بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
بيان التأويل في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ}.
تعددت أقوال العلماء في تأويل هذه الآية الكريمة رقم (19) من سورة القصص؛ وذلك لمحاولة فهم ما جرى مع النبي موسى عليه السلام حينما استنجد به الإسرائيلي لنصرته وهو يعلم أنه غويٌ مبين؟
وبحسب السياق الذي ذُكرت فيه الأحداث؛ فإن أقوال المفسرين افترضت عدة مواقف لم تذكرها الآيات، في محاولة منهم للتوفيق بين خبر مقتل القبطي الذي شهده الإسرائيلي وبين النبي موسى حين أراد أن يبطش بالذي هو عدوٌ لهما، ولذلك نقرأ:
-أن موسى عليه السلام أخذته الحمية للإسرائيلي حين استغاث به، وأراد البطش بالقبطي فنهاه عن ذلك وقال له (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس) فانتهى موسى عن قتله.
ولكن كيف عَلِم هذا [القبطي] بما جرى بالأمس حتى ينهى موسى عن البطش به؟ إذ أن الإسرائيلي هو من يعلم ذلك! علمًا بأن الآية لم تذكر بأن هذا الشخص قبطي أو إسرائيلي [عبراني].
-وقول آخر بأن الإسرائيلي أفشى الخبر ظنًا منه بأن موسى يريد البطش به، في حين أن موسى كان يقصد القبطي؟
-ولكن لم تُشر الآية إلى وقوع الظن من الإسرائيلي ولا أن موسى عَزم على قتل القبطي، وذلك أن موسى عليه السلام سبق منه التوبة والاستغفار لما جرى معه بالأمس، وقد عاهد ربه بأن لا يناصر المجرمين.
-وقول آخر بأن من أراد أن يبطش بالقبطي هو الإسرائيلي! فنهاه موسى عن ذلك، فخاف وقال: {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس}!
ولكن الآية ذكرت بأن موسى هو من أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، إذ أن الإسرائيلي كان يصرخ ويستغيث حين رأى موسى.
وقول آخر بأن موسى لما سمع الإسرائيلي يستصرخه؛ قال له: {إنك لغوي مبين} أي واضح الغواية والضلال، ثم ذهب لينصره!
ولكن النبي موسى عَلِمَ حال هذا الإسرائيلي المجرم، فكيف بعد ذلك يتجه لينصره ويخالف العهد الذي سبق له مع ربه؟ وهذا لا يستقيم.
ولعل ما أشكل على المفسرين في تأويلهم لهذه الآية؛ هو الضمير في قوله تعالى (عدوٌ لهما) باعتبار ما جرى سابقًا من نصرة موسى للذي من شيعته وهو الإسرائيلي على الذي من عدوه وهو القبطي.
وأقول: إن فتنة قتل الرجل القبطي وما واجهه النبي موسى من أحداث وفتن؛ كانت مقدمات وأسباب لما بعدها، وقد يسر الله له تجاوزها والنجاة من شرها، قال تعالى: {وقتلتَ نَفسًا فنجيّناكَ مِن الْغَمِّ وفَتنّاكَ فُتُونا}.
وجاء في قولهِ تعالى: {وهذا من عدوه} الإشارة إلى أن القبطي المقتول من قوم فرعون؛ تمييزًا لهُ عن الإسرائيلي، بحيث لا يُستفاد من ذلك بأن هذا القبطي ظالم أو معتدي؟ بل قد يكون الإسرائيلي هو من اعتدى عليه. وهذا الذي تبيّن لموسى بعد حادثة قتل القبطي، حيثُ قال: {هذا من عمل الشيطان} واستغفر ربه لما جرى، وقد أنعم الله عليه بالمغفرة فقال: {ربِ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرًا للمجرمين}.
وهكذا فقد عاهد موسى ربه ألا يقف مع الظالم ولا ينصر المجرمين. {فأصبح في المدينة خائفًا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال لهُ موسى إنّك لغويٌ مُبين} لقد تأكد لموسى أن هذا الإسرائيلي مجرم وصاحب غواية وضلال وقد تغلّب عليه الشر؛ فلم يعتبر لما حدث بالأمس ولم يتوقف عن العدوان على الآخرين، والآن يستصرخ ويستغيث بموسى؛ فأراد موسى وقف عدوانه ومنع شره.
{فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدوٌ لهما} وبعد التمهل والنظر في حال هذا الإسرائيلي وما تبين لموسى من أمره، وما سبق لموسى من العهد مع ربهِ سبحانه وتعالى {ربِ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرًا للمجرمين}؛ أراد موسى البطش بهذا الإسرائيلي المجرم حتى يمنع شره ويكف أذاه عن الشخص الآخر الذي يتقاتل معه.
أراد موسى أن يؤدب هذا الإسرائيلي الذي هو {عدوٌ لهما}، حيث لم تكن غوايته خافية على موسى؛ بل أصبحت بيّنه وظاهرةٌ وإساءاته متكررة؛ فبالأمس يتقاتل مع القبطي واليوم يتقاتل مع شخص آخر، وقد يتلوها اعتداءات أُخرى وهكذا... فأراد موسى {أن يبطش بالذي هو عدوٌ لهما} أي أن هذا الإسرائيلي عدو الرجلين [عدو للقبطي الذي قُتل بالأمس وعدو للشخص الآخر الذي يتقاتل معه اليوم].
والإسرائيلي كما وصفه موسى "غويٌ مُبين" لم يستر ما حدث بالأمس ولم ينظر عواقب الأمورِ ولا ما جرى لموسى من جنايةٍ بسببه؛ بل أفشى الخبر؟ فحين أراد موسى البطش به [بصفته عدوهما أي عدو الرجلين]؛ قال: {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس}، بل وتقمّص دور المدافع عن صلاح المجتمع؛ بزعمه أن موسى يريد خلاف ذلك قائلًا: {إن تُريد إلاّ أن تكون جبارًا في الأرض وما تُريد أن تكون من المصلحين}!
لقد أفشى الإسرائيلي الخبر، وشاع بين الناس وانتشر، وأُرسل في طلب موسى؛ فهيّأ الله لهُ أسباب السلامة والنجاة من كل غم، ويسر له الذهاب إلى أرض مدين.
كان هذا تبيين لقوله تعالى: {عدوٌ لهما} في جانب من سيرة هذا النبي الكريم، عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين