بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ في النار.
معاشر المؤمنين الكرام: الشهورُ والأعوام، واللياليَ والأيام، إنما هيَ مقاديرُ آجال، وخزائنُ أعمال، تنقضي سريعًا، وتمضي جميعًا، والموعدُ يومُ القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، وفي الحديث القدسي الصحيح: "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجدَ خيرًا فليحمد الله، ومن وجدَ غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه".
ألا وإنّ مِنَ المعلوم شَرعًا وَعَقلًا، وما تواترَ من تجارب الصَّالحين، أَنَّ لِلعِبَادَةِ الصحيحةِ آثارٌ حَمِيدةٌ عَلَى أخلاق صَاحِبِهَا، وعلى تَعَامُلِهِ مع الآخرين، فما من مُسلمٍ يُؤدي عِباداتهِ على الوجه الصحيح، إِلاَّ وَتجدهُ صَادِقٌ في قَولِهِ، وَافٍ بِوَعدِهِ، محافظٌ عَلَى عَهدِهِ، بَارٌّ بوَالِدَيهِ، وَاصِلٌ لِرَحِمِهِ، حسنُ الخلق، جميلُ الطباع، رائعُ في تعَامُلِه، هَيِّنٌ ليُّنٌ في أخذه وعطائه، سَمحٌ في بَيعِهِ وَشِرَائِهِ، قريبٌ خيره، بعيدٌ شرّهُ.
أما وقد قدمنا في رمضان ما قدمنا من الطاعات، وَهجرنا ما هجرنَا من السيئات والمخالفات، طاعةً لله، وطلبًا لمرضاته، فَلْيَكُنْ هَذَا هُوَ ديدننا في سَائِرِ الأوقات، وطوالَ أيامِ الحياة. وَلْنَعلَمْ أَنَّ رقابةَ اللهِ لنا رقابةٌ دائمةٌ مُستمرة، وَأنَّ الكِرَامَ الكَاتِبينَ يسجلونَ كلَّ صغيرةٍ وكبيرة، وَأنّ الحَيَاةَ رِحلَةٌ قَصِيرَةٌ، ونحن عمَّا قليلٍ عنها رَاحِلُونَ، وإلى اللهِ راجعونَ، وَبَينَ يَدَيهِ تعالى مَوقُوفُونَ، وَعَلَى كلِّ مَا عَمِلنَاهُ مُحَاسَبُونَ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
ثم اعلموا أَيُّهَا المباركونَ: إِنَّ جميعَ الفرائض والعِبَادَاتِ، وسائرَ التكاليفِ والواجبات، مِن صِيَامٍ أو صَلاةٍ، أو حَجٍّ أو زَكَاةٍ، أو غيرهَا من فرائض وواجبات، فإنه لم يُشرَعْ شيءٌ منها لِيَكُونَ إرهاقًا للأبدان، وَلا جِبَايَةً للأِمَوالِ، وَلا تعذيبًا وحرمان، وإنما شرعَ تزكيةً للنفس، وارتقاءً بالأخلاق، وتهذيبًا للسلوك، ففي محكم التنزيل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَر}، وَقال جَلَّ وَعَلا: {خُذْ مِن أَموَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتَزكِيهِم بِهَا}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ}.
وفي صحيح البُخَارِيِّ، قال النَّبيِّ ﷺ: "مَن لم يَدَعْ قَولَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهلَ فَلَيسَ للهِ حَاجَةٌ في أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".
ومن المعلوم الذي لا يخفى: أنَّ الدِّينَ مَنهَجٌ شَامِلٌ متكامل، وأنَّ المسلمَ محكومٌ بالدين في كل أحوالهِ وأحيانه، لا فرق بَينَ رَمَضَانَ، وبقيةَ أَيَّامِ العَامِ. فالمُسلِمُ هُوَ المسلِمُ في أيِّ مَكَانٍ يذهبُ إليه، وَفي كُلِّ وقتٍ يمرُّ عليه، ومهما تغيرت الظروف وملابسات الحياة، فإنه لا يزال يَعبدُ رَبًّا وَاحِدًا لا شريك له، ويَسِيرُ إِلى هَدَفٍ وَاحِدٍ لا يحيدُ عنه، ويحتكمُ إلى دستورٍ معصومٍ لا يرضى به بديلًا، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ مُستَسلِمٌ للهِ، مُنقَادٌ لِمَولاهُ، مخلصٌ لَهُ يطلبُ رضاه، مُستقيمٌ لا يروغ، صادقٌ لا يتلون، لا يغترُ بشبهةٍ؛ ولا ينجرُ لشهوة، فهو بفضل الله ثابتٌ لا يَتَغَيَّرُ، تأمَّل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
معاشر المؤمنين الكرام: لقد كانَ للجدِّ في رمضان أثرٌ جميل، فقد استطعمت القلوبُ حلاوةَ القرآن، وتلذذت النفوسُ بروحانية القيام، وانشرحت الصدورُ بصنوف الذكر والطاعات. ألا فاعلموا يا عباد الله: أن ذلك ليس مقصورًا على مواسم مُعينة، ولا أزمنةٍ محدّدة. بل هو عامٌ في جميع الأحيان والأحوال، {فَسَبِّحْ بِحَمدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ}.
وَقَالَ سُبحَانَهُ عَن عِيسَى عَلَيهِ السَّلامُ: {وَأَوصَاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا}. وإنما خُصت بعضُ المواسمِ بمزيد فضلٍ، رحمةً من الله ومِنحة. ليستكثرَ العبدُ من الخيرات، وليتدارك بعضَ ما فاته أيامَ الغفلات. فغَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَت. وَيَحصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا. إِنْ أَحسَنُوا، أَحسَنُوا لأَنفُسِهِم. وَإِنْ أَسَاؤُوا، فَبَئِسَ مَا صَنَعُوا.
ويحِقُّ للعاقل أن يتساءل: أين أثرُ رمضان، إذا هُجرَ القرآن. وأينَ أثرُ الطاعةِ، إذا تُركت صلاةُ الجماعة. وأينَ أثرُ الصدقاتِ والقُرباتِ إذا انتُهِكت المحرمات. ولنتأمل كلامًَا قيمًا للإمام ابن القيم رحمه الله إذ يقول: *بين العملِ والقلبِ مسافة، وفي تلك المسافةِ قطاعٌ يمنعون وصولَ العملِ إلى القلب، فيكونُ الرجلُ كثيرَ العملِ، وما وصلَ منهُ إلى قلبه محبّةٌ ولا خوفٌ ولا رجاءٌ ولا زهدٌ في الدنيا ولا رغبةٌ في الآخرة، ولا نورٌ يفرقُ به بين أولياء اللهِ وأعدائه، ثم يقول: فلو وصلَ أثرُ الأعمالِ إلى قلبه لاستنارَ وأشرقَ، ورأى الحقَّ والباطل*.
فيا أهل الطاعات، اعلموا أنَّ الله لا يريدُ من عباداتنا مجردَ الأفعالِ والحركات، وإنما يريدُ ما وراءَ ذلك من الهُدى والتقوى والإخبات، قال تعالى: {يٰأَ يُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون}.
اتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب}.
معاشر المؤمنين الكرام: لا شك أنّ في استدامة الطاعةِ وامتدادِ زمانها نعيمٌ للصالحين، وقرةُ عينٍ للمؤمنين، يستثمرون بها أوقاتهم، ويثقِّلونَ بها ميزانهم، ويرضون بها خالقهم ومولاهم، في الحديث الصحيح: "خيرُ النَّاسِ مَن طالَ عُمرُه وحَسُنَ عملُه".
ورمضانُ إنما هو مدرسة، صقلَ القلوبَ، وأيقظَ الضمائرَ، وطهّرَ النفوسَ، وزكى الأخلاق. ومن ثمَّ فإنّ ما اكتسبناه في رمضان، ينبغي أن يكونَ حافزًا للاستمرار وزيادةِ العمل، لا أن يكونَ مدعاةً للتقاعس والكسل.
وأن يكون حالُنا بعد رمضان، أفضلَ منه قبلَ رمضان. ومن ذاقَ حلاوةَ الصيامِ في رمضان، فليعلم أنَّ البابَ مفتوحٌ للمواصلة بعد رمضان، كصيام ستٍ من شوال، وصيامِ الأيامِ البيض من كل شهرٍ، وصيامِ الاثنينِ والخميس من كل أسبوعٍ. وهكذا فمن استشعرَ حلاوةَ المناجاةِ في صلاته وسجودهِ في رمضان، وأبصرَ الأثرَ الجميلَ للدعاء والمناجاة، فليعلم أنَّ له ربًا عظيمًا قريبًا، يجيبُ دعوة الداعي إذا دعاه، وينزلُ في الثلث الأخيرِ من كلِّ ليلةٍ نزولًا يليقُ بجلاله، فينادي عبادهُ: هل من داعٍ فأستجيبَ له، هل من سائلٍ فأعطيه، هل من مستغفرٍ فأغفر له. بل وينادي عبادهُ على الدوام: {ادعوني أستجب لكم}.
وفي الحديث الصحيح: "ما على الأرضِ مسلمٌ يدعو اللهَ بدعوةٍ إلا آتاهُ اللهُ إياها، أو صرفَ عنهُ من السوءِ مثلها، ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعةِ رحمٍ"، فقال رجلٌ من القوم: إذا نكثر؟ قال: "اللهُ أكثر".
وكذلك يا عباد الله: فمن تعطرَ فمهُ بتلاوة كلامِ ربه وأمضى معه الساعاتِ الطويلةِ خلالَ رمضانَ. فليكن له وردٌ يومي من القرآن الكريم، فقد كان هذا هو هدي السلف رحمهم الله.
وكذلك من حافظَ على صلاة التراويحِ والقيامِ طوالَ رمضان، فليواصل ولو بثلاث ركعات، فالحقُّ تبارك وتعالى يقول: {وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}، والمصطفى ﷺ يقول: "أقربُ ما يكونُ الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أنَّ تكونَ ممن يذكرُ اللهَ في تلك الساعة فكن". وفي بذل المال أجرٌ وطهرٌ وسعةٌ في الرزق، ووعدٌ من الكريم سبحانه بعوضٍ مُضاعفٍ، فلنستمر في هذا العمل الجليل ولو بأقل القليل، {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}، ويقول جلَّ وعلا:{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
فلنجعل أحبتي الكرام، لنجعل من نسمات رمضانَ المشرقة، مفتاحَ خيرٍ لسائر العام، ومنهجَ حياةٍ على الدوام.
ففي الحديث الصحيح: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز"، وفي حديث آخر صحيح: "أكلفوا مِنَ الأعمالِ ما تُطيقون؛ فإن اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأعمالِ إلى اللهِ أدومُها وَإِنْ قَلَّ".
والحّوا في طلب العونَ والهداية من الله، فهي وصيةٌ المحبوب ﷺ: "يا مُعاذُ: وَاللهِ إني لأُحِبُّكَ، فلا تَدَعَنَّ دُبَرَ كُلِّ صلاةٍ أن تقولَ: اللهم أَعِنِّي على ذِكرِكَ وشُكرِكَ وحُسنِ عِبادَتِكَ"، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين