قراءة في بغية المرتاد


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

خلال قراءة ثانية لبغية المرتاد، أدركت أن عمل ابن تيمية فيها كان عظيما بحق، التسلسل الذي قدمه –بحيث أنك لو قرأت من الصفحة ٣٠٠ إلى ٦٠٠، دون قراءة ال ٣٠٠ صفحة الأولى لم تدرك مراده– في منتهى الدقة. مع أن قلة التركيز تكاد تفقدك ثمرة قراءة العمل من أوله لآخره، فلا تكشف لِماذا قدّم بأفكار ابن سينا ثم تفسيرات القرامطة، ثم انطلق بابن عربي وابن سبعين.

ابن تيمية رأى أن كل الأدبيات الصوفية لابن عربي، في شق كبير منها؛ هي عالة بالأصالة على ابن سينا، وتنبهت لهذا أين ذكر تفضيلهم الفيلسوف على النبي في بداية الكتاب، وفيما بعد ذكر تفضيل ابن عربي الوليَ على النبي. وهكذا إلى أن وصل لإشارات ورمزيات ابن عربي، فكلها أدبيات صوفية إن وضعتها في قالَب فلسفي خرجت متسقة مع السينوية المثالية، وكأنها الجانب الأدبي الصوفي لفلسفة ابن سينا!.

فإن قال ابن سينا: الله خاطب الجمهور بخلاف الحكمة، فإن هذه قاعدة ثابتة لدى ابن عربي، فكل أدبياته الذوقية فيما بعد هي من باب إضافة الرونق على الفلسفة الجافة التي قدمها ابن سينا. لكنه يعيد قولبتها بما لا تصريح فيه بنسبة الكذب للأنبياء. ولكن يسقط مخ فلسفة ابن سينا وغيره على النص، من باب أن النص فيه ما يرمز لهذا المعنى.

 

الذي قدمه ابن تيمية في هذا العمل تحفة تحتاج قراءة ثالثة ورابعة، فقد كشف أن التصوف الفلسفي لم يكن مجرد تخرصات نابعة عن زهّاد مغترين بعقولهم، وإنما هو الجانب الأدبي للفلسفة المثالية التي نادى بها ابن سينا.

أما الغزالي فمحله أنه كان قنطرة ابن عربي إلى ابن سينا وإخوان الصفا.

 

يمكن أن تدرك ذلك جيدًا، من خلال التفكر فيما كان يحمله دماغ ابن تيمية وهو يكتب هذا الكتاب، وهو هذا الاستقراء البديع:

 

"ابن عربي كان أعلم بالحديث والتصوف من ابن سبعين وابن سبعين أعلم بالفلسفة من ابن عربي.

اما الكلام فكلاهما يأخذ من مشكاة واحدة، من مشكاة صاحب الإرشاد وأتباعه كالرازي، أما ابن سبعين فأصل مادته من كلام صاحب الإرشاد وإن أظهر تنقصه ونحوه من الكلام، ومن كلام ابن رشد الحفيد، ويبالغ في تعظيم ابن الصائغ الشهير بابن باجه، وذويه في الفلسفة، وسلك طريق الشوذية في التحقيق، وأخذ من كلام ابن عربي، وسلك طريقا مغايرا لطريق غيره وإن كان مشاركا لهم في الأكثر وهما وأمثالهما يستمدان كثيرا مما سلكه أبو حامد في التصوف المخلوط بالفلسفة، ولعل هذا من أقوى الأسباب في سلوكهم هذا الطريق.

وابو حامد مادته الكلامية من كلام شيخه في الإرشاد والشامل ونحوهما مضموما إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني، لكنه في أصول الفقه سلك في الغالب مذهب ابن الباقلاني مذهب الواقفة وتصويب المجتهدين ونحو هذا، وضم إلى ذلك ما أخذه من كلام أبي زيد الدبوسي وغيره في القياس ونحوه، وشيخه في أصول الفقه يميل إلى مذهب الشافعي وطريقة الفقهاء التي هي أصوب من طريقة الواقفة.

ومادة أبي حامد في الفلسفة من كلام ابن سينا، ومن رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك.

أما في التصوف وهو أجلّ علومه وبه نبل، فأكثر مادته من كلام الشيخ أبي طالب المكي الذي يذكر في المنجيات في الصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والاخلاص ، فإن عامته مأخوذ من كلام أبي طالب المكي، ولكن كان أبو طالب أشد وأعلى، وما يذكره في ربع المهلكات فأخذ غالبه من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، كالذي يذكره في ذم الحسد والعجب والفخر والرياء والكبر ونحو هذا.

وأما شيخه أبو المعالي فمادته الكلامية أكثرها من كلام القاضي أبي بكر ونحوه، واستمد من كلام أبي هاشم الجبائي على مختارات له. وكان قد فسر الكلام على أبي قاسم الاسكاف عن أبي إسحق الاسفرائيني ولكن القاضي هو عندهم أولى، ولقد خرج عن طريقة القاضي وذويه إلى طريقة المعتزلة.

أما كلام أبي الحسن نفسه فلم يكن يستمد منه وإنما ينقل كلامه مما يحكيه عنه الناس .

والرازي مادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني، فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي، وله مادة قوية من كلام أبي الحسين البصري وسلك طريقته في أصول الفقه كثيرا، وهي أقرب إلى طريقة الفقهاء من طريقة الواقفة .

وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني أيضا ونحوهما، و أما التصوف فكان فيه ضعيفا، كما كان ضعيفا في الفقه.

ويوجد في كلام هذا وأبي حامد ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي وذويه.

ويوجد في كلام أبي الحسن من النفي الذي أخذه عن المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب، الذي أخذ أبو الحسن طريقه ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة ، وإذا كان الغلط شبرا صار في الاتباع ذراعا ثم باعا حتى آل هذا المآل، فالسعيد من لزم السنة"

 

(بغية المرتاد، ابن تيمية، تحقيق موسى الدويش، مكتبة العلوم و الحكم، الطبعة الثانية ٢٠٠١، ص٤٥٠)

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply