سعيد بن المسيب

141
4 دقائق
20 ذو القعدة 1446 (18-05-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

في أروقة التاريخ الإسلامي، تطل علينا شخصيات فذّة تركت بصماتها في العلم والعمل والزهد والثبات على المبادئ، ومن بين هذه القمم الشامخة يبرز اسم سعيد بن المسيّب رحمه الله، علم المدينة وسيد التابعين بلا منازع. هو سعيد بن المسيّب بن حَزن بن أبي وهب بن عمر القرشي المخزومي، جمع بين العلم الغزير، والورع الشديد، والموقف الصلب، لا يُذكر فقه المدينة إلا ويُقرن اسمه بها، شيخًا للإسلام، ومفتيًا يهاب سكوته ويُفتخر بجوابه.

اسمه "المسيّب"، ويجوز فيه كسر الميم وفتحها، فالكسر لغة أهل المدينة، والفتح لغة أهل العراق. وقد أُشير إلى نسبه المبارك في كتب التراجم، فجده حَزْن صحابي جليل، وكان النبيأراد أن يغير اسمه إلى "سهل"، لما في "الحزن" من معنى الغلظة والشدّة، لكن الجدّ أبى وقال: "لا أغيّر اسمًا سمانيه أبي"، فبقي الاسم، وبقيت معه الحزونة في ذريته كما قال سعيد: "فما زالت الحزونة فينا بعد". صحيح البخاري: 6190.

كان سعيد بن المسيّب واسع العلم، غزير الرواية، حتى قال عن نفسه: "ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول اللهولا أبي بكر ولا عمر مني". وهذا القول لم يكن من باب العُجب، وإنما إشارة إلى عمق فقهه وعلمه المتين الذي اكتسبه من ملازمة كبار الصحابة. حتى أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لما سئل عنه قال: "هو والله أحد المفتين".وقال الإمام علي بن المديني: "لا أعلم أحدًا من التابعين أوسع رواية من سعيد بن المسيّب، وهو عندي أجلّ التابعين".

وكان سعيد على ما أوتي من علم، عابدًا زاهدًا، حجّ أربعين مرة، ولم يدركه أذان قط إلا وهو في المسجد. وهذه علامة محبة وصدق في العبادة. كان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يعظمه، ولا يصدر قضاء إلا بعد مشورته، حتى قال له مرة لما استدعاه إلى مجلسه: "إنما أردنا أن نسألك وأنت في مجلسك، من غير أن نحركك"، وهذه شهادة من خليفة راشد بعد الخلفاء الراشدين.

أما عن موقفه من الخلفاء الأمويين، فذلك مشهد يفيض بالعزة. رفض أخذ عطائه من بني مروان، رغم أنه كان ثلاثين ألفًا من بيت المال، وكان يقول: "حتى يحكم الله بيني وبين ابني مروان". وحين استدعاه عبدالملك بن مروان إلى قصره ليتحدث إليه، بعث إليه سعيد بجوابه الثابت: "ليس لي إلى أمير المؤمنين حاجة، ولا له إليّ حاجة، وإن كانت له حاجة فهي غير مقضية"!

وفي رواية أخرى، حين جاءه رسول الخليفة فألحّ عليه، قال له سعيد: "إن كان يريد أن يصنع بي خيرًا، فذلك لك، وإن كان غير ذلك، فلا أحلّ حبوتي حتى يقضي ما هو قاضٍ". أي أنه لا ينزع مجلسه وهيئته، ولا يتحرك من مكانه، في مشهدٍ من مشاهد الثبات الذي يُعلّمنا أن العزة ليست في رفع الصوت، بل في ثبات القلب أمام الجبروت.

ولم تكن هذه مواقفه في أيام الرخاء فقط، بل حتى في الفتن العظمى، فقد امتنع عن مبايعة عبدالله بن الزبير حين دخل المدينة، وقال: "حتى يجتمع الناس"، فضربه جابر بن الأسود، فبلغ عبدالله بن الزبير ذلك، وقال: "ما لك ولسعيد؟ دعه".

ثم لما أراد عبدالملك بن مروان أن يأخذ البيعة لابنيه الوليد وسليمان، أبى سعيد أن يبايع، فقام هشام بن إسماعيل والي المدينة بجلده ستين سوطًا وطاف به في المدينة بثوبٍ من شعر، فلما وصل الخبر إلى عبدالملك غضب وقال: "والله، لسعيد بن المسيب كان أحق أن تُوصل رحمه من أن يُضرب".

وقال قبيصة بن ذؤيب –وهو من جلسائه– لعبدالملك: "يا أمير المؤمنين، ما كان من سعيد لو لم يبايع؟ ليس ممن يُخشى فَتقه ولا غائلته على الإسلام وأهله، وإنه لمن أهل السنة والجماعة". فكان ذلك دفاعًا عن رجل لا يُخشى سيفه ولكن يُهاب علمه ووقاره.

ولعل من أطرف وأجمل ما يُروى عن سعيد قصته في تزويج ابنته، فقد كان له تلميذ اسمه ابن أبي وداعة، غاب عن مجلسه أيامًا، فلما سأله عن سبب الغياب قال: "ماتت زوجتي ولم أجد من يليها غيري". فقال له سعيد: "أأنت رجلٌ كانت له زوجة، ولا يصلح أن تبيت عزبًا"، ثم زوجه ابنته، دون أن يطلب منه مهرًا ولا يذهب به إلى دار القضاء، بل جاءه بزوجته لبيته في ليلة، وقال له: "كرهت أن تبيت الليلة من غير زوجة، وهذه زوجتك".

وقد قال عنه ابن أبي وداعة لاحقًا: "فإذا هي من أجمل النساء وأعلمهن بالدين وأشدهن حياءً"، فكان زواجه منها زواجَ علمٍ وعفّة، لا دنيا ومظاهر.

وحين حضرته الوفاة، أُغمي عليه، فقال أحدهم: "وجهوه إلى القبلة"، فلما أفاق قال: "لئن لم أكن على القبلة، لا ينفعكم توجيه فراشي، ولئن كنت على القبلة، فلا حاجة بي إلى ذلك". فمات على توحيده ويقينه، وكان ذلك سنة أربعٍ وتسعين للهجرة، وهي التي سميت سنة الفقهاء، إذ مات فيها عدد من كبارهم.

رحم الله سعيد بن المسيب، ما أزهد حياته، وما أعلم قلبه، وما أثبت مواقفه.

قال تعالى: ﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الأنفال: 12.

وكأنما نزلت في أمثال سعيد، يثبتون بإيمانهم، ويثبتون غيرهم بعلمهم ومواقفهم.

هو رجل صدق الله فصدقه الله، ومشى في الناس كالسحاب، أينما مرّ نفع، وإن مضى، اشتاقت إليه القلوب.

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ الأحزاب: 23.

إنها سيرة تستحق أن تُروى لا للذكرى فقط، بل لتكون نبراسًا للعلماء، ودليلًا للسالكين، وعبرةً للمصلحين في كل زمان.

رحم الله أبا محمد، ما أعظمه في صمته، وما أفقهه في علمه، وما أعفّه في زهده.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق