بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ *** وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
وَمَعذِرَةُ اليَراعَةِ وَالقَوافي *** جَلالُ الرُّزْءِ عَن وَصفٍ يَدِقُّ
هكذا بدأ الشاعر أحمد شوقي قصيدته ليبعث لدمشق تحيةً مضمخة بالشوق والدمع، كأنّما بردى ما زال يروي تربة الحنين، ويمتد كشريانٍ في قلب كل من أحبّها. ليست دمشق في هذا النص مجرد مدينة، بل هي قصة وطن، وسِجلّ تاريخ، ومسرح مقاومة، ومهد حضارات. هي الجرح، وهي الأمل. هي القصيدة التي كتبها الدهر على دفاتر المجد، وتناقلتها القلوب جيلًا بعد جيل.
دَخَلتُكِ وَالأَصيلُ لَهُ اِئتِلاقٌ *** وَوَجهُكِ ضاحِكُ القَسَماتِ طَلقُ
هكذا يرسم الشاعر بفرشاة وجدانه لوحةً لدمشق في بهائها، وكأنّما كل لحظة غروب هي وعد بلقاءٍ جديد، وكل شمس تشرق على مآذنها تهمس: "ما زلت حيّة".
تحت ظلال جنّانها، وعلى ضفاف بردى، "تجري الأنهار"، وتنتشر أوراق المعرفة والفضل. هناك، تنبت الكلمات وتزهر القوافي. وتنتصب رايات الشعر والخطابة، ويخوض النبلاء مضمار البلاغة، فكأن دمشق أمّ لكل فن، ومحراب لكل فكر.
أَلَستِ دِمَشقُ لِلإِسلامِ ظِئرًا *** وَمُرضِعَةُ الأُبُوَّةِ لا تُعَقُّ
سؤالٌ فيه من الإنكار بقدر ما فيه من الإعزاز! نعم، لم تكن دمشق يومًا على هامش التاريخ، بل كانت مناره. فقد اتخذها الأمويون عاصمةً، ومنها انطلقت جيوش الفتح، حتى غدت الدولة الأموية في عهدها، أكبر إمبراطورية عرفها الإسلام، امتدت من الصين شرقًا حتى الأندلس غربًا.
فيها كان صلاح الدين الأيوبي، رمز النبل والجهاد، الذي طهّر القدس من الصليبيين، وترك بصمته الخالدة في ضمير الأمة. ومن دمشق خرجت الحضارة إلى أصقاع الأرض، وانبثقت أنوار العلم والفقه واللغة.
قال ابن كثير في تاريخه:
(وكانت دمشق في عهد بني أمية دار الخلافة، ومنها تُسَيَّر الجيوش وتُرسَل السرايا، وكان فيها من العلماء والقادة ما لم يكن في غيرها من الأمصار) البداية والنهاية: 9/156.
لكن المجد لا يسير دون كلفة، ولا تظلّ القمم ساكنة دون أن تعصف بها الرياح.
إِذا رُمنَ السَلامَةَ مِن طَريقٍ *** أَتَت مِن دونِهِ لِلمَوتِ طُرقُ
بهذه الكلمات يستعرض النص تقلبات الأيام، وكيف باتت دمشق بعد العز مسرحًا للحروب والدمار. فالقذائف تحصد الأرواح، والغدر يلاحق الأحلام، والحديد يعصف بأفق المدينة، حتى صار له لونان: أحمر وأسود.
لكنّ دمشق التي طُعنت، لم تسقط. وإن انحنت حينًا، فهي إنما انحنت لتنهض أشدّ صلابة.
دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسا *** وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ
عبارة تقلب التاريخ على رؤوس أصحابه. إنه الدم الذي سُفك على ترابها، فأنبت حرية. إنها دماء المجاهدين في الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، لا تزال تقطر على صفحات المجد.
قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. (آل عمران: 169).
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ *** بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
هذا بيتٌ يختصر فلسفة النضال. فما من أمة نالت عزتها دون تضحيات. وما من أرض استُردت من الطغاة دون أن تُبلل بالدماء الزكيّة.
هنا، تتجلى قيمة الاستشهاد، لا كفقد، بل كفداء، إنّ هؤلاء الذين ارتقوا على أسنة الرماح، إنما رسموا للأجيال طريق الحرية، فصاروا هم البذور التي نبتت منها الكرامة.
جاء في "الفروق" للإمام القرافي: "من مات دفاعًا عن دينه أو أهله أو وطنه، فقد مات شهيدًا، وله أجر لا يُحصر، لأن نفعه متعدٍّ إلى جماعة المسلمين." 4/215.
فَمِن خِدَعِ السِياسَةِ أَن تُغَرّوا *** بِأَلقابِ الإِمارَةِ وَهيَ رِقُّ
هذا تحذير بليغ من انخداع الشعوب بالشعارات البرّاقة التي تُخفي وراءها الاستبداد والعمالة. إنّ الإمارة التي لا تستند إلى شرعية شعبية، ولا تحقق كرامة الإنسان، إنّما هي عبودية بثوبٍ فاخر.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "الغاية من الإمامة أن تقوم بأمر الدين والدنيا، فإذا ضيعت الحقوق وتعطلت الحدود، فسدت الإمارة وكان زوالها خيرًا من بقائها." السياسة الشرعية: ص26.
نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ دارًا *** وَلَكِن كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ
جملة تختصر الحال. فمهما فرّقتنا الجغرافيا، فإنّ مصيرنا واحد، وهمومنا مشتركة، وأعداءنا ذاتهم. إنّ وحدة القلوب أساس لوحدة الصفوف، والبيان الصادق هو ما يجمع الكلمة ويوحّد المسير.
قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92).
نَصَرتُمْ يَومَ مِحنَتِهِ أَخاكُمْ *** وَكُلُّ أَخٍ بِنَصرِ أَخيهِ حَقُّ
إنها دمشق التي لم تَخُن يومًا عروبتها، ولا دينها، ولا إخوتها. إنها التي تنادي الأحرار من كل فجّ، أنْ "قفوا معي"، فكلّنا في المعركة سواء، وكلنا في الدفاع عن الكرامة شركاء.
إنها الحكاية التي تأبى أن تنتهي، والقصيدة التي لا تختم ببيتٍ أخير. ستظلّ دمشق حيةً في قلوب العرب والمسلمين، ملهمةً للشعراء، ووصيةً في أعناق الأحرار.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21).
دمشق، يا زهرة المدائن... ستبقين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين