بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لو جمعتَ ما كان يحرصُ عليه رسول الله ﷺ ويحرص عليه صحابتُه من الأعمال على اختلافها وتنوُّعها ستجدُ أمرا واحدا يجمعها كلّها: البقاء، يحرصون على ما يبقى لا على ما يفنى.
وهذا جعلهم أشد الناس حرصا على الطاعات وعلى الإخلاص فيها؛ لأنّ ما سواها فهو من زينة الحياة الدنيا وزهرتها، فهو مهما عظُم فانٍ بائد مُضمَحلٌ إلى زوال.
وكذلك الطاعةُ إذا أُريد بها الدنيا فهي من زينة الحياة الدنيا وهي فانية زائلة.
ومن هنا تفهم:
1- هذه النهي من الله لرسوله }وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأَبْقَى{ وقبْلَه أمره بطلب الزيادة مما يبقى فقال: }وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا .{
2- وتفهم أيضا لماذا لما قال الله في سورة الكهف }إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى ٱلأَرضِ زِینَة لَّهَا لِنَبلُوَهُم أَیُّهُم أَحسَنُ عَمَلا وَإِنَّا لَجَـٰعِلُونَ مَا عَلَیهَا صَعِیدا جُرُزًا{ يعني: سيهلك كل شيء ويفنى= سمّى العملَ الصالحَ في تلك السورة بـ (الباقيات الصالحات).
لأنه وحده الباقي النافع فقال }الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا.{
3- وفي سورة القصص قال للمفتونين بزينة الحياة الدنيا المُضيّعين للعمل الصالح: }وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ.{
وقال في ختامها: {وَلا تَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخر لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ}.
فلن يبقى إلا اللهُ وما ابتُغي به وجه اللهِ
فهذا الذي ينبغي أن يُطلب ويُبذل له أعلى الأسباب ويُفرَح به ويُحزن على فواته، وما سواه فلا يستحق.
وقديمًا -في الجاهلية- قالها الحارثُ بن عُباد:
كُلُّ شيء مصيرُه لزوالِ غيرَ ربّي وصالحِ الأعمال!
إذا عقلت هذا الأمر فانظر في حياتك وحياة الناس: كم يبذلون من التفكير والتخطيط والسعي والجلَد والأخذ بأعلى الأسباب لنَيْل الفاني البائد المُضمحل، وكم يُفرّطون في الباقي الخالِد!
نقدُ معنيين مشهورين في كثير من كتب الوعظ أو على ألسنة الخطباء وغيرهم وبينهما شيء من الاختلاف (التعارض):
الأول: قولهم (إذا استطعتَ ألا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعلْ).
والثاني: (يجب أن تُحب لإخوانِك أكثر مما تُحب لنفسك، وتُحب أن يكونوا فوقك...) ونحو ذلك ، وكلا المعنيين خطأ شرعًا وعقلًا وفِطرةً وواقعًا...
وهو من كلام بعض العُبّاد الذين لم يهتدوا بالوحي ولا بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، بل إما أنه من أنفسهم ابتداءً أو غلط في فهم بعض الآيات والأحاديث، فظنوا أن معنى (فاستبقوا) يقتضي الأول.
ومعنى (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يُحب لنفسه) يقتضي: أنه لو أحبّ له فوق ما يُحب لنفسه فهو الأكمل!
وكل ذلك فرعٌ عن أصل عظيم من الغلط في أي باب من أبواب الدين (الايمان/ العقيدة، أو الأحكام، أو الاستقامة/السلوك) وهو ترك الاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (جمعًا ونقدًا وتحريرًا وعملًا)
فوقع الغلط إما من جهة (ترك الاهتداء أصلًا)، أو من جهة: التقصير في جمع ما جاء في الباب، أو من جهة: ضعف النقد (من حيث الثبوت أو الدلالة)، أو من حيث ضعف العمل.
وهذا تفصيل الفكرة بتوسع (والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل).
نقدٌ للجملةِ المشهورة على ألسنة كثير من الوُعّاظ والناس (إذا استطعتَ ألا يسبقك إلى اللهِ أحدٌ =فافعلْ) وذِكرُ تطبيقاتٍ لها، وبعض آثارها السيئة وبيانُ الوجهِ الشرعي الصحيح لمعنى التسابق والمسارعة والتنافس الذي يجمعُ بين طلبِ معالي الأمور والاجتهاد وحُبِّ الخير للنفس، مع سلامةِ القلب من الحسد والشُّحّ.
الخلاصة للناس التي لا تحب قراءة المنشورات الطويلة تجدها في آخر الكلام...
أقولُ وبالله التوفيق: حديثي هنا عن الشخص الذي:
يُريدُ أن يكون هو (السابق)
يريد أن يكون هو (الأعلى)
يريد أن يكون هو (الأوّلَ) يريد أن يكون هو (المتبُوع) هو (الرأس) هو (صاحب الفِكرة) هو (المؤسس) هو (صاحب اللِّيلة) هو (المُتصدِّر)
وغيره يكون بَعده.... يكون اللاحقَ.... يكون دُونه.... تحته.... أقلَّ منه.... تابِعًا له.... ذَيْلًا له!
- هذا شخص علِم بأحد سُبل الخير التي فيها ثواب عظيم ونفع كبير لكنه أبَى المشاركةَ فيها والتعاونَ، ذلك لأنه سيكون تابعًا لغيره فيها.... سيكون تحتَه...مع أنّ غيره هذا أولى منه أو نظيرُه.... لكنه يستنكف أن يكون تابعًا لأحدٍ، يريد أن يكون هو الرأسَ المتبوعَ وغيرُه تبعا له!
إمّا أن يكون الرأس أو لا يُشارِك، إما أن يكون الرأس المتبوعَ أو (مِش لاعِب)!
- هذا رجلٌ ذهب إلى مكانٍ يدعو إلى الله ظنَّ أنه أولُ مَن يدعو فيه فعلِمَ أنّ غيره سبقه إلى هذا المكان ليدعو الناس =فحزِن أنه لم يكن أولَ من يجيء، وضايَقَه أنْ غيره من الدُّعاة سبقه!
- هذا رجلٌ قارئُ قرآنٍ مُتقنٌ، وصوتُه حسنٌ يغيظه أن يُذكَرَ أمامَه حافظٌ غيرُه ويُمدَح بقوةِ حفظٍ أو حُسنِ صوتٍ= فيَجِدُ في نفسه من ذلك!
- وهذا رجلٌ جَوادٌ مُتصدِّقٌ يَجِدُ في نفسه إذا علِم أنّ غيرَه يجود بأكثر منه في صنوف الخير... يُريد أن يكون هو أجودَ الناس وغيره أقلَّ منه!
- هذا واعظٌ زاهد يُذَكّر الناس يُضايقُه أن يُذكَر غيرُه من الوعّاظ ويُمدح بحُسن موعظته، أو يَكثُر الحضورُ في خُطبه ودروسِه، أو يتأثر الناس بموعظته ويعملون بها !
- هذا شخصٌ يكتب كلاما ويُعجَبُ الناسَ به وينتفعون لكن يُؤلمه أن يحصل أحدٌ على إعجابات أو مشاركات أو تعليقات أكثر منه!
- هذه امرأة تُحسن تربيةَ أبنائها يغيظها أن يتفوق أبناءٌ أكثر من أبنائها، أو يُمدَحُ أبناءٌ غير أبنائها بأدب أو خُلُقٍ أو تفوقٍ، أو تُمدَحَ أم غيرُها بتربيتها لأبنائها!
- هذا شخص يصوم يومين في الأسبوع، فعلم أن شخصًا يصوم يومًا ويفطر يومًا فضايقه أنه تفوق عليه!
- هذا شيخٌ مُعلِّمٌ وله أتباعٌ يبغض طالبًا من طلاب العلم، ولا يُعينه، هل لأنه طالب سيئُ الخلق أو بليد؟ لا بل هو حسن الخلق ونشيط... فقط هو يطلب العلم مع شيخ آخر، وصاحبُنا يريد أن يكون الشيخ الأوحد في ذلك المجال لا يُلتمس العلم إلا عنده!
- هذا شخص وجد مسجدًا يصلي قيام الليل وفيه طمأنينة والإمامُ متقن، وشعر بحضورٍ وراحة معه لكنه ذهب إلى مسجد آخر ليصلي هو إمامًا، فقط لأنه لا يقبل أن يكون مأمومًا!
وكحسدِ أحد ابني آدم لأخيه الذي تقبّل الله منه، ولم يتقبّل من الآخر.... فقتلَه، ونفس ما حصل لإخوة يوسف إذ قالوا }ليوسف وأخوه أحبُّ إلى أبينا منا...{ ثم بلغ بهم ذلك ليكيدوا له ويدبروا لقتله أو طرحه أرضًا ليخلو لهم وجه أبيهم وكذبوا على أبيهم وأرادوا خِداعه!
فمبدأُ ذلك وباعثُه النظرُ والمقارنة..
- أعرفُ أشخاصا تركوا أبوابَ خير كثيرة في طلب العلم والدعوة والتعليم وقيام رمضان ومساعدة المحتاجين وأعمال الخير فقط لكونهم ليسوا رؤوسا فيها سيكونون تابعين لأشخاصٍ، مع كون أولئك الأشخاص أهلا لها.... وهم يعلمُون أنهم أولى منهم وأحقُّ، لكنها الأنفةُ وإرادةُ العلو التي قد تتدرج مع الشخص حتى تصل إلى أن يُصرَف الإنسانُ بها عن الحق فيعمَى عنه أو يستنكِف أن يتبعه ويُذعن له، كاليهود الذين كانوا يتفاخرون على الأُمّيين من العرب بأن النبيَّ الخاتم سيكون منهم فلما خرج النبي الحقُ من الأُمّيين = حسدوا المؤمنين ووَدُوا ارتدادَهم.
وكذلك المتكبرون الذين تبيّن لهم الحق الذي جاء به الرسل فأبَوا وقالوا: }لن نُؤمن حتى نُؤتى مثلما أُوتي رُسلُ الله{وقالوا }أنسجُد لما تأمرُنا؟!{ونحو ذلك.
أبَوْا أن يكونوا تابعين في الحق فصاروا رؤوسا وأئمةً في الباطل!
بطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس قرينان.
ومن صور ذلك الدقيقةِ:
أن يُضايقني ما يُصيب غيري من خير أو سبْقٍ وأكره ذلك، وأريدُ أن أكون الأعلى والسابق والأول والمتبوع والرأس وهم دوني وتحتي وبعدي وتَبَعًا لي!
كل هذا وأمثالُه نقصٌ في العبد، ومن صور شُحِّ النفس والحسدِ، وهي نوعُ مرضٍ في القلب وقَلَّ من ينجو من ذلك، فهو يحتاج مجاهدةً عظيمةً للنفس ومُلاحظة وخبرة ودعاءً لله بالوقاية من شُح النفس.
الصورة الكاملة التي ينبغي أن يطلبها العبدُ:
أن تطلب الهدى وتجتهد في العمل الصالح وتفرحُ بما تنالُ من خير، وأن تُحب الخيرَ لإخوانك كما تحبه لنفسك، وأن ترجو لهم الخير، وتفرحَ بما يُصيبهم من خير، وتحزنُ لما يصيبهم من شر، ولا تراقبهم ولا تتربصُ بهم ولا تقصد بعملك ان تكون الأعلى، ولا تتعمّد أن تكون الرأسَ والمتبوعَ وهم تحتك ودُونَك وتابِعين لك، بل تتقي الله بما تستطيع دون ملاحظة غيرِك.
فهذا هو القلب المُجاهد السليم الذي وُقِي الشُّحَ، فالإنسان يطلب الخير ويطلب معالي الأمور وأعلى الدرجات دون ملاحظة غيره أو إرادة أن يكونوا تحته ودونه.
ما منا أحد إلا ويقع منه ذلك فينظر ويُقارن، لكن فرق بين:
- أن تعرف أنه نقصٌ وتسعى لدفعه ولا تعملُ بموجَبه.
- وبين أن تقبله من نفسك وتسترسل معه وتعمل بمقتضاه.
}ألّا يسبِقَك إلى الله أحدٌ!{
لاحظْ أن التركيز هنا ليس على طلبِ أعلى ما يُمكن لك من الخير، بل على مجرد ألا تُسبقَ!
فهي عبارة خطأ، والمعنى خطأ كذلك، والتركيز فيها ليس على نفسِك، بل على غيرك.
ومبناها على: النظر إلى الغير والمقارنة، والرضا عن النفس بقدر كونها الأعلى وغيرها دونها وتحتها.
والعبدُ ليس مأمورًا بالسبق، بل }اتقوا الله حق تقاته{ و}فاتقوا الله ما استطعتم{ ونحو ذلك وهو معنى }سارعوا{ }سابقوا{ }استبقوا{ }وفي ذلك فليتنافس المتنافسون{.
فالله لم يكلْفنا أن نسبق الناسَ، بل أن نجتهد في فعل الخير ونطلبه، أما التنافُسُ والتسابقُ المبنيانِ على قصد:
أن تكون أعلى من فلانٍ وهو تحتك ودُونك، أو تسبق فلانًا أو فلانًا من الناس، أو تكون الرأسَ المتبوع وهم تحتك ودُونك وأقلُّ منك.... وتنشغل بذلك، وتترقب، وتنتظرُ، وتُقارِن.
هذا النوع من التنافس هو نوعٌ من الحسد وشُحِّ النفس، وله سلبياتٌ كبيرة، من أهمها:
· أولًا:
هو نوعٌ من طلب العلو وإرادة أن يكون الناس تحتك ودونك، وحتى لو كان ذلك في أبواب الدين والعبادة = فهو نقصٌ ومن شُح النفس، وفرقٌ بين: المسارعة في الخيرات والاجتهاد في فعل البِر بما أستطيعُ بِغضِّ النظر عن كَوني الأعلى والأسبق والأفضل والرأس.... فهذا هو الكمالُ.
وبين إرادة العلو والرفعة على الناس وأن يكونوا أقل مني وتحتي ودوني وتابعين لي، فهذه إرادةٌ مذمومة، أنه من شأنه أن يجعلك تجاه من تنافسه: تُلاحظه وتركّز معه، بل أحيانًا تتربّص به، بل يجعلك تحزن بما يُحرزه من تفوّق، وتفرح إذا أخفق، ويُسعدك ما عنده من نقص.... وأن يكون في صدرك حاجةٌ مما أُوتي من الخير أو حصّل من الفضل.
ببساطة:
إذا تفوق أحدٌ عليك أو سبقك فهل هذا خيرٌ له أو شر؟
هو خير أصابَه بلا شك، فأنت كرهتَ سبْقَه لك وتميزَه عليك، وأحْزنَك ذلك، وهذا عينُ شحِّ النفس والحسدِ، ثم إنك لم تكن لتشعر بنقصك إلا عند المقارنة، لم تكن لتتألم لو لم تُلاحظْه، فصِرت ترتاحُ وتسعد لكونه أخفق، وتحزنُ لكونه تفوق.... هذه ليست منافسة بل هي عينُ الحسد وشُح النفس.
· ثانيًا: أن نفسَ مَن تريد سبْقهم ومنافستهم قد يكونون ضعفاء، فليس سبقُهم بالذي يُفرح به أصلا أو تُقاسُ به!
· ثالثًا: -وهو مهمٌ جدًا- أن الناس يختلفون اختلافات كثيرة من جهات مختلفة:
من حيث القدرات والمواهب والواقع والطموح، و نحو ذلك مما من شأنه أن يجعل كلّ شخص له من السعي وعليه من الواجبات ما لا يتطابق مع غيره من ذوي الهمم العالية،و يختلف بناءً على ذلك تقييمُه لنفسه.... ولهم.
}ومن يوُق شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون{.
}تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{.
قال ابن تيمية رحمه الله:
فكم ممّن يريد العُلوَ، ولا يزيده ذلك إلا سُفولًا، وكم ممن جُعل من الأعْليْن وهو لا يريد العلو ولا الفساد.
وذلك لأن إرادة العلو على الخلق: ظلمٌ، لأن الناس من جنسٍ واحد، فإرادةُ الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيرُه تحتَه ظلمٌ، ومع أنه ظلم: فالناسُ يبغضون من يكون كذلك ويُعادونه. انتهى.
قلتُ:
والفرحُ بمُصاب المؤمنين، وكراهةُ إنعام الله عليهم من أخصّ خصال المنافقين والكفار، كما في حال هؤلاء }وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا{.
}إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ{.
والصحيح -الله أعلم-:
في معنى (التنافس، والتسابق) في مثل قوله: }فاستبقوا الخيرات{و}وفي ذلك فليتنافس المتنافسون{ المُسارعة، يعني المقصود: }وسارِعوا{:
خلاصتُه:
}فاتقوا الله ما استطعتم{:
أن تختار من الخير وشعب الإيمان ما يناسبُك، فتعرف ماذا يجب عليك أنت ثم تجاهد نفسك على طلب معالي الأمور في ذلك المجال الذي اخترتَه لنفسك، وتحاسب نفسك بناءً على ذلك دون النظر إلى غيرك (إلا على سبيل الانتفاع والتشجيع والتقوِّي والتعاون والتحفيز، ورفع الهمة والفرح بتفوق أخيك المسلم).... ونحو ذلك...
وإذا فاتَك شيء من الخير تحزن على فواته لا تحزن لكون فلان يفعله أو حصّله، كما في هذا الحديث:
عن عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عبدالله بْنِ عُمَرَ إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ فَقَالَ يَا عبدالله بْنَ عُمَرَ أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ".فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ خَبَّابًا إلى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أَبِى هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ مَا قَالَتْ وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصَى الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا في يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ. فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى الذي كَانَ في يَدِهِ الأَرْضَ ثُمَّ قَالَ لَقَدْ فَرَّطْنَا في قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ. رواه مسلم في صحيحه.
فهنا حزن ابنُ عمر على ما فاته من قراريط الثواب، فهو لم يحزن لكون الصحابةِ العالِمين بذلك حصّلوا ثوابًا لم يُحصله، بل لفوات ذلك فحسب.
ولو كان الذي أحْزَنَه هو سبقُ إخوانه له، وفعلُهم ما لم يفعل، وتحصيلُهم للأجر = فهذا من الحسد وشُح النفس.
إذا فقِهتَ ذلك المعنى الدقيق وجاهدتَ نفسك عليه:
- حينها إن شاء الله سيكون ذلك نموذجًا تطبيقيًا لهذا المعنى: }واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي..{ }وسارِعوا{.
و}يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أُوتوا ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون{.
- حينها ستسعدُ جدا بتفوّق إخوانك.
- حينها لن تستنكف من الانتفاع منهم ولا من سؤالهم، وتعترف بفضلهم، وتفرح بما يصيبهم من خير. وتفرح بما يُمدحون به مما يستحقون.
- ولن تأنف من أن تكون تابعًا لغيرك في الخير والحق:
كما هو حالُ ذلك العبد *طُوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله أشعثٍ رأسُه مغبرَّة قدماه، إن كان في الحراسة = كان في الحراسة، وإن كان في الساقة= كان في الساقة*.
هو في خير دائمًا، ليس مُنشغلًا إلا بذلك لا يهمه أن يكون رأسًا أو تابعًا.
- حينها لن يبقى للشيطان عليك سلطانًا تجاه أخيك.
- حينها }فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.... وما يُلقّاها إلا الذين صبروا...{.
- حينها لن تبالي إذا ظهر الحق بك أو بغيرك.... المهم أنه ظهر.
بل حينها بالتحديد -واللهِ- ستشعرُ أن تفوقَه = تفوقُك. وإخفاقَه= إخفاقُك.
حينها ستُمارسُ:
(أن تحبّ لأخيك ما تحب لنفسك).
أما أن تريد أن يكون لك مثلُ ما لفلان من الخير دون أن يزول ذلك عنه كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلِّمها"، فهذا جائزٌ مباحٌ لكنه ليس الأكمل، بل الأكملُ أن تطلب الخير وتجتهد في طلبه وتريدُ إنعام الله عليك دون التفاتٍ إلى غيرك، ودون مقارنة وإرادةِ سبْقٍ أو طلب عُلُو، واكملُ منه أن تحب لهم ما تُحب لنفسك من الخير.
فالإنسانُ زكيُّ النفس إذا وُفّق أو هُدي إلى أي خيرٍ فإنّه يودُّ لو هُدِي إليه كلُّ إخوانه.... بل يسعى لذلك.... ويفرح به...
أمّا شحيحُ النفس فإنه حريص على كتم مثل ذلك.... بخيلٌ به.... يُحزنُه أن يُشاركه أحدٌ في مثل ذلك.... ويضيق صدره بما يصيب إخوانه من الخير ويُوفَّقون إليه.
هؤلاء لا يفلحون...
يُحبُّون مَن هاجر إليهم …الإنسان صاحبُ القضيّة زكيُّ النفس، مُحبُّ الخير، ينظر إلى الشخص المُتميّز الذي دخل معه في العمل على أنّه:
مُعين، وسنَد، مُكمّل:
فيفرح به، ويُشجعه ويمدّ يده إليه ليتعاونا على ذلك الهدف، بل هو مَن يبحث عن المتميّزين ويدعوهم إلى العمل، ويُرشحُهم، قال النبي الكريم موسى عليه السلام:
}وأخي هارونُ هو أفصح مني لسانًا، فأرسله معي ردءا يصدّقني{.
}اجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري كي…{
}والذينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{.
أما مريض النفس شحيحُها، مُريد العُلو، الذي لا يحركه هدفٌ شريف، ويتعامل بمنطق التاجر الذي يخشى أن يأخذ منافسُه نصيبَه =ينظر إلى ذلك المتميّز على أنه:
عدو له، مُنافس، فينتقصه، ويحاول أن يُبعده بما استطاع، ويتربّص به!
ببساطة:
تخيل أنك في سباق ١٠٠ متر، فالمطلوب منك أن تبلغ المسافةَ في أقل وقت ممكن لك بغضّ النظر: هل معك أحدٌ في السباق أم وحدك؟
هل هم تحتك؟
هل هم فوقك؟
هل هم في مستواك؟
أنت فقط في الحارة المخصصة لك تبذل ما تستطيع دون أن تلتفت إلى غيرك وتلاحظه وتراقب وتسعد لكونه تحتك وأنت فوقه، وتحزن لكونه فوقك وأنت تحته، فالأقران المتميزون من حولك ليس لتحسدهم أو لتكون نسخةً منهم -فالناس مواهب وقدرات- فقط هم وقودٌ لك وعَون، ولهذا فإن من نعيم أهل الجنة }ونزعنا ما في صدورهم من غل{.
ومن دعاء المؤمنين التابعين ما غفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين أمنوا.
الخلاصة فكرتانِ:
١- أن تتقي الله بما تستطيع دون ملاحظة غيرك دون أن تتعمد أو تقصد أن تكون الأعلى وغيرُك يكون تحتك ودونك. بل تفرح به وتحب له ما تحب لنفسك من الخير.
٢- وألا يمنعك كونُك لست رأسًا في أمرٍ من أمور الخير أن تكون تابعًا لغيرك فيه: }للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ.{
}وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{.
}وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ.{
وقال رسول الله ﷺ: "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
والمعنى الثاني:
منقول عن ابن رجب الحنبلي رحمه الله، وهو نقله عن بعض العُبّاد رحمهم الله.
قال ابن رجب (فمن كان لا يرضى عن نفسه؛ فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله مع نصحه لهم؟ بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا خيرًا منه، ويحب لنفسه أن يكون خيرًا مما هو عليه).
في رأيي أن هذا ليس دقيقًا:
وأنه مأخوذ من غير الوحي بل من كلام بعض العُبّاد الذين جاوزوا الحد الشرعي بل والفِطري في هذا الأمر وفي غيره ووضعوا منهاجا للولاية وتزكية النفس، مع كونه ليس مأخوذا من الوحي وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، فهو كذلك شاق وصعب، وهو يُصعّب على المسلمين طريق الولاية، مع كونِ من اخترعه يدّعي أنه كمالُ الولاية وأعلى المنازل، ورُبّما جعل ما دونه ليس شيئا! كما وقع فيه كثيرون من أمثال (الفُضيل والتستري والجنيد رحمهم الله وغيرهم) وابنُ رجب رحمه الله ليس مُحرّرا في هذا الباب بل هو جامعٌ، وإن كان في بعض الأحيان يُحرر ويأتي بفوائد، لكنه بشكل عام كثيرا لا يُحرر محل البحث وظهر ذلك كثيرا في شرحه لعلل الترمذي... ومسائل أخرى.
والكلام هنا فيه خلطٌ:
ولم يذكر عليه حجة في موضع البحث: وهو (أن تحب لهم أكثر ما تحب لنفسك، أو أن تحب أن يكونوا فوقك، أو أنك إذا لم تصل إلى ذلك، فإنك لم تصنع شيئًا.... أو نحو ذلك من كلام بعض العُباد الذين لا يُراعوا صحة المعنى ولا دقة العبارة.
فأولًا: القرآن جاء بمدح من لم يكن في صدره حاجة مما أُوتي إخوانه من الخير (أي خير).
وهذا مقتضاه: ألا يجد الإنسان في نفسه شيئا مما ناله إخوانه من خير وإن كانوا فوقه، وإن كانوا سبقوه إليه... وهكذا... لأنه يحب ذلك فيُحب لهم أن يكونوا فوقه وهو تحتهم.
والأدلة كثيرة في معاني: حب الخير للمؤمنين، والشهادة لهم بذلك والتعاون معهم وتقديمُهم فيما هم مُقدّمون عليه فيه، وكل هذا صحيح عظيم موافق للوحي والعقل والفطرة وممكن ومقدور.
أما فكرة أن تحب لهم أكثر من نفسك، أو تحب أن يكونوا فوقك وأنت تحتهم، كل هذه المعاني لم يثبت بها نصٌ ولا تصرُّفٌ نبوي ولا من الصحابة، بل هو معنى مُحدَث مما أحدثه بعضُ العُبّاد من أنفسهم أو خطأ منهم في فهم الشرع فظنوا أنه إذا كان لا يؤمن المؤمن حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، فأكملُ منه: أن يحب لهم أكثر ما يُحب لنفسه!
وهذا من أعظم أصول الغلط عندهم سواء في باب العبادة أو أعمال القلوب أو غيره، وأصلُه واحد، وهذا بالتحديد ما اشتد غضبُ النبي صلى الله عليه وسلم فيه وقال: "فمن رغب عن سنتي فليس مني"، وبيّن سُنته وبيّن أنها أكملُ ما يُتقى اللهُ به، وكل طريق آخر فهو رغبة عن سنته وليس خيرًا، وإن بدا أنه أكمل، بل هو بدعة مع كونه مخالف للفطرة، ويصيب النفس بالعَنت وفيه آثار سيئة كثيرة، وهذا موضع نفيسٌ جدًا وطويل لابن تيمية رحمه الله في كتاب أمراض القلوب وشفاؤها يُفصّل هذه المسألة ويُزيل عنها المفهوم الخطأ فيقول:
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَلَفظه لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَيْنِ رجل آتَاهُ الله القرآن فَهُوَ يتلوه اللَّيْل وَالنَّهَار فَسَمعهُ رجل فَقَالَ يَا لَيْتَني أُوتيت مثل مَا أُوتِيَ هَذَا فَعمِلت فِيهِ مثل مَا يعْمل هَذَا وَرجل آتَاهُ الله مَالا فَهُوَ يهلكه فِي الْحق فَقَالَ رجل يَا لَيْتَني أُوتيت مثل مَا أُوتِيَ هَذَا فَعمِلت فِيهِ مثل مَا يعْمل هَذَا فَهَذَا الْحَسَد الَّذِي نهى عَنهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا فِي موضِعين هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ أُولَئِكَ الْغِبْطَة وَهُوَ أَن يحب مثل حَال الْغَيْر وَيكرهُ أَن يفضل عَلَيْهِ فَإِن قيل إِذا لم سمي حسدا وَإِنَّمَا أحب أَن ينعم الله عَلَيْهِ قيل مبدأ هَذَا الْحبّ هونظره إلى إنعامه على الْغَيْر وكراهته أَن يفضل عَلَيْهِ وَلَوْلَا وجود ذَلِك الْغَيْر لم يحب ذَلِك فَلَمَّا كَانَ مبدأ ذَلِك كَرَاهَته أَن يفضل عَلَيْهِ الْغَيْر كَانَ حسدا لِأَنَّهُ كَرَاهَة تتبعها محبَّة وَأما من أحب أَن ينعم الله عَلَيْهِ مَعَ عدم التفاته إلى أَحْوَال النَّاس فَهَذَا لَيْسَ عِنْده من الْحَسَد شَيْء وَلِهَذَا يبتلى غَالب النَّاس بِهَذَا الْقسم الثَّانِي وَقد يُسمى المنافسة فيتنافس الإثنان فِي الْأَمر المحبوب الْمَطْلُوب كِلَاهُمَا يطْلب أَن يَأْخُذهُ وَذَلِكَ لكراهية أَحدهمَا أَن يتفضل عَلَيْهِ الآخر كَمَا يكره المستبقان كل مِنْهُمَا أَن يسْبقهُ الآخر والتنافس لَيْسَ مذموما مُطلقًا بل هُوَ مَحْمُود فِي الْخَيْر قَالَ تعالى -المطففين- }إِن الْأَبْرَار لفي نعيم على الأرائك ينظرُونَ تعرف فِي وجوهم نَضرة النَّعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ{ فَأمر المنافس أَن ينافس فِي هَذَا النَّعيم لَا ينافس فِي نعيم الدُّنْيَا الزائل وَهَذَا مُوَافق لحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ نهى عَن الْحَسَد إِلَّا فِيمَن أُوتِيَ الْعلم فَهُوَ يعْمل بِهِ ويعلمه وَمن أُوتى المَال فَهُوَ يُنْفِقهُ فَأَما من أُوتِيَ علما وَلم يعْمل بِهِ وَلم يُعلمهُ أَو أُوتِيَ مَالا وَلم يُنْفِقهُ فِي طَاعَة الله فَهَذَا لَا يحْسد وَلَا يتَمَنَّى مثل حَاله فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي خير يرغب فِيهِ بل هُوَ معرض للعذاب وَمن ولي ولَايَة فيأتيها بِعلم وَعدل وَأدّى الْأَمَانَات إلى أَهلهَا وَحكم بَين النَّاس بِالْكتاب وَالسّنة فَهَذَا دَرَجَته عَظِيمَة لَكِن هَذَا فِي جِهَاد عَظِيم كَذَلِك الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله والنفوس لَا تحسد من هُوَ فِي تَعب عَظِيم فَلهَذَا لم يذكرهُ وَإِن كَانَ الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله أفضل من الَّذِي ينْفق المَال بِخِلَاف الْمُنفق والمعلم فَإِن هذَيْن لَيْسَ لَهما فِي الْعَادة عَدو من خَارج فَإِن قدر أَنَّهُمَا لَهما عَدو يجاهدانه فَذَلِك أفضل لدرجتهما وَكَذَلِكَ لم يذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمصلى والصائم والحاج.
لِأَن هَذِه الْأَعْمَال لَا يحصل مِنْهَا فِي الْعَادة من نفع النَّاس الَّذِي يعظمون بِهِ الشَّخْص ويسودونه مَا يحصل بالتعليم والإنفاق والحسد فِي الأَصْل إِنَّمَا يَقع لما يحصل للْغَيْر من السؤدد والرياسة وَإِلَّا فالعامل لَا يحْسد فِي الْعَادة وَلَو كَانَ تنعمه بِالْأَكْلِ وَالشرب وَالنِّكَاح أَكثر من غَيره بِخِلَاف هذَيْن النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُمَا يحسدان كثيرا وَلِهَذَا يُوجد بَين أهل الْعلم الَّذين لَهُم اتِّبَاع من الْحَسَد مَالا يُوجد فِيمَن لَيْسَ كَذَلِك وَكَذَلِكَ فِيمَن لَهُ أَتبَاع بِسَبَب إِنْفَاق مَاله فَهَذَا ينفع النَّاس بقوت الْقُلُوب وَهَذَا يَنْفَعهُمْ بقوت الْأَبدَان وَالنَّاس كلهم محتاجون إلى مَا يصلحهم من هَذَا وَهَذَا وَلِهَذَا ضرب الله سُبْحَانَهُ مثلين مثلا بِهَذَا فَقَالَ -النَّحْل- }ضرب الله مثلا عبدا مَمْلُوكا لَا يقدر على شَيْء وَمن رزقناه منا رزقا حسنا فَهُوَ ينْفق مِنْهُ سرا وجهرا هَل يستون الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ وَضرب الله مثلا رجلَيْنِ أَحدهمَا أبكم لَا يقدر على شَيْء وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يوجهه لَا يَأْتِ بِخَير هَل يستوى هُوَ وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ وَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم{ والمثلان ضربهما الله سُبْحَانَهُ لنَفسِهِ المقدسة وَلما يعبد من دونه فَإِن الْأَوْثَان لَا تقدر لَا على عمل ينفع وَلَا على كَلَام ينفع فَإِذا قدر عبد مَمْلُوك لَا يقدر على شَيْء وَآخر قد رزقه الله رزقا حسنا فَهُوَ ينْفق مِنْهُ سرا وجهرا هَل يَسْتَوِي هَذَا الْمَمْلُوك الْعَاجِز عَن الْإِحْسَان وَهَذَا الْقَادِر على الاحسان المحسن إلى النَّاس سرا وجهرا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادر على الْإِحْسَان إلى عباده وَهُوَ محسن إِلَيْهِم دائمًا فَكيف يشبه بِهِ الْعَاجِز الْمَمْلُوك الَّذِي لَا يقدر على شَيْء حَتَّى يُشْرك بِهِ مَعَه وَهَذَا مثل الَّذِي اعطاه الله مَالا فَهُوَ ينْفق مِنْهُ آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار والمثل الثَّانِي إِذا قدر شخصان أَحدهمَا أبكم لَا يعقل وَلَا يتَكَلَّم وَلَا يقدر على شَيْء وَهُوَ مَعَ هَذَا كل على مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يوجهه لَا يَأْتِ بِخَير فَلَيْسَ فِيهِ من نفع قطّ بل هُوَ كل على من يتَوَلَّى أمره وَآخر عَالم عَادل يَأْمر بِالْعَدْلِ وَيعْمل بِالْعَدْلِ فَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم وَهَذَا نَظِير الَّذِي أعطَاهُ الله الْحِكْمَة فَهُوَ يعْمل بهَا وَيعلمهَا للنَّاس وَقد ضرب ذَلِك مثلا لنَفسِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالم عَادل قَادر يَأْمر بِالْعَدْلِ وَهُوَ قَائِم بِالْقِسْطِ على صِرَاط مُسْتَقِيم كَمَا قَالَ تعالى آل عمرَان شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم قَائِما بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم وَقَالَ هود }إِن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم{ وَلِهَذَا كَانَ النَّاس يعظمون دَار الْعَبَّاس كَانَ عبدالله يعلم النَّاس وَأَخُوهُ يطعم النَّاس فَكَانُوا يعظمون على ذَلِك وَرَأى مُعَاوِيَة النَّاس يسْأَلُون ابْن عمر عَن الْمَنَاسِك وَهُوَ يفتيهم فَقَالَ هَذَا وَالله الشّرف أَو نَحْو ذَلِك هَذَا وَعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ نافس أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ الْإِنْفَاق كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نتصدق فَوَافَقَ ذَلِك مَالا عِنْدِي فَقلت الْيَوْم أسبق أَبَا بكر إِن سبقته يَوْمًا قَالَ فَجئْت بِنصْف مَالِي قَالَ فَقَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أبقيت لأهْلك قلت مثله وأتى أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ بِكُل مَا عِنْده فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "مَا أبقيت لأهْلك قَالَ أبقيت لَهُم الله وَرَسُوله فَقلت لَا أسابقك إلى شَيْء أبدا" فَكَانَ مَا فعله عمر من المنافسة وَالْغِبْطَة الْمُبَاحَة لَكِن حَال الصّديق رَضِي الله عَنهُ أفضل مِنْهُ وَهُوَ خَال من المنافسة مُطلقًا لَا ينظر إلى حَال غَيره وَكَذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السلام فِي حَدِيث الْمِعْرَاج حصل لَهُ مُنَافَسَة وغبطة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَكَى لما تجاوزه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقيل لَهُ مَا يبكيك فَقَالَ أبْكِي لِأَن غُلَاما بعث بعدِي يدْخل الْجنَّة من أمته أَكثر مِمَّن يدخلهَا من أمتِي أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وروى فِي بعض الْأَلْفَاظ المروية غير الصَّحِيح مَرَرْنَا على رجل وَهُوَ يَقُول وَيرْفَع صَوته أكرمته وفضلته قَالَ فرفعنا إِلَيْهِ فسلمنا عَلَيْهِ فَرد السَّلَام فَقَالَ من هَذَا مَعَك يَا جِبْرِيل قَالَ هَذَا أَحْمد قَالَ مرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّي الَّذِي بلغ رِسَالَة ربه ونصح لأمته قَالَ ثمَّ اندفعنا فَقلت من هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ هَذَا مُوسَى بن عمرَان قلت وَمن يُعَاتب قَالَ يُعَاتب ربه فِيك قلت وَيرْفَع صَوته على ربه قَالَ إِن الله عز وَجل قد عرف صدقه وَعمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ مشبها بمُوسَى وَنَبِينَا حَاله أفضل من حَال مُوسَى فَإِنَّهُ لم يكن عِنْده شَيْء من ذَلِك وَكَذَلِكَ كَانَ فِي الصَّحَابَة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح وَنَحْوه كَانُوا سَالِمين من جَمِيع هَذِه الْأُمُور فَكَانُوا أرفع دَرَجَة مِمَّن عِنْده مُنَافَسَة وغبطة وَإِن كَانَ ذَلِك مُبَاحا وَلِهَذَا اسْتحق أَبُو عُبَيْدَة رَضِي الله عَنهُ أَن يكون أَمِين هَذِه الْأمة فَإِن المؤتمن إِذا لم يكن فِي نَفسه مزاحمة على شَيْء مِمَّا ائْتمن عَلَيْهِ كَانَ أَحَق بالأمانة مِمَّن يخَاف مزاحمته وَلِهَذَا يؤتمن على النِّسَاء وَالصبيان الخصيان ويؤتمن على الْولَايَة الصُّغْرَى من يعرف أَنه لَا يزاحم على الْكُبْرَى ويؤتمن على المَال من يعرف أَنه لَيْسَ لَهُ غَرَض فِي أَخذ شَيْء مِنْهُ وَإِذا ائْتمن من فِي نَفسه خِيَانَة شبه بالذئب المؤتمن على الْغنم فَلَا يقدر أَن يُؤَدِّي الْأَمَانَة فِي ذَلِك لما فِي نَفسه من الطّلب لما ائمتن عَلَيْهِ وَفِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كُنَّا يَوْمًا جَلَسُوا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يطلع عَلَيْكُم الْآن من هَذَا الْفَج رجل من أهل الْجنَّة قَالَ فطلع رجل من الْأَنْصَار تنطف لحيته من وضوء قد علق نَعْلَيْه فِي يَده الشمَال فَسلم فَلَمَّا كَانَ الْغَد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل ذَلِك فطلع ذَلِك الرجل على مثل حَاله فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومقالته فطلع ذَلِك الرجل على مثل حَاله فَلَمَّا قَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتبعهُ عبدالله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ إِنِّي لاحيت أبي فأقسمت أَن لَا أَدخل عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِن رَأَيْت أَن تؤويني إِلَيْك حَتَّى تمْضِي الثَّلَاث فعلت قَالَ نعم قَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ فَكَانَ عبدالله يحدث أَنه بَات عِنْده ثَلَاث لَيَال فَلم يره يقوم من اللَّيْل شَيْئا غير انه إِذا تعار وانقلب على فرَاشه ذكر الله عز وَجل وَكبر حَتَّى يقوم إلى صَلَاة الْفجْر فَقَالَ عبدالله غير أَنِّي لم اسْمَعْهُ يَقُول إِلَّا خيرا فَلَمَّا فَرغْنَا من الثَّلَاث وكدت أَن أَحْقَر عمله قلت يَا عبدالله لم يكن بيني وَبَين وَالِدي غضب وَلَا هِجْرَة وَلَكِن سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ثَلَاث مَرَّات يطلع عَلَيْكُم رجل من أهل الْجنَّة فطلعت أَنْت الثَّلَاث المرات فَأَرَدْت أَن آوى إِلَيْك لأنظر مَا عَمَلك فأقتدي بذلك فَلم أرك تعْمل كثير عمل فَمَا الَّذِي بلغ بك مَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْت غير أنني لَا أجد على أحد من الْمُسلمين فِي نَفسِي غشا وَلَا حسدا على خير أعطَاهُ الله إِيَّاه" قَالَ عبدالله هَذِه الَّتِي بلغت بك وَهِي الَّتِي لَا نطيق فَقَوْل عبدالله بن عَمْرو لَهُ هَذِه الَّتِي بلغت بك وَهِي الَّتِي لَا نطيق يُشِير إلى خلوه وسلامته من جَمِيع أَنْوَاع الْحَسَد وَبِهَذَا أثنى الله تعالى على الْأَنْصَار فَقَالَ -الْحَشْر- }وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة{ أَي مِمَّا أُوتِيَ إخْوَانهمْ الْمُهَاجِرُونَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَا يَجدونَ فِي صدروهم حَاجَة أَي حسدا وغيظا مِمَّا أُوتِيَ الْمُهَاجِرُونَ ثمَّ قَالَ بَعضهم من مَال الْفَيْء وَقيل من الْفضل والتقدم فهم لَا يَجدونَ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا من المَال وَلَا من الجاه والحسد يَقع على هَذَا وَكَانَ بَين الْأَوْس والخزرج مُنَافَسَة على الدّين فَكَانَ هَؤُلَاءِ إِذا فعلوا مَا يفضلون بِهِ عِنْد الله وَرَسُوله أحب الْآخرُونَ ان يَفْعَلُوا نَظِير ذَلِك فَهُوَ مُنَافَسَة فِيمَا يقربهُمْ إلى الله كَمَا قَالَ -المطففين- }وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ{ وَأما الْحَسَد المذموم كُله فقد قَالَ تعالى فِي حق الْيَهُود -الْبَقَرَة- }ود كثير من أهل الْكتاب لَو يردونكم من بعد إيمَانكُمْ كفَّارًا حسدا من عِنْد أنفسهم من بعد مَا تبين لَهُم الْحق يودون{.. أَي يتمنون أرتدادكم حسدًا فَجعل الْحَسَد هُوَ الْمُوجب لذَلِك الود من بعد مَا تبين لَهُم الْحق لأَنهم لما رَأَوْا أَنكُمْ قد حصل لكم من النِّعْمَة مَا حصل بل مالم يحصل لَهُم مثله حسدوكم وَكَذَلِكَ فِي الآية الْأُخْرَى -النِّسَاء- }أم يحسدون النَّاس على مَا آتَاهُم الله من فَضله فقد آتَيْنَا آل إِبْرَاهِيم الْكتاب وَالْحكمَة وآتيناهم ملكا عَظِيما فَمنهمْ من آمن بِهِ وَمِنْهُم من صد عَنهُ وَكفى بجهنم سعيرا{ وَقَالَ تعالى: }قل أعوذ بِرَبّ الفلق من شَرّ مَا خلق وَمن شَرّ غَاسِق إِذا وَقب وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد{ وَقد ذكر طَائِفَة من الْمُفَسّرين أَنَّهَا نزلت بسب حسد الْيَهُود للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى سحروه سحره لبيد بن الأعصم الْيَهُودِيّ فالحاسد الْمُبْغض للنعمة على من أنعم الله عَلَيْهِ بهَا ظَالِم مُعْتَد والكاره لتفضيله الْمُحب لمماثلته مَنْهِيّ عَن ذَلِك إِلَّا فِيمَا يقربهُ إلى الله فَإِذا أحب أَن يعْطى مثل مَا أعْطى مِمَّا يقربهُ إلى الله فَهَذَا لَا بَأْس بِهِ وإعراض قلبه عَن هَذَا بِحَيْثُ لَا ينظر إلى حَال الْغَيْر أفضل ثمَّ هَذَا الْحَسَد إِن عمل بِمُوجبِه صَاحبه كَانَ ظَالِما معتديا مُسْتَحقّا للعقوبة إِلَّا أَن يَتُوب وَكَانَ الْمَحْسُود مَظْلُوما مَأْمُورا بِالصبرِ وَالتَّقوى فيصبر على أَذَى الْحَاسِد وَيَعْفُو ويصفح عَنهُ كَمَا قَالَ تعالى: -الْبَقَرَة- }ود كثير من أهل الْكتاب لَو يردونكم من بعد إيمَانكُمْ كفَّارًا حسدا من عِنْد أنفسهم من بعد مَا تبين لَهُم الْحق فاعفوا واصحفوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره{ وَقد ابتلى يُوسُف بحسد إخْوَة لَهُ حَيْثُ قَالُوا يُوسُف ليوسف وَأَخُوهُ أحب إلى أَبينَا منا وَنحن عصبَة إِن أَبَانَا لفي ضلال مُبين فحسدوهما على تَفْضِيل الْأَب لَهما وَلِهَذَا قَالَ يَعْقُوب ليوسف }لَا تقصص رُؤْيَاك على إخْوَتك فيكيدوا لَك كيدا إِن الشَّيْطَان للْإنْسَان عَدو مُبين{ ثمَّ إِنَّهُم ظلموه بتكلمهم فِي قَتله وإلقائه فِي الْجب وَبيعه رَقِيقا لمن ذهب بِهِ إلى بِلَاد الْكفْر فَصَارَ مَمْلُوكا لقوم كفار ثمَّ إِن يُوسُف ابتلى بعد أَن ظلم بِمن يَدعُوهُ إلى الْفَاحِشَة ويراوده عَلَيْهَا ويستعين عَلَيْهِ بِمن يُعينهُ على ذَلِك فاستعصم وَاخْتَارَ السجْن على الْفَاحِشَة وآثر عَذَاب الدُّنْيَا على سخط الله فَكَانَ مَظْلُوما من جِهَة من أحبه لهواه وغرضه مفاسد فَهَذِهِ الْمحبَّة أحبته لهوى محبوبها شفاؤها وشقاؤها إِن وافقها وَأُولَئِكَ المبغضون ابغضوه بغضة أوجبت أَن يصير ملقى فِي الْجب ثمَّ أَسِيرًا مَمْلُوكا بِغَيْر اخْتِيَاره فَأُولَئِك أَخْرجُوهُ من انطلاق الْحُرِّيَّة إلى رق الْعُبُودِيَّة الْبَاطِلَة بِغَيْر اخْتِيَاره وَهَذِه ألجأته إلى أَن اخْتَار أَن يكون مَحْبُوسًا مسجونًا بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَت هَذِه أعظم فِي محنته وَكَانَ صبره هُنَا اختياريا اقْترن بِهِ التَّقْوَى بِخِلَاف صبره على ظلمهم فَإِن ذَلِك كَانَ من بَاب المصائب الَّتِي من لم يصبر عَلَيْهَا صَبر الْكِرَام سلا سلو الْبَهَائِم وَالصَّبْر الثَّانِي أفضل الصبرين وَلِهَذَا قَالَ يُوسُف إِنَّه من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ وَهَكَذَا إِذا أوذي الْمُؤمن على إيمَانه وَطلب مِنْهُ الْكفْر أَو الفسوق أَو الْعِصْيَان وَإِن لم يفعل أوذي وعوقب فَاخْتَارَ الْأَذَى والعقوبة على فِرَاق دينه إِمَّا الْحَبْس وَإِمَّا الْخُرُوج من بَلَده كَمَا جرى للمهاجرين حِين اخْتَارُوا فِرَاق الأوطان على فِرَاق الدّين وَكَانُوا يُعَذبُونَ يُؤْذونَ وَقد أوذي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأنواع من الْأَذَى فَكَانَ يصبر عَلَيْهَا صبرا اختياريا فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُؤْذِي لِئَلَّا يفعل مَا يَفْعَله بِاخْتِيَارِهِ وَكَانَ هَذَا أعظم من صَبر يُوسُف لِأَن يُوسُف إِنَّمَا طلب مِنْهُ الْفَاحِشَة وَإِنَّمَا عُوقِبَ إِذا لم يفعل بِالْحَبْسِ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه طلب مِنْهُم الْكفْر وَإِذا لم يَفْعَلُوا طلبت عقوبتهم بِالْقَتْلِ فَمَا دونه وأهون مَا عُوقِبَ بِهِ الْحَبْس فَإِن الْمُشْركين حبسوه وَبني هَاشم بِالشعبِ مُدَّة ثمَّ لما مَاتَ أَبُو طَالب اشتدوا عَلَيْهِ فَلَمَّا بَايَعت الْأَنْصَار وَعرفُوا بذلك صَارُوا يقصدون مَنعه من الْخُرُوج ويحبسونه هُوَ وَأَصْحَابه عَن ذَلِك وَلم يكن أحد يُهَاجر إِلَّا سرا إِلَّا عمر بن الْخطاب وَنَحْوه فَكَانُوا قد الجأوهم إلى الْخُرُوج من دِيَارهمْ وَمَعَ هَذَا منعُوا من منعُوهُ مِنْهُم عَن ذَلِك وحبسوه فَكَانَ مَا حصل للْمُؤْمِنين من الْأَذَى والمصائب هُوَ باختيارهم طَاعَة لله وَرَسُوله لم يكن من المصائب السماوية الَّتِي تجْرِي بِدُونِ اخْتِيَار العَبْد من جنس حبس يُوسُف لَا من جنس التَّفْرِيق بَينه وَبَين أَبِيه وَهَذَا أشرف النَّوْعَيْنِ وَأَهْلهَا اعظم بِدَرَجَة وَإِن كَانَ صَاحب المصائب يُثَاب على صبره وَرضَاهُ وتكفر عَنهُ الذُّنُوب بمصائبه فَإِن هَذَا أُصِيب وأوذي بِاخْتِيَارِهِ طَاعَة لله يُثَاب على نفس المصائب وَيكْتب لَهُ بهَا عمل صَالح قَالَ تعالى التَّوْبَة}ذَلِك بِأَنَّهُم لَا يصيبهم ظمأ وَلَا نصب وَلَا مَخْمَصَة فِي سَبِيل الله وَلَا يطئون موطئا يغِيظ الْكفَّار وَلَا ينالون من عَدو نيلا إِلَّا كتب لَهُم بِهِ عمل صَالح إِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ بِخِلَاف المصائب الَّتِي تجْرِي بِلَا اخْتِيَار العَبْد كالمرض وَمَوْت الْعَزِيز عَلَيْهِ وَأخذ اللُّصُوص مَاله فَإِن تِلْكَ إِنَّمَا يُثَاب على الصَّبْر عَلَيْهَا لَا على نفس مَا يحدث من الْمُصِيبَة وَمَا يتَوَلَّد عَنْهَا وَالَّذين يُؤْذونَ على الايمان وَطَاعَة الله وَرَسُوله وَيحدث لَهُم بِسَبَب ذَلِك حرج أَو مرض أَو حبس أَو فِرَاق وَطن وَذَهَاب مَال وَأهل أَو ضرب أَو شتم أَو نقص رياسة وَمَال وهم فِي ذَلِك على طَريقَة الْأَنْبِيَاء وأتابعهم كالمهاجرين الْأَوَّلين فَهَؤُلَاءِ يثابون على مَا يُؤْذونَ بِهِ وَيكْتب لَهُم بِهِ عمل صَالح كَمَا يُثَاب الْمُجَاهِد على مَا يُصِيبهُ من الْجُوع والعطش والتعب وعَلى غيظة الْكفَّار وَإِن كَانَت هَذِه الْآثَار لَيست عملًا فعله يوقوم بِهِ لَكِنَّهَا متسببة عَن عفله الِاخْتِيَارِيّ وَهِي الَّتِي يُقَال لَهَا مُتَوَلّدَة وَقد اخْتلف النَّاس هَل يُقَال أَنَّهَا فعل فَاعل السَّبَب أَو لله أَو لَا فَاعل لَهَا وَالصَّحِيح أَنَّهَا مُشْتَركَة بَين فَاعل السَّبَب وَسَائِر الْأَسْبَاب وَلِهَذَا كتب لَهُ بهَا عمل صَالح وَالْمَقْصُود أَن الْحَسَد مرض من أمراض النَّفس وَهُوَ مرض غَالب فَلَا يخلص مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيل من النَّاس وَلِهَذَا يُقَال مَا خلا جَسَد من حسد لَكِن اللَّئِيم يبديه والكريم يخفيه وَقد قيل لِلْحسنِ الْبَصْرِيّ أيحسد الْمُؤمن فَقَالَ مَا أنساك أخوة يُوسُف لَا أَبَا لَك وَلَكِن عَمه فِي صدرك فَإِنَّهُ لَا يَضرك مَا لم تعد بِهِ يدا وَلِسَانًا فَمن وجد فِي نَفسه حسدا لغيره فَعَلَيهِ أَن يسْتَعْمل مَعَه التَّقْوَى وَالصَّبْر فَيكْرَه ذَلِك من نَفسه وَكثير من النَّاس الَّذين عِنْدهم دين لَا يعتدون على الْمَحْسُود فَلَا يعينون من ظلمه وَلَكنهُمْ أَيْضا لَا يقومُونَ بِمَا يجب من حَقه بل إِذا ذمه أحد لم يوافقوه على ذمه وَلَا يذكرُونَ محامده وَكَذَلِكَ لَو مدحه أحد لسكتوا وَهَؤُلَاء مدينون فِي ترك الْمَأْمُور فِي حَقه مفرطون فِي ذَلِك لَا معتدون عَلَيْهِ وجزاؤهم أَنهم يبخسون حُقُوقهم فَلَا ينصفون أَيْضا فِي مَوَاضِع وَلَا ينْصرُونَ على من ظلمهم كَمَا لم ينصرُوا هَذَا الْمَحْسُود وَأما من اعْتدى بقول أَو فعل فَذَلِك يُعَاقب وَمن اتَّقى الله وصبر فَلم يدْخل فِي الظَّالِمين نَفعه الله بتقواه كَمَا جرى لِزَيْنَب بنت جحش رَضِي الله عَنْهَا فَإِنَّهَا كَانَت هِيَ الَّتِي تسامى عَائِشَة من أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحسد النِّسَاء بَعضهنَّ لبَعض كثير غَالب لَا سِيمَا المتزوجات بِزَوْج وَاحِد فَإِن الْمَرْأَة تغار على زَوجهَا لحظها مِنْهُ فَإِنَّهُ بِسَبَب الْمُشَاركَة يفوت بعض حظها وَهَكَذَا الْحَسَد يَقع كثيرا بَين المتشاركين فِي رئاسة أَو مَال إِذا أَخذ بَعضهم قسطا من ذَلِك وَفَاتَ الآخر وَيكون بَين النظراء لكَرَاهَة أحدهم أَن يفضل الآخر عَلَيْهِ كحسد إخْوَة يُوسُف وكحسد ابْني آدم أَحدهمَا لِأَخِيهِ فَإِنَّهُ حسده لكَون أَن الله تقبل قربانه وَلم يتَقَبَّل قرْبَان هَذَا فحسده على مَا فَضله الله من الايمان وَالتَّقوى كحسد الْيَهُود للْمُسلمين وَقَتله على ذَلِك وَلِهَذَا قيل أول ذَنْب عصى الله بِهِ ثَلَاثَة الْحِرْص وَالْكبر والحسد فالحرص من آدم وَالْكبر من إِبْلِيس والحسد من قابيل حَيْثُ قتل هابيل وَفِي الحَدِيث ثَلَاث لَا ينجو مِنْهُنَّ أحد الْحَسَد وَالظَّن والطيرة وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِمَا يخرج من ذَلِك إِذا حسدت فَلَا تبغض وَإِذا ظَنَنْت فَلَا تحقق وَإِذا تطيرت فَامْضِ رَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَفِي السّنَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "دب إِلَيْكُم دَاء الْأُمَم قبلكُمْ الْحَسَد والبغضاء وَهِي الحالقة لَا أَقُول تحلق الشّعْر وَلَكِن تحلق الدّين" فَسَماهُ دَاء كَمَا سمى الْبُخْل دَاء فِي قَوْله وَأي دَاء أدوأ من الْبُخْل فَعلم أَن هَذَا مرض وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر أعوذ بك من مُنكرَات الخلاق والأهواء والأدواء فعطف الأدواء على الاخلاق والأهواء فَإِن الْخلق مَا صَار عَادَة للنَّفس وسجية قَالَ تعالى الْقَلَم وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم قَالَ ابْن عَبَّاس وَابْن عُيَيْنَة وَأحمد ابْن حَنْبَل رَضِي الله عَنْهُم على دين عَظِيم وَفِي لفظ عَن ابْن عَبَّاس على دين الْإِسْلَام وَكَذَلِكَ قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَ خلقه القرآن وَكَذَلِكَ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ ادب القرآن هُوَ الْخلق الْعَظِيم وَأما الْهوى فقد يكون عارضا والداء هُوَ الْمَرَض وَهُوَ تألم الْقلب وَالْفساد فِيهِ وَقرن فِي الحَدِيث الأول الْحَسَد بالبغضاء لِأَن الْحَاسِد يكره أَولا فضل الله على ذَلِك الْغَيْر ثمَّ ينْتَقل إلى بغضه فَإِن بغض اللَّازِم يَقْتَضِي بغض الْمَلْزُوم فَإِن نعْمَة الله إِذا كَانَت لَازِمَة وَهُوَ يحب زَوَالهَا وَهِي لَا تَزُول إِلَّا بزواله أبغضه واحب عَدمه والحسد يُوجب الْبَغي كَمَا أخبر الله تعالى عَمَّن قبلنَا آل عمرَان أَنهم اخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم فَلم يكن اخْتلَافهمْ لعدم الْعلم بل علمُوا الْحق وَلَكِن بغى بَعضهم على بعض كَمَا يَبْغِي الحاسد على الْمَحْسُود وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس ابْن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تباغضوا وَلَا تدابروا وَلَا تقاطعوا وَكُونُوا عباد الله إخْوَانًا وَلَا يحل لمُسلم أَن يهجر اخاه فَوق ثَلَاث لَيَال يَلْتَقِيَانِ فيصد هَذَا ويصد هَذَا وخيرهما الَّذِي يبْدَأ بِالسَّلَامِ" وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق على صِحَّته من رِوَايَة أنس أَيْضا: "وَالَّذِي نفسى بِيَدِهِ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ" وَقد قَالَ تعالى: -النِّسَاء- }وَإِن مِنْكُم لمن ليبطئن فَإِن أَصَابَتْكُم مُصِيبَة قَالَ قد أنعم الله على إِذْ لم أكن مَعَهم شَهِيدا وَلَئِن أَصَابَكُم فضل من الله ليَقُولن كَأَن لم يكن بَيْنكُم وَبَينه مَوَدَّة يَا لَيْتَني كنت مَعَهم فأفوز فوزا عَظِيما{ فَهَؤُلَاءِ المبطئون لم يُحِبُّوا لإخوانهم الْمُؤمنِينَ مَا يحبونَ لأَنْفُسِهِمْ بل إِن أَصَابَتْهُم مُصِيبَة فرحوا باختصاصهم وَإِن أَصَابَتْهُم نعْمَة لم يفرحوا لَهُم بهَا بل أَحبُّوا أَن يكون لَهُم مِنْهَا حَظّ فهم لَا يفرحون إِلَّا بدنيا تحصل لَهُم أَو شَرّ دُنْيَوِيّ ينْصَرف عَنْهُم إِذْ كَانُوا لَا يحبونَ الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة وَلَو كَانُوا كَذَلِك لأحبوا إخْوَانهمْ وأحبوا مَا وصل إِلَيْهِم من فَضله وتألموا بِمَا يصيبهم من الْمُصِيبَة وَمن لم يسره مَا يسر الْمُؤمنِينَ ويسوؤه مَا يسوء الْمُؤمنِينَ فَلَيْسَ مِنْهُم فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَامر الشّعبِيّ قَالَ سَمِعت النُّعْمَان بن بشير يخْطب وَيَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: "مثل الْمُؤمنِينَ فِي توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الْجَسَد الْوَاحِد إِذا اشْتَكَى مِنْهُ شَيْء تداعى لَهُ سَائِر الْجَسَد بالحمى والسهر" وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم "الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا وَشَبك بَين أَصَابِعه" وَالشح مرض وَالْبخل مرض والحسد شَرّ من الْبُخْل كَمَا فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ "الْحَسَد يَأْكُل الْحَسَنَات كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطب وَالصَّدََقَة تُطْفِئ الْخَطِيئَة كَمَا تُطْفِئ المَاء النَّار" وَذَلِكَ أَن الْبَخِيل يمْنَع نَفسه والحسود يكره نعْمَة الله على عباده وَقد يكون فِي الرجل إِعْطَاء لمن يُعينهُ على أغراضه وحسد لنظرائه وَقد يكون فِيهِ بخل بِلَا حسد لغيره وَالشح أصل ذَلِك قَالَ تعالى الْحَشْر والتغابن وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ: "إيَّاكُمْ وَالشح فَإِنَّهُ أهلك من كَانَ قبلكُمْ أَمرهم بالبخل فبخلوا وَأمرهمْ بالظلم فظلموا وَأمرهمْ بالقطيعة فَقطعُوا" وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف يكثر من الدُّعَاء فِي طَوَافه يَقُول اللَّهُمَّ قني شح نَفسِي فَقَالَ لَهُ رجل مَا أَكثر مَا تَدْعُو بِهَذَا فَقَالَ إِذا وقيت شح نَفسِي وقيت الشُّح وَالظُّلم والقطيعة والحسد يُوجب الظُّلم فصل فالبخل والحسد مرض يُوجب بغض النَّفس لما ينفعها بل وحبها لما يَضرهَا وَلِهَذَا يقرن الْحَسَد بالحقد وَالْغَضَب. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.
الربُّ الذي هوّنَ عظائم المصائب على أقوام فتولّاهم وجعلهم فيها مُحسنين صابرين مُحتسبين، هو الذي وَكَل غيرَهم إلى نفسه فجعله يجزع ويتسخّط بل وينتحر من أتفهِ أذىً ينزل به في دُنياه.
ومن وكَله اللهُ إلى نفسه هلكَ؛ فلا قوة لأحد إلا بالله. ولن يتولاك الله إلا بصلاحِك، ولن يكِلك إلى نفسك إلا بذنبِك، فلا تنظر إلى عِظم البلاء ولا صغره بل انظر إلى من يُسهّله عليك أو يكِلك فيه إلى نفسك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد