتمد على كليهما، ولا يمكن للرجل ولا للأنثى الاستمرار في الحياة دون الآخر.

من هنا، يستنتج آدلر أن المشكلات الثلاث في حياة الفرد هي: العمل (الوظيفة/الدور)، العلاقة مع باقي أفراد المجتمع، والزواج.. وأن الحل المشترك لهذه المشكلات هو “التعاون” وليس الصراع.. وكل فرد يحقق “الحياة الطيبة” بمقدار نجاحه في “التعاون”، ويبتعد عنها بمقدار فشله وقصوره في “التعاون”.

ويرى أن الخبرة والمهارة الأساسية في التعاون تتشكل حسب الأدوات والظروف والخبرات المتاحة في 3 مراحل عمرية: الطفولة الأولى والمدرسة والمراهقة. ويمكن تهذيبها فقط بالتدريب..

أما المفاهيم الأساسية لنظرية لآدلر فتتلخص في ما يلي:

1. يرى آدلر أنه لا توجد حتميات بيولوجية، وإنما توجد غائية في حياة الفرد، تجعله يسعى بفاعلية لتحقيق غايات وأهداف لبلوغ التميز والكمال.

2. ويرى أن الفرد كائن اجتماعي بالفطرة.. وشخصيته وطبيعته الداخلية تتشكلان من خلال المعايير الأخلاقية والثقافية، بتأثير من من الروابط والعلاقات الاجتماعية. وأن طريقة تفكير الفرد ودوافعه السلوكية تتشكل بتأثير من ظروفه الاجتماعية والاقتصادية ومعتقدات الدينية والعلاقات الإنسانية التي تشكل مشاعر انتماءه للجماعة.

3. الإنسان لا يحتاج للاستقرار والهدوء، بقدر ما يحتاج للكفاح والتوتر الإيجابي وإنفاق الجهد والطاقة من أجل الأفضل.. والدافع الأساسي للتفوق والتنافس والكمال ليس الجنس (كما يقول فرويد)، وإنما مشاعر النقص والعجز هي التي تمثل الدافع في كل تقدُّمٍ وصلت بشري. وبالتالي، فأغلب المشاكل التي يتعرض لها الإنسان حين يبحث لنفسه دورا في المجتمع أو وظيفة أو عملا، فجذورها تعود بالأساس لكيفية إدارة مشاعر الضعف والنقص وتحويلها إلى حافز، وهذا يتحقق أساسا بتأثيرات الأسرة والمدرسة والميول الأولى.

4. الفرد يحتاج للحب والعاطفة. ولذلك فهو يكافح من أجلهما. وأغلب مشكلات الأسرة والزواج تعود إما للأخطاء في تعريف الحب ومقتضياته، أو الأخطاء في الربط بين مفاهيم الحب والتعاون والاهتمام الاجتماعي، أو نتيجة ما نستخلصه من تجربة آبائنا وتقييم علاقتهم الزوجية، أو لأخطاء فهم الدور الاجتماعي والنفسي للزواج، أو لقصورنا في امتلاك المهارات لحل المشاكل.

5. والفرد يحتاج أيضا للاهتمام الاجتماعي. ولا يستطيع الانفصال عن الالتزامات الاجتماعية.. والميولُ الاجتماعية تعويضٌ حقيقي يقوم به الفرد تجاه الآخرين بسبب ما يعانيه من ضعف ذاتي طبيعي. ولذلك فلديه استعداد للتضحية بطموحه الشخصي وأنانيته، وللعمل من أجل الصالح العام والمثل العليا تعويضا عن ضعفه.. وهذه النزعة الفطرية لا تظهر تلقائيا بل تحتاج للتوجيه والتدريب.

6. يوجد لكل لفرد مبدأ أساسي يحدّد أسلوب حياته ويفسّر خصوصيته وتميّزه عن بقية البشر.. وهذا المبدأ يتحدد في مرحلة الطفولة المبكّرة لأن مركز الفرد في الأسرة وترتيبه في الولادة يطبع نفسيته وأسلوب حياته. وكل المصاعب التي تعوق نموه تنشأ من شدة المنافسة وقلة التعاون في الأسرة..

وكما نرى، فإن أدوات علم النفس الفردي تلتقي كثيرا مع الإطار العام لمفهوم “الحياة الطيبة” في سورة النحل.

 

 خاتمة: سبب تسمية سورة النحل:

يقول تعالى “وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ.. ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ.. فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً.. يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ.. فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ

ربما هي دعوة للانتباه لنمط حياة النحل وتنظيم مملكته القائم على التعاون والتكامل وعدم النظاع والخصومة من إخراج أفضل ما فيه، أي العسل.

وربما هي إشارة أيضا بقوله تعالى “وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ”، إلى أن الغائية في الحياة هي نوع آخر من الوحي، مثلما نرى الغائية في حياة النحل. فهي تشير إلى اتباع النحل لإرشادات إلهية فطرية لتنفيذ ما كلفت به بدقة “ٱتَّخِذِي.. كُلِي.. فَٱسْلُكِي.”

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply