الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
من الأجزاء اللطيفة في باب الفتيا وما يتعلق بها هو جزء الحافظ ابن الجوزي رحمه الله "تعظيم الفتيا"، وهو جزء مسند مختصر يتكلم فيه الحافظ عن خطر الفتيا وما لا بد أن يكون عليه المفتي من تمكن في العلم وتورع وحذر في هذا الباب العظيم.
وقد سرد فيه الحافظ جملة من الأخبار المرفوعة والموقوفة والمقطوعة بإسناده رحمه الله، وهو لما فيه من الفوائد والنكت مع اختصاره صالح لأن يُقرأ في الدروس ويعلق عليه ويُتدارس بين طلاب العلم إذ المباحث التي تطرق إليها الحافظ متنوعة وتهم طلاب العلم على مختلف الأزمان.
وقد انتقيت منه جملة من الفوائد أحببت نشرها لعل الله أن ينفع بها ويجعل لها القبول.
كان علماء السلف لا ينصبون أنفسهم للفتوى إلا بعد استكمال شروطها، فكانوا يحفظون القرآن، ويعرفون ناسخه من منسوخه، ومحكمه من متشابهه، وخاصه من عامه، ويوغلون في علومه ويحفظون اللغة العربية والأحاديث المروية، وينظرون في عدالة نقلتها؛ فيميزون صحيحها من سقيمها، وناسخها من منسوخها، ويوغلون في علومٍ لا تلزم لخوف أن تتعلق بما يلزم.
قال محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: الأصل: القرآن والسنة، فان لم يكن، فقياسٌ عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله ﷺ، وصح الإسناد منه: فهو سنة، والإجماع أكبر من الخبر المنفرد، وإذا تكافأت الأحاديث، فأصحها إسنادًا أولاها، وليس المنقطع بشيءٍ ما عدا منقطع ابن المسيب.
قال الشافعي: لا يحل لأحدٍ يفتي في دين الله عز وجل إلا رجلًا عارفًا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله ﷺ، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة بصيرًا بالشعر وما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا وإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي.
قال أبو بكرٍ الأثرم: رأيت أبا عبدالله أحمد بن حنبل رضي الله عنه إذا كان في المسألة عن النبي ﷺ حديث لم يأخذ فيها بقول أحدٍ من الصحابة، وإذا كان في المسألة عن أصحاب رسول الله ﷺ قول مختلف تخير من أقاويلهم ولم يخرج عن أقاويلهم إلى من بعدهم، وإذا لم يكن تخير من أقاويل التابعين، وربما كان الحديث عن النبي ﷺ وفي إسناده شيء فيأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، مثل حديث عمرو بن شعيب وإبراهيم الهجري، وربما أخذ بالمرسل ما لم يجئ خلافه.
قال الإمام أحمد: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالمًا بالسنن عالمًا بوجوه القرآن عالمًا بالأسانيد الصحيحة، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفته بما جاء عن النبي ﷺ في السنن، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: أصول الأحكام في الشرع أربعة.
الأول: العلم بكتاب الله عز وجل وما تضمنه من الأحكام محكمًا ومتشابهًا، وعمومًا وخصوصًا، ومجملًا ومفسرًا، وناسخًا ومنسوخًا.
والثاني: العلم بسنة رسول الله ﷺ الثابتة من أقواله وأفعاله، وطرقها في التواتر والآحاد، والصحة والفساد، وما كان منها على سببٍ وإطلاقٍ.
والثالث: العلم بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه واختلفوا فيه، ليتبع الإجماع ويجتهد في الرأي مع الاختلاف.
والرابع: العلم بالقياس الموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها، حتى يجد المفتي طريقًا إلى العلم بأحكام النوازل وتمييز الحق من الباطل، فهذا ما لا مندوحة للمفتي عنه ولا يجوز له الإخلال بشيء منه.
قال علقمة: كان يقال: أجرأ القوم على الفتوى أدناهم علمًا.
قال ابن عيينة: أعلم الناس بالفتوى أسكتهم فيها، وأجهل الناس بالفتوى أنطقهم فيها.
عن عقبة بن مسلم، قال: صحبت ابن عمر أربعةً وثلاثين شهرًا، وكان كثيرًا ما يسئل، فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إلي فيقول: هل تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرًا إلى جهنم.
سئل الشعبي عن شيء، فقال: لا أدري، فقيل له: أما أن تستحيي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراق؟ قال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالت: ﴿سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا﴾.
قال أبو نعيم: ما رأيت عالما قط أكثر قولًا لا أدري من مالك بن أنس.
بلغني عن بعض مشايخنا أنه أفتى رجلًا من قريةٍ بينه وبينها أربعة فراسخ، فلما ذهب الرجل، تفكر، فعلم أنه أخطأ، فمشى إليه فأعلمه أنه أخطأ، فكان بعد ذلك إذا سئل عن مسألة توقف، وقال: ما في قوة أمشي أربعة فراسخ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين