بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
للهداية خمس مراتب، وبعضها لا تتم إلا باستكمال المرتبة التي قبلها:
المرتبة الأولى: معرفة الخير، وهي سهلة، لأنّ طرق معرفته كثيرة، ومنها: الفطرة والعقل.
المرتبة الثانية: الاقتناع والإقرار والاعتراف به، وهي أصعب؛ لأنها تستلزم العمل به، أو الاعتراف على نفسه بالتقصير والخطأ إن لم يعمل به.
المرتبة الثالثة: العمل بالخير ابتغاء وجه الله، وهي أصعب وأصعب، لأنها تحتاج إلى جهادِ النفس وتعبها.
المرتبة الرابعة: المداومة والثباتُ على ذلك، وهي أشدّ صعوبة، لأنها تحتاج إلى مرابطة وملازمة دائمة.
المرتبة الخامسة: المداومة والثباتُ على ذلك بإخلاصٍ تامّ لله تعالى، وصدقِ توجّه لله تعالى وإقبالٍ عليه، وهي غايةٌ في الصعوبة والندرة، لأنها تحتاج إلى خروجِ النفس من تحكّم صاحبها إلى الاحتكام إلى خالقها، وتجرّدها من هواها إلى هُدَى مولاها، كما قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}.
وقد ذكر الله تعالى هذه المراتب في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
قال ابن القيم رحمه الله: فأمرهم بالصبر وهو حال الصابر في نفسه.
والمصابرة وهي حاله في التصبُّر مع خصمه - وهو الشيطان -.
والمرابطة وهي الثبات واللزوم والإقامة على التصبُّر والمصابرة.
فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبُّد بالتقوى.
فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [عدة الصابرين (1/ 33)].
وصاحب المرتبة الخامسة العالية: لاحظّ لنفسه في أيّ قول وعمل، وحركة وسكون، وحبّ وبغض، ومنع وعطاء، وفرح وحزن، حتى صار يحبّ ما يحبّ ربه، ويكره ما يكره ربه، ويأمر بما يأمر به ربه، وينهى عما ينهى عنه ربه، ويرضى بما يرضي ربه، ويغضب لما يغضب له ربه، ويعطي من أعطاه ربه، ويمنع من منع ربه، فهو العبد الذي أخلص لله فأخلصه الله له، وهذا حال النبيّين والصدّيقين والشهداء.
(قد اطمأنَّ قلبُه باللَّه، وسكنت نفسُه إلى الله، وخلصتْ محبته للَّه، وقصَرَ خوفَه من الله، وجعل رجاءَه كلَّه للَّه، قد اتخذ الله وحدَه معبودَه ومرجوَّه ومخوفَه وغايةَ قَصْدِه ومنتهى طلبِه، واتخذ رسولَه وحدَه دليلَه وإمامَه وقائدَه وسائقه، فوحَّد الله بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه، وأفرَدَ رسوله بمتابعته والاقتداء به والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه). طريق الهجرتين (1/ 9).
وهو من السابقين المقربين، الذين جعلوا أعمالهم كلّهَا لله؛ الَّذين لَا يزالون يَتقَرَّبُون إلى الله بالنوافل حَتَّى يُحِبهُمْ، وَمن أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله وَمنع لله فقد اسْتكْمل الإيمان.
هؤلاء – نسأل الله أن نكون منهم – هم الذين قال الله تعالى عنهم: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}، الذي سبقوا لكل طاعة، وسارعوا إلى كل عبادة، وهجروا هواهم وحظوظ أنفسهم وهاجروا إلى ربهم وحبيبهم، {إني مهاجر إلى ربي} {إني ذاهب إلى ربي}.
سابقوا في الدنيا إلى الخيرات، فقرّبهم ربهم عنده في الجنات، في جنات النعيم، في أعلى عليين، في المنازل العاليات، التي لا منزلة فوقها.
اللهم إنا نسألك أن نكون منهم..
اللهم إنا نسألك من فضلك، ونعوذ بك من مخالفتك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين