قصيدة الأرملة المرضعة لمعروف الرصافي

3.8k
5 دقائق
25 ذو القعدة 1446 (23-05-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

للشعر دورٌ كبير في التعبير عن المشاعر والأحاسيس ووصف الحالات الإنسانية في جميع أحوالها، وقد وظف الشعراء هذا في شعرهم خاصة في الشعر الحديث وخاصة إيليا أبي ماضي ومعروف الرصافي حيث لهم درر شعرية في هذا المجال.

ومن روائع الشاعر العراقي الكبير / معروف الرصافي في (قصيدة الأرملة المرضعة) وهي قصيدة كما قيل عنها كتبت بدموع عيني الرصافي، فجاء التعبير عن حالة المرأة الفقيرة تجسيدًا صادقًا ومعبرا ومجسدا دقة ورقة التعبير عن المشكلة (الفقر والفقراء) ووصف أحوالهم والتعاطف معهم بأسلوبه الشعري المميز.

ولروعة القصيدة فقد حصل أحد الطلاب من فرنسا على درجة الدكتوراه عن دراسته حول هذه القصيدة.

*موضوع قصيدة قصيدة الأرملة المرضعة للشاعر العراقي / معروف الرصافي:

يقول الناقد مؤيد الشرعة:" تناولت هذه القصيدة جملة من الموضوعات وهي على النحو الآتي: تحدث الشاعر عن حال المرأة التي تفقد زوجها في ذلك العصر وما تعانيه من صعوبات حياتية تحدث الشاعر عن أزمة أخلاقية تتمثل المرأة الأرملة وكونها تعاني الجوع والبرد والحزن. تحدث الشاعر عن حال الرضيعة كيف أن الجوع أرهقها حتى أنها ما عادت تصيح طلبًا للحليب، فقد جفّ ضرعا أمها من الجوع هي الأخرى.

وتقول الكاتبة *تماضر الفنش": تضمّنت أبيات قصيدة لقيتها يا ليتني ما كنت ألقاها (الأرملة المرضعة) مجموعة من الأفكار الرئيسة، وهي:

لقاء معروف الرصافي بالأرملة المرضعة.

وصف حال الأرملة المرضعة وطفلتها.

سبب حال هذه المرأة وطفلتها.

أثر مشاهدة الأرملة المرضعة وطفلتها في نفس الشاعر.

مساعدة الأرملة المرضعة.

بيان أهمية العدل والإحسان.

مناشدة أهل الخير ممّا يملكون المال بتقديم المساعدة.

وقد ألقى الرصافي تلك القصيدة في 11 يناير/كانون الثاني من عام 1929م في حفل جمعية حماية الأطفال:

لَقِيتُها لَيْتَنِي مَا كُنْتُ أَلْقَاهَا *** تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَا

أَثْوَابُهَا رَثَّةٌ والرِّجْلُ حَافِيَةٌ *** وَالدَّمْعُ تَذْرِفُهُ في الخَدِّ عَيْنَاهَا

بَكَتْ مِنَ الفَقْرِ فَاحْمَرَّتْ مَدَامِعُهَا *** وَاصْفَرَّ كَالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَا

مَاتَ الذي كَانَ يَحْمِيهَا وَيُسْعِدُهَا *** فَالدَّهْرُ مِنْ بَعْدِهِ بِالفَقْرِ أَشْقَاهَا

المَوْتُ أَفْجَعَهَا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَا *** وَالهَمُّ أَنْحَلَهَا وَالغَمُّ أَضْنَاهَا

فَمَنْظَرُ الحُزْنِ مَشْهُودٌ بِمَنْظَرِهَا *** وَالبُؤْسُ مَرْآهُ مَقْرُونٌ بِمَرْآهَا

كَرُّ الجَدِيدَيْنِ قَدْ أَبْلَى عَبَاءَتَهَا *** فَانْشَقَّ أَسْفَلُهَا وَانْشَقَّ أَعْلاَهَا

وَمَزَّقَ الدَّهْرُ، وَيْلَ الدَّهْرِ، مِئْزَرَهَا *** حَتَّى بَدَا مِنْ شُقُوقِ الثَّوْبِ جَنْبَاهَا

تَمْشِي بِأَطْمَارِهَا وَالبَرْدُ يَلْسَعُهَا *** كَأَنَّهُ عَقْرَبٌ شَالَتْ زُبَانَاهَا

حَتَّى غَدَا جِسْمُهَا بِالبَرْدِ مُرْتَجِفًا *** كَالغُصْنِ في الرِّيحِ وَاصْطَكَّتْ ثَنَايَاهَا

تَمْشِي وَتَحْمِلُ بِاليُسْرَى وَلِيدَتَهَا *** حَمْلًا عَلَى الصَّدْرِ مَدْعُومًَا بِيُمْنَاهَا

قَدْ قَمَّطَتْهَا بِأَهْدَامٍ مُمَزَّقَةٍ *** في العَيْنِ مَنْشَرُهَا سَمْجٌ وَمَطْوَاهَا

مَا أَنْسَ لا أنْسَ أَنِّي كُنْتُ أَسْمَعُهَا *** تَشْكُو إِلَى رَبِّهَا أوْصَابَ دُنْيَاهَا

تَقُولُ يَا رَبِّ، لا تَتْرُكْ بِلاَ لَبَنٍ *** هَذِي الرَّضِيعَةَ وَارْحَمْنِي وَإيَاهَا

مَا تَصْنَعُ الأُمُّ في تَرْبِيبِ طِفْلَتِهَا *** إِنْ مَسَّهَا الضُّرُّ حَتَّى جَفَّ ثَدْيَاهَا

يَا رَبِّ مَا حِيلَتِي فِيهَا وَقَدْ ذَبُلَتْ *** كَزَهْرَةِ الرَّوْضِ فَقْدُ الغَيْثِ أَظْمَاهَا

مَا بَالُهَا وَهْيَ طُولَ اللَّيْلِ بَاكِيَةٌ *** وَالأُمُّ سَاهِرَةٌ تَبْكِي لِمَبْكَاهَا

يَكَادُ يَنْقَدُّ قَلْبِي حِينَ أَنْظُرُهَا *** تَبْكِي وَتَفْتَحُ لِي مِنْ جُوعِهَا فَاهَا

وَيْلُمِّهَا طِفْلَةً بَاتَتْ مُرَوَّعَةً *** وَبِتُّ مِنْ حَوْلِهَا في اللَّيْلِ أَرْعَاهَا

تَبْكِي لِتَشْكُوَ مِنْ دَاءٍ أَلَمَّ بِهَا *** وَلَسْتُ أَفْهَمُ مِنْهَا كُنْهَ شَكْوَاهَا

قَدْ فَاتَهَا النُّطْقُ كَالعَجْمَاءِ، أَرْحَمُهَا *** وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيَّ السُّقْمِ آذَاهَا

وَيْحَ ابْنَتِي إِنَّ رَيْبَ الدَّهْرِ رَوَّعَها *** بِالفَقْرِ وَاليُتْمِ، آهَا مِنْهُمَا آهَا

كَانَتْ مُصِيبَتُهَا بِالفَقْرِ وَاحَدَةً *** وَمَوْتُ وَالِدِهَا بِاليُتْمِ ثَنَّاهَا

هَذَا الذي في طَرِيقِي كُنْتُ أَسْمَعُهُ *** مِنْهَا فَأَثَّرَ في نَفْسِي وَأَشْجَاهَا

حَتَّى دَنَوْتُ إلَيْهَا وَهْيَ مَاشِيَةٌ *** وَأَدْمُعِي أَوْسَعَتْ في الخَدِّ مَجْرَاهَا

وَقُلْتُ: يَا أُخْتُ مَهْلًا إِنَّنِي رَجُلٌ *** أُشَارِكُ النَّاسَ طُرًَّا في بَلاَيَاهَا

سَمِعْتُ يَا أُخْتُ شَكْوَى تَهْمِسِينَ بِهَا*** في قَالَةٍ أَوْجَعَتْ قَلْبِي بِفَحْوَاهَا

هَلْ تَسْمَحُ الأُخْتُ لِي أَنِّي أُشَاطِرُهَا*** مَا في يَدِي الآنَ أَسْتَرْضِي بِهِ اللهَ

ثُمَّ اجْتَذَبْتُ لَهَا مِنْ جَيْبِ مِلْحَفَتِي *** دَرَاهِمًَا كُنْتُ أَسْتَبْقِي بَقَايَاهَا

وَقُلْتُ يَا أُخْتُ أَرْجُو مِنْكِ تَكْرِمَتِي *** بِأَخْذِهَا دُونَ مَا مَنٍّ تَغَشَّاهَا

فَأَرْسَلَتْ نَظْرَةً رَعْشَاءَ رَاجِفَةً *** تَرْمِي السِّهَامَ وَقَلْبِي مِنْ رَمَايَاهَا

وَأَخْرَجَتْ زَفَرَاتٍ مِنْ جَوَانِحِهَا *** كَالنَّارِ تَصْعَدُ مِنْ أَعْمَاقِ أَحْشَاهَا

وَأَجْهَشَتْ ثُمَّ قَالَتْ وَهْيَ بَاكِيَةٌ *** وَاهًَا لِمِثْلِكَ مِنْ ذِي رِقَّةٍ وَاهَا

لَوْ عَمَّ في النَّاسِ حِسٌّ مِثْلُ حِسِّكَ لِي*** مَا تَاهَ في فَلَوَاتِ الفَقْرِ مَنْ تَاهَا

أَوْ كَانَ في النَّاسِ إِنْصَافٌ وَمَرْحَمَةٌ *** لَمْ تَشْكُ أَرْمَلَةٌ ضَنْكًَا بِدُنْيَاهَا

هَذِي حِكَايَةُ حَالٍ جِئْتُ أَذْكُرُهَا *** وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَى الأَحْرَارَ فَحْوَاهَا

أَوْلَى الأَنَامِ بِعَطْفِ النَّاسِ أَرْمَلَةٌ *** وَأَشْرَفُ النَّاسِ مَنْ بِالمَالِ وَاسَاهَا

*مناسبة القصية وأسباب كتبتها:

فيما يلي نص القصة التي جعلت الرصافي يكتب قصيدة (قصيدة الأرملة المرضعة) كما نشرت في كتب الأدب والمواقع الأدبية المتخصصة.

كان الشاعر العراقي الكبير / معروف الرصافي جالسًا في دكان صديقه محمد علي، الكائن أمام جامع الحيدر ببغداد..

بينما كان الرصافي يتجاذب أطراف الحديث مع صديقه التتنجي، وإذا بإمرأة محجبة، يوحي منظرها العام بأنها فقيرة، وكانت تحمل صحنًا من وطلبت بالإشارة من صاحبه أن يعطيها بضعة قروش كثمن لهذا الصحن، لكن صاحب الدكان خرج إليها وحدثها همسًا، فانصرفت المرأة الفقيرة.

هذا الحدث جعل الرصافي يرسم علامات استفهام كبيرة، وقد حيّره تصرف السيدة الفقيرة، وتصرف صاحبه معها همسًا، فاستفسر من صديقه عنها.

فقال له: إنها أرملة تعيل يتيمين، وهم الآن جياع، وتريد أن ترهن الصحن بأربعة قروش كي تشتري لهما خبزًا، فما كان من الرصافي إلا أن يلحق بها ويعطيها اثني عشر قرشًا كان كل ما يملكه الرصافي في جيبه، فأخذت السيدة الأرملة القروش وهي في حالة تردد وحياء، وسلمت الصحن للرصافي وهي تقول: "الله يرضى عليك تفضل وخذ الصحن" فرفض الرصافي وغادرها عائدًا إلى دكان صديقه وقلبه يعتصر من الألم.

عاد الرصافي إلى بيته، ولم يستطع النوم ليلتها، وراح يكتب هذه القصيدة والدموع تنهمر من عينيه كما أوضح هو بقلمه.

*القصيدة قصة سردية

يقول الناقد مؤيد الشرعة: إن المتأمل لأبيات هذه القصيدة يجد أن الشاعر يقدم لنا قصيدتها وكأنها قصة سردية يعبّر فيها عن موقف حدث معه لكن بصبغة شعرية، فالشاعر يوظف الشعر ليعبُرَ من خلاله إلى دواخل القارئ ليثيره وليحرك مشاعره تجاه هذه المرأة التي تعاني من الحرمان والعوز.

فنرى الشاعر يصف هذه المرأة بحال يرثى لها، فهي تمشي بأطمار ولباس بالٍ، وقد ظهر على وجهها الشحوب والتعب والجوع، ففهم من حالتها الخارجية أنها مفجوعة بزوجها، الذي مات وخلفها بلا معين، فنرى الشاعر يتهم الدهر ويلقي عليه اللوم، فيصفه بالرجل الذي اعتدى عليها ومزّق ثوبها وتركها شبه عارية، ليلسعها البرد مثل العقرب.

ومن ثم يرسم لوحة تتجلى فيها هذه المرأة وهي تحمل رضيعًا بيدها، وقد لفتها بأقمشة ممزقة تدعو ربها بأن يرزقها حتى يدب اللبن في ثدييها؛ لترضع هذه الطفلة قبل أن تموت جوعًا، فالشاعر كان يقف قريبا يسمع ويرى وينسج في مخياله هذه اللوحة الشعرية، التي تعبر عن أزمة أخلاقية يعانيها المجتمع. (الشرعة،2023م).

*الصورة الفنية في القصيدة:

يقول الدكتور جمال فودة في دراسة له بعنوان: "قراءات نقدية الصورة وإنتاج الدلالة. قراءة أسلوبية في قصيدة الأرملة المرضع لمعروف الرصافي".

تبدأ القصيدة بهذه الصورة المحورية تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَا؛ إذ تتمحور القصيدة كلها حول هذه الصورة التي تتحول إلى بناء رمزي متكامل لموقف شعوري، وفي داخل هذا البناء تتوالى صور جزئية تقوم على علاقات مألوفة أو غير مألوفة، وإزاء هذا التشكيل الفني يتسع مجال الدلالة ويتكشف في كل مقطع جانب من جوانبها.

ومن ثم يستقطب البناء المركزي حوله مجموعة من الصور والإيحاءات التي تدور في فلك الصورة المركزية فتعمق إيحاءها وتضاعف عطاءها، لتكشف رؤية الشاعر وتجسد بإيجاز أبعاد تجربته، وتتوالى الصور الجزئية في سياق القصيدة لتفصيل إجمال الصورة المركزية بالوقوف على خطوطها وألوانها التي تلقى بظلالها على بنية النص وصوره.

ويرى الدكتور جمال فودة أيضًا أن:" وجاءت كل الصور الشعرية بعد ذلك متفرعة منها مؤكدة لها ومفصلة لإجمالها، إذ تصور القصيدة مجموعة من المشاهد، يكاد كل مشهد فيها أن يقوم بذاته، لكننا ما نلبث أن ندرك إدراكًا مهمًا أن شيئًا ما يصادفنا في كل مشهد، كأنه يتخذ في كل مرة قناعًا جديدًا حتى إذا ما انتهت القصيدة أدركنا أن هذه المشاهد لم تكن أقنعة بل مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة."(فودة،2022م).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

قصيدة الأرملة المرضعة

جمال فودة: قراءات نقدية

الصورة وإنتاج الدلالة.. قراءة أسلوبية في قصيدة الأرملة المرضع لمعروف الرصافي

د. جمال فودة نشر بتاريخ: 19 كانون2/يناير 2022

مؤيد الشرعة، تحليل قصيدة الأرملة المرضعة

*تماضر الفنش

شرح قصيدة لقيتها ليتني ما كنت ألقاها،١٢ أكتوبر ٢٠٢١


مقالات ذات صلة


أضف تعليق