الاتحاد في القرآن والحديث


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

حث النبي على الاتحاد في أحاديث كثيرة، وأكد القرآن على الاتحاد والعمل يدًا واحدة من أجل قوة الإسلام وترابط المسلمين، ففي سورة آل عمران أمر الله المؤمنين أن يتمسكوا بدينه وكان الخطاب للأوس والخزرج بأن لا تفرقوا كمان كنتم في الجاهلية، ذلك ما كان بين الأوس والخزرج من العداوة إلى أن ألَّفَ الله بين قلوبهم بالإِسلام فزالت تلك الأحقاد وصاروا إخوانًا مُتوادِّين، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا..) آل عمران:103.

قال ابن عباس: معناه تمسكوا بدين الله، وقال ابن مسعود: هو الجماعة، وقال: عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة، وقال مجاهد وعطاء: بعهد الله، وقال قتادة والسدي: هو القرآن، وروي عن ابن مسعود عن النبي قال: «إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والشفاء النافع، وعصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه»، وقال مقاتل بن حيان: بحبل الله أي: بأمر الله وطاعته، (ولا تفرقوا)، كما افترقت اليهود والنصارى.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله قال: «إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم، ويسخط لكم، قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»، قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).

وفي حديث أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه".

نرى أن النبي المسلم على معاونة أخيه ونصرته وتأييده ومؤازرته، ويدل الشرع على أن المؤمن كالبنيان لا يستقل بأمور دينه ولا بأمور دنياه، ولا تقوم مصالحه إلا بالمعاونة، والمعاضدة بينه وبين إخوانه، فإذا لم يحصل هذا وانشغل كل واحد بنفسه فإن ذلك مؤذن بتفكك الأسرة والمجتمع.

وأمر الله المؤمنين بالإلفة ونهى عن الفرقة، لأن التفرق يؤدي إلى التهلكة، والجماعة نجاة، والله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان متراص محكم لا ينفذ منه العدو. وفي الآية: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) الصف:4، بيان فضل الجهاد والمجاهدين؛ لمحبة الله سبحانه لعباده المؤمنين إذا صفُّوا مواجهين لأعداء الله، يقاتلونهم في سبيله.

قال شيخ الإسلام: "والخير كل الخير في اتباع السلف الصالح، والاستكثار من معرفة حديث رسول الله، والتفقه فيه، والاعتصام بحبل الله، وملازمة ما يدعو إلى الجماعة والألفة، ومجانبة ما يدعو إلى الخلاف والفرقة، إلا أن يكون أمرًا بينًا قد أمر الله ورسوله فيه بأمر من المجانبة، فعلى الرأس والعين". مجموع فتاوى ابن تيمية 605/6.

فينبغي أن يلتقي المسلمون وينضم بعضهم إلى بعض ولا يتفرقوا، والأمر الذي يجتمعون حوله هو كتاب الله وسنة رسوله ، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: «ما من ثلاثةٍ في قريةٍ، ولا بدوٍ لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصيةَ من الغنم» (رواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح).

و عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: «تأخذ فوق يديه»، وفي رواية: «بأن ترده عن ظلمه، فإن ذلك نصره» (رواه البخاري، ومسلم).

وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "وأول مقصد للإسلام، ثم أَجَلُّهُ وأخطره: توحيد كلمة المسلمين، وجمع قلوبهم على غايةٍ واحدة؛ هي إعلاء كلمة الله، وتوحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية، والمعنى الروحي في هذا: اجتماعهم على الصلاة وتسوية صفوفهم فيها أولًا، كما قال رسول الله : «لتسونَّ صفوفَكُم أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم»، وهذا شيءٌ لا يدركه إلا من أنار الله بصيرته للفقه في الدين، والغوص على دُرره، والسمو إلى مداركه".

 

ولعل ما يزيد من أواصر الأخوة بين المسلمين، ارتفاع مؤشر الإيمان في قلوب المسلمين، لذلك فإن أصحاب النبي تركوا كل شيء لإخوانهم من المهاجرين، فهذا عبدالرحمن بن عوف يأتي من مكة ليس معه إلا إزاره، فيؤاخي النبي بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: «المؤمن مرآة المؤمن؛ والمؤمن أخو المؤمن: يَكُفُّ عليه ضيعَتَه، ويحوطُهُ من ورائه» (رواه أبو داود).

فاجتماع المسلمين إنما يكون على الاستعانة بالله، والوثوق به وعدم التفرُّق عنه، والاجتماع على التمسك بعهده على عباده، وهو الإيمان والطاعة، أو الكتاب والسنة، لأن من أطاع الرسول فبفرض الله ذلك في كتابه كما قال عز وجل: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ) النساء:80.

وقال سبحانه: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) آل عمران:105.

ينهى هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضية في تفرقهم واختلافهم، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم.

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثني أزهر بن عبد الله الهوزني عن أبي عامر عبد الله بن لحي قال : حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى [صلاة] الظهر فقال : إن رسول الله قال: إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله. والله -يا معشر العرب- لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم لغيركم من الناس أحرى ألا يقوم به.

وهكذا رواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى، كلاهما عن أبي المغيرة - واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي - به، وقد روي هذا الحديث من طرق.

وهذا الالتزام بالجماعة صفًا أخبر النبي عن علو شأن أصحابه، فقال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.

وما نال سلفنا الصالح في ماضيهم ما نالوه من عزٍ وشرف رفيع، بكثرة العدد أو العدة ولا بتجهيزات جيوشهم وتطورها، ولكن نالوا ذلك بالإيمان بالله والاجتماع على كلمة التوحيد، فهو العدة القوية، والسلاح القويم؛ وما زالوا حتى أصبحوا يدًا واحدة، ولسانًا واحدًا، وأطاحوا عروش كسرى وقيصر- ونشروا لواء العدل والمساواة في أرجاء المعمورة.

وإذا كانت الوحدة الإنسانية قائمة، فالناس جميعًا إخوة متحابون، وأعضاء متماسكون، يشتركون على البُعد والقُرب بالنسبة إلى الله، فهو خالقهم، وبالنسبة إلى أصلهم الأول، فهم أُولو أرحام، كلهم لآدمَ، وآدم من تراب، كما قال رسول الله : كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب.

ونهى الله في القرآن هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضية في تفرقهم واختلافهم، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) آل عمران:105.

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثني أزهر بن عبد الله الهوزني عن أبي عامر عبد الله بن لحي قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى [ صلاة ] الظهر فقال : إن رسول الله قال : " إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله. والله - يا معشر العرب - لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم لغيركم من الناس أحرى ألا يقوم به ".

وهكذا رواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى، كلاهما عن أبي المغيرة - واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي - به، وقد روي هذا الحديث من طرق.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا التفريق الذي حصل من الأمة -علمائها، ومشايخها، وكبرائها- هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) المائدة:14، وهكذا متى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء"، ولا بد.

وقال شيخ الإسلام أيضًا: وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا" مجموع الفتاوى 421/3.

والتاريخ يثبت هذا، فلما أقام النبي وأصحابه دولة الإسلام، وبدأت في هذه الجزيرة، ثم انطلقت لحمل الرسالة إلى الشعوب الأخرى، ضمت تحت لواء الإسلام كل الشعوب الأخرى بدون تمييز ولا تفريق، وآمنت بالدين الحنيف عن طواعية واختيار، ورغم التباين والاختلاف في العادات والثقافات واللغات والألوان، إلا أنها اتحدت في رباط الأخوة الإسلامية تحت راية التوحيد.

لقد جاء الإسلام وحارب العصبيات محاربة شديدة، قال النبي : ومن قاتل تحت راية عمية؛ يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل؛ فقتلة جاهلية، وقال النبي : يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، وقال : إن الله تعالى قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية، وفخرها بالآباء؛ مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن. رواه أبو داوود وحسنه الألباني.

ففي سورة الشورى ذكر الله أنه بعث الأنبياء بالاجتماع ووحدة الصف: (الصف: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ) الشورى:13.

قال البغوي رحمه الله: "بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة، وترك الفرقة والمخالفة"

والأمة محتاجة لوحدة الصف، وهذا أمر فطري تتعلق به أفئدة جميع المسلمين، وخاصة عندما يظهر تكالب الأعداء، وإذا كان الاجتماع ضروريًا في كل وقت وحين، فالأمة اليوم أحوج إليه بكثير من ذي قبل، فلا بد من معرفة الإجماع، واتباع سبيل المؤمنين، ثم لا بد من الاستبصار برأي أهل العلم والفقه والبصيرة، وأن نحافظ على صلاة الجماعة، البعد عن البغي والحسد والهوى، رفع لواء الأخوة، وبيان مكانة الأخوة، والمحافظة على صلة الرحم، والسعي إلى رأب الصدع، وتدارك الخلاف، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، وسائر إخواننا المسلمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply