بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قد حثَّ الله عز وجل عباده في أكثر من آية في كتابه على الإنفاق في سبيله؛ قال الله جل جلاله: ﴿ منْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: سمى الإنفاق قرضًا؛ حثًّا للنفوس، وبعثًا لها على البذل؛ لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بدَّ، طوَّعت له نفسه بذله، وسهُل عليه إخراجه، فإن علم أن المستقرض مليٌّ وفيٌّ محسن، كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه، فإن علم أنَّ المستقرض يتَّجر له بما أقرضه، وينميه له، ويثمِّره حتى يصير أضعاف ما بذله، كان بالقرض أسمح وأسمح، فإن علم أنه مع ذلك كلِّه يزيده من فضله وعطائه أجرًا آخر من غير جنس القرض، وأن ذلك الأجر حظ عظيم، وعطاء كريم، فإنه لا يتخلف عن قرضه، إلا لآفة في نفسه من البخل والشح، أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه، ولهذا كانت الصدقة برهانًا لصاحبها.
وقال رحمه الله: في الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها إلا الله، فمنها: أنها تقي مصارع السوء، وتدفع البلاء، حتى إنها لتدفع عن الظالم، وتطفئ الخطيئة، وتحفظ المال، وتجلب الرزق، وتفرح القلب، وتوجب الثقة بالله، وحسن الظن به، وترغم الشيطان، وتزكِّي النفس وتنميها، وتُحبب العبد إلى الله، وإلى خلقه، وتستُر عليه كل عيب، وتزيد في العمر، وتستجلب أدعية الناس ومحبتهم، وتدفع عن صاحبها عذاب القبر، وتكون عليه ظلًّا يوم القيامة، وتشفع له عند الله، وتهون عليه شدائد الدنيا والآخرة، وتدعوه إلى سائر أعمال البر، فلا تستعصي عليه، وفوائدها ومنافعها أضعاف ذلك.
نعيش هذه الأيام في شهر رمضان شهود الجود، وهو سَعة العطاء وكثرته، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: كان جوده صلى الله عليه وسلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضًا، فإن الله جبَله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة: منها: شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه، ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا، واتِّقاء جهنم والمباعدة عنها، وخصوصًا إن ضُمَّ إلى ذلك قيامُ الليل، ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، ولا سيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء، فمن جاد على عباد الله، جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل.
ومنها: أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقصٌ، وتكفير الصيام لذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه، وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل".
ولهذا استحبَّ أهلُ العلم أن يزيد المسلم من جوده في شهر رمضان، قال الإمام الشافعي رحمه الله: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
في هذا العام (1441هـ) وبسبب جائحة كورونا، صار البعض من المسلمين بحاجة إلى من يساعدهم ويخفِّف عليهم من آثار هذه الجائحة، وقد منَّ الله عليك بالمال، فالمال الذي بيدك مال الله؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ [النور: 33]؛ قال العلامة السعدي رحمه الله: المال مال الله، وإنما الذي بأيديكم عطية من الله لكم، ومحض منه، فأحسنوا لعباد الله، كما أحسن إليكم، فأحسن رعاك الله لعباد الله في هذه الجائحة من مال الله الذي أعطاك، وأجل مطالبة الفقراء بدَينك مهما طالت المدة، وجاهد نفسك للتصدق عليهم بالدين أو بعضه، خصوصًا لمن كان بحاجة ماسة منهم، فذلك فضل ستجد ثوابه يوم القيامة عند الله الكريم؛ قال عز وجل: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280].
وأحسن إليهم كذلك بالتصدق عليهم بما يحتاجون من مؤن ونحوها، وما يدريك أن هذه الصدقات تقيك من أهوالٍ عظيمة، يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق في يوم القيامة، فتكون ظلًّا لك؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الصدقة يجعلها الله سبحانه وتعالى شيئًا محسوسًا يظلُّ صاحبه وحدثني رجل أنه كان بخيلًا ولا يأذن لامرأته أن تتصدق بشيء من ماله، فرأى في المنام كأنه في يوم القيامة وكأن الشمس قريبة من الناس والناس يموج بعضهم في بعض، وهم في حرٍّ شديد ومشقة، فجاء شيء مثل الكساء، فظلل عليه، لكن فيه ثلاثة خروق تدخل منه الشمس، يقول: فرأى شيئًا يشبه التمرات جاءت وسدت هذه الخروق، فانتبه وهو متأثر من الرؤيا، فقصُّها على زوجته، فقالت: الذي رأيته حق جاءني فقير وأعطيته ثوبًا وجاء بعده فقير فأعطيته ثلاث تمرات، سبحان الله الثوب الكساء، والتمرات هي التي جاءت ورقعت الشقوق الثلاثة التي في الثوب.
وتذكر أن العبد المفرط عند موته يتمنى الرجوع إلى الدنيا ليتصدق؛ قال عز وجل: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11].
وهذا السؤال والتمني قد فات وقته، ولا يمكن تداركُه، أما اليوم فيمكنك التصدق والإحسان، فبادر واحذَر من وساوس الشيطان، فهو ماكر خبيث يخوِّفك بالفقر؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّـهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:268]، فأنت بين داعيين: داعي الرحمن الذي يدعوك إلى الإنفاق والإحسان، ويعدك عليه الفضل والثواب في العاجل والآجل، وبين داعي الشيطان الذي يزيِّن لك إمساك المال، ويخوفك بالفقر، فاجعَل داعي الرحمن ينتصر على داعي الشيطان تفز بالجنان والحور الحسان والنعيم المقيم، وفَّقك الله لكل خير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد