بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تكريم فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في افتتاح الدورة التأسيسية لجائزة الدوحة للكتاب العربي؛ تقديرًا لعطائه في دنيا العلم.
ممَّا يقول (الآن) فضيلة الأستاذ الدكتور محمد محمد أبو موسى، في ندوة: «حياةٌ للعِلم: مساراتٌ وشَهادات» ضمن الجلسة الصباحية لحفل الدورة التأسيسية لجائزة الدوحة للكتاب العربي، الذي يشهد تكريم فضيلته تقديرًا لعطائه في دنيا العلم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكرمني بلقاء هذه الصَّفوةِ من كرام كُتَّابنا الذين عاشوا في الذي عِشْتُه، وأُصلِّي وأُسلِّم على سيدنا محمدٍ صلواتُ الله وسلامُه عليه وهو الذي لنا فيه قدوةٌ حسنةٌ، والذي كان كلُّ عمله لله، وكلُّ عملٍ خالصٍ لله هو عملٌ في عمارةِ الأرض التي استخلفَنَا اللهُ فيها، ومَن يعملْ مثقالَ ذرةٍ خيرًا في هذه الدنيا، أي في عمارةِ الأرض، يرَ مثقالَ ذرةٍ خيرًا في الآخرة، وكلُّ الذي في الآخرة هو لإصلاحِ وصلاحِ هذه الدنيا ومعيشتِنا فيها.
إن الحديثَ عن المسيرةِ العلميةِ لمن هو في مثل سِنِّي حديثٌ مُحبَّبٌ؛ لأنه يَرجع بي إلى زماني الأول.. وأبدأ الحديثَ بعد التخرجِ في كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر وقد عُيِّنتُ معيدًا بها، وكانت الجامعةُ هي التي تُحدِّدُ لنا التخصص؛ لأن الطالبَ يُعيَّنُ معيدًا في القسم الذي حصل فيه على أعلى درجةٍ في سنوات الكلية الأربع، وكنتُ الأوَّلَ على الكلية في السنوات الأربع في علم البلاغة.
وكان تعييني مُعيدًا من أهمِّ أيامِ حياتي؛ لأنني سأتفرغُ للقراءة التي كانت كلَّ حُبِّي مِن يومِ أن حَملْتُ الكتاب، وكنتُ أقرأ أيَّ كتابٍ يقع في يدي، حتى إنني قلتُ يومًا لنفسي: لو عَلِمْتُ أن إبليسَ ألَّف كتابًا لحاولتُ الوصولَ إليه؛ لأني لا أخافُ على نفسي من قراءة الشر؛ لأن اللهَ – سبحانه – أسكنَ في نفسي عقلًا يُميِّزُ بين الصَّوابِ والخطأ، وبِناءً على هذا الاعتقاد كتبتُ يومًا في بعض كُتبي أنني أقرأ كلامَ الآخرين لأعرفَ كيف يُفكِّرون لا لأُفكِّرَ كما يُفكِّرون، لأني لو فكرتُ كما يُفكِّرون أكونُ قد دمَّرْتُ عقلي الذي هو مِن أكرمِ نِعَمِ الله عليَّ، ولأعرفَ أيضًا ماذا يقولون، لا لأقولَ ما يقولون، لأني لو قلتُ ما يقولون لدمَّرْتُ ثقافةَ أُمَّتي، وهي خيرُ أُمَّةٍ أُخرجت للناس، ثم رأيتُ القرآن الكريمَ لم يَضعْ لنا خطوطًا حمراءَ في القراءة؛ لأن الله – سبحانه – حكى لنا فيه ما يقولُه أعداؤه؛ مِن مثلِ قولهم: }مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ{، وغيرُ ذلك كثيرٌ جدًّا، وأنه – سبحانه – بَيَّنَ لنا الرُّشدَ من الغَيّ، وأقام على الحقِّ البرهانَ القاطع، وتَركَنا وما نَخْتَار، وعلى هذا الأساسِ بدأتُ حياتي متفرغًا للقراءة، وصار العلمُ هو الشَّاغلُ الذي يَشْغَلُنِي عن كلِّ شاغل.
وكان من أهدافي الأولى أن أُيسِّرَ لغةَ العلم الذي تخصَّصْتُ فيه لطلاب العلم؛ لأننا كنا وما زلنا نَدْرُسُ كُتبَ أوائلنا في الأزهر وهي مكتوبةٌ بلغةِ زمانهم، وكانوا يقولون: «كتابُ سِيبويه كتابٌ جيد، ولكنه كُتِبَ بلُغةِ زمانِه»، ورأيتُ علماءنا في كلِّ جيلٍ يُعيدون كتابةَ كلِّ علمائنا حتى تكون لغةُ العلمِ قريبةً من طلاب العلم، وشَرْطُ هذا التيسيرِ أن يَحتفِظَ بدقائقِ المعرفة، وأن يَزيدَها بيانًا يَشرحُ مُبهَمَها ويُفصِّلُ مُجمَلَها، وأن يقفَ عند ما يجبُ الوقوفُ عنده، وأن يكون فيه نَفَسُ كاتبِه، وألا يُسْتَغْنَى بقراءةِ غيرِه عنه، ورأيتُ في كلام علمائنا قَدْحًا صريحًا في الكتابِ الذي يُستغنَى بقراءةِ غيرِه عنه.
ثم رأيتُ أن علمَ البلاغةِ في كُتبِه الجليلةِ التي تَبنِي العقلَ يُوشِكُ أن يكونَ علمًا عاطلًا؛ لأن المقصودَ منه هو التعرُّفُ الواعي على تحليلِ البيانِ واستخراجِ أسراره، وأن دخولَ مسائلِ البلاغةِ في تحليلِ أسرارِ الشعرِ والنثرِ في حاجةٍ إلى دُرْبةٍ طويلةٍ واجتهادٍ وتَعلُّمٍ، لا تَقِلُّ عن الحاجةِ إلى تحصيلِ دقائقه، وأن حِفْظَكَ لِمَعرفةِ معاني التقديمِ والتأخيرِ والتعريفِ والتنكير.. إلى آخرِه، مع حِفظِ الشواهدِ المذكورةِ في الكُتبِ لا يُغْنِي، وإنما لا بد أن تُدْخِلَ كلَّ مسائلِ العلمِ في تحليل البيان، وإلا بَقِيَ العلمُ عاطلًا لا يُنتفَعُ به، وقد استعاذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من علمٍ لا يَنفع، وكأنَّه يقولُ لنا: «حَوِّلوا كلَّ ما تعلمون إلى واقعٍ في حياتكم»، فاتجهتُ إلى التحليل، ولم أصطحب في هذا التحليلِ إلا هذا العلم، وكتبتُ في الشعرِ الجاهليِّ ما كتبتُ، وفي كلامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفي القرآن الكريم، ويقيني أن الجيلَ في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى المزيد من علمِ تحليل البيان.
ثم إنني كنتُ وما زلتُ أرى أن قَصْرَ الكُتبِ والمعرفة على المتخصصين، وتَرْكَ سَوادِ الأمةِ الأعظمِ بمَعْزِلٍ عن العلمِ والكِتَاب، ليس هو الطريقَ الأفضل، وأننا نُهمِلُ كتلةً كبيرةً من أجيالنا، والأُمَّةُ لا تَنهَضُ إلا بكلِّ أبنائها، ورأيتُ مِن أوائلنا مَنْ كَتبَ كُتبًا جليلةً للأمَّةِ كلِّها، مِثْلَ كتابِ «عُيون الأخبار» و «العِقْد الفريد» و«زهر الآداب».
فكتبتُ عن هذه الكتبِ التي تُخاطِبُ كلَّ طبقاتِ الأمَّة، ويرى فيها العَالِمُ ما يَنفَع.
وحُبِّب إليَّ هذا الذي أنا فيه، وصِرتُ أُزاوِلُه بحُبّ، فاعتذرتُ عن كلِّ عملٍ إداريٍّ يَصرِفُني عنه، وانقطعتُ له انقطاعًا كاملًا، ويقيني أن إعدادَ الأجيالِ القادمةِ مِنْ أوجبِ الواجبات، إن لم يكنْ هُو أوجبَ الواجبات، وأن هذا الواجبَ يَفرِضُ علينا أن نُعدَّ لمستقبل بلادنا مَنْ هُمْ أفضلُ مِنَّا، وأن يكون هذا عامًّا في كل علمائنا؛ فعالِمُ الطبِّ يجبُ أن يُعِدَّ للبلاد مَنْ هو أعلمُ منه، وعَالِمُ الرياضيات يجبُ أن يُعِدَّ للبلاد مَنْ هو أفضلُ منه، واجتهدتُ في ذلك راجيًا أن أُعِدَّ لمستقبلِ بلادِنا مَنْ هم أفضلُ منَّا، وكنتُ شديدَ العناية بالمتميزين من طلاب العلم، وكان لا يعنيني ما يفعلُ الآخرون، وإنما الذي يعنيني هو أن أبذلَ أقصى طاقتي في تحقيق هذه الغايات، ولم ألتفتْ لحظةً واحدةً إلى رأي الآخرين فيما أكتب، ويقيني أن خدمةَ أجيالِ الأمةِ هي وجهُ الله، وأن خدمةَ البلاد هي وجهُ الله، وأن مِدادَ العلماء يُوزنُ بدماء الشهداء، وكان قولُه تعالى: }وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.{ أقولُ: كانتْ هذه الآية تُريحني جدًّا، وتُقنعني بأنَّ بَذْلَ أقصى الجُهدِ هو الذي عليَّ، وأرجو من الله أنْ يَعْلَمَ مِنِّي الصدقَ في الذي أعمَلُه، والآية تقولُ لي: إنَّ مَنْ جَدَّ لِيصلَ إلى الخير وهو صادقٌ، ثم لم يَصِلْ، فأجرُه على الله.
وإذا قلتَ لي: إن الفقيهَ هو الذي يَستخرجُ من الفقه فقهًا، وعَالِمَ الطبِّ هو الذي يستخرج من الطبِّ طبًّا؛ لأن كلَّ عِلمٍ عامرٌ في باطنه بالذي هو أفضلُ من ظاهرِه، وكلَّ فكرةٍ وراءها فكرة، فما الذي استخرجتَ أنت؟
قلتُ لك: إن هذا لم يَغِبْ عنِّي، وكلُّ هذا حاولْتُه، وحسبي أني بذلتُ أقصى ما عندي، وهذا هو الذي أملكه، وكان من أهم تكريم هؤلاء الكرام لى أنني أحسستُ أني عَمِلْتُ شيئًا؛ لأن حقَّ الله عليَّ، وهو حقُّ هذه الأمة عليَّ، أكبرُ بكثيرٍ مِن كلِّ الذي فعلتُ.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد