الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
علو الهمة خلق رفيع، وغاية نبيلة تتعشقه النفوس الكريمة وتهفو إليه الفطر القويمة، والناس تتفاوت هممهم رِفعة وضِعة، وتختلف مشاربهم علوا وحِطة، وقد عرفها ابن القيم بقوله:
(علو الهمة ألا تقف -أي النفس- دون الله وألا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلًا منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات).
والإسلام يحث على هذا الخلق الشريف ويرغب فيه،وعامة نصوص الوحيين الشريفين ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجهه إلى بعث الهمة، وتحركيها واستحثاثها للتنافس في الخيرات.
ومن الآيات الكريمة قوله تعالى مخاطبا نبينا صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}(الأحقاف:35).
في الآية ثناء على أولى العزم من الرسل وهم أصحاب الهمم العالية في جهادهم ومثابرتهم ودعوتهم إلى الله تعالى، وفي مقدمتهم خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم
فلقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم مليئة بألوان التربية على خلق الهمة،ومن ذلك توجيه أصحابه لكسب الأرزاق عن طريق الكدح والمشي في مناكب الأرض والترفع عن مسألة الناس، والتنافس على الطاعات وفعل الخيرات، والجد في الأعمال وحسن إتقانها.
وعلو الهمة من الإيمان، والإيمان والعمل الصالح قرينان فالعمل هو الظاهرة المادية لعلو الهمة في النفس، قال تعالى:{وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (الإسراء:19).
ومن خصائص أصحاب الهمم أنهم نادرون في الناس،فهم يتسابقون إلى المكارم لا يتعبون ولا يملون، ولا يقنطون،وهل يقنط من رحمة الله إلا الضالون، قال عنهم ابن الجوزي: (من علامات العقل، علو الهمة، والرضى بالدنو دني).
ووصفهم الأستاذ المودودي- رحمه الله- بقوله: (أصحاب الهمة العالية هم فقط الذين يبدلون أفكار العالم،ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم،وهم وحدهم يقوون على البذل في سبيل المقصد،فهم الصفوة التي تباشر مهمة الإنتقال السريع من وحل الوهن ووهدة الإحباط).
ومن مظاهر أصحاب الهمم:
• الجد والنشاط وعدم التهاون والتباطؤ.
• يكرهون العجز والكسل لسان حالهم دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل".
• هممهم تعكس آمالهم وصفهم تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}(السجدة:19).
• التبكير شأنهم في السعي لنيل بركة دعوة النبي ﷺ بارك لأمتي في بكورها.
• ومن علو الهمة التربية الصالحة للأبناء، وصرف هممهم نحو حب العلم والأخلاق الفاضلة،ومحاولة إنقاذهم من موجات الإلحاد والضربات الموجعة المصوَّبة نحوهم.
وخلق الهمة يجب أن يتجسد في البيت وفي الشارع وفي المدرسة والمستشفى وفي كل المؤسسات.
للأسف أصيبت أمتنا أفرادا وجماعات إلا من رحم ربي بترك خلق الهمة والإشتغال بالمحقرات والسفاسف فأصبحنا عرضة ينهش الأعداء من جسدها، فأصبح ضعيفا أصابه الوهن، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "رُبَّ همة أحيت أمة".
ولله در القائل: (وإنما ترفع الأوطان رأسها وتبرز في مظاهر عزتها بهمم أبنائها).
ألا فالنعلم أن صلاح الأمة ونهضتها الحضارية وتمكينها لن يكون إلا بعلو الهمم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين