ولا تبذر تبذيرًا

142
5 دقائق
2 ذو الحجة 1446 (30-05-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

اتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، والتزموا سنَّةَ نبيكم تهتدوا، وأخلِصوا للهِ تبارك وتعالى نياتِكم تُفلِحوا، وابتعدوا عن المنكرات تسْلموا، واستبِقوا الخيراتِ تغنموا وتربحوا.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.

معاشر المؤمنين الكرام: تقول الإحصائيات الرسمية: إنّ دول الخليج تأتي في مقدمة الدول الأكثرِ استهلاكًا للمواد الغذائية، وأنَّ ما يزيدُ عن الثلث من غذائنا اليومي يُرمى في النفايات، وهو ما يقربُ من الثلاثة عشر مليون طنّ من بقايا الأطعمة، كلهُ يُلقى في صناديق القمامة بشكلٍ يومي. وأنّ تكلفةَ هذا الهدرِ المهولِ تصلُ الى 40 مليار ريال سنويًّا.

ليس هذا فحسب بل إنّ هناكَ هدرٌ رهيبٌ في استهلاك الماء، وأنّ متوسطَ استهلاكِ الفردِ الواحدِ للمياه وصلَ إلى 286 لترًا يوميًا، بينما المتوسط العالمي لا يزيد عن 150 لترًا يوميًا، وقل مثل ذلك عن استهلاك الكهرباء وغيرها من المواد الأساسية للحياة فكلها بلغت نسبًا عالية ومفزعة.

وحين تأتي الإجازة يأتي معها الإسرافُ في نفقات السفر والرحلات، حيث تؤكدُ الإحصائيات: إنّ السعوديين ينفقونَ في رحلاتهم ما يزيدُ عن المائة مليار ريال سنويًا. ثم تأتي الحفلاتُ بأنواعها ومناسباتها الكثيرة، فحفلاتٌ للنجاح، وحفلاتٌ للتخرج، وحفلاتٌ لعقد القران، وحفلاتٌ للولادة، وحفلاتٌ للبيت الجديد، وحتى الطلاق، صار له حفلات، إلى غيرِ ذلك، من مناسبات الهدر والإسراف.

وأكثر ذلك مجاراةٌ للأغنياء والمترفين، وتقليدٌ للمشاهير والمفتونين، والله جلَّ وعلا يقول: {وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُون}، ويقول أيضًا: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

وما هو الإسرافُ يا عباد الله: الإسراف هو تجاوز الحدِّ، وتعدي القدر المشروع، في أيِّ فعلٍ يفعله الإنسان، وهو في الإنفاق والاستهلاك أشهر.

الإِسْرَافُ هو كل ما يُبذلُ في غير وجههِ الصحيح، ويُتجاوز فيه الحد المشروع. يقول تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، وتأمل كيف نهى الله عن الاسراف وذمَّه، وخوَّف من عاقبته محذرًا؛ فقال سبحانه: {وَأَهْلَكْنَا المُسْرِفِينَ}، وقال عزّ وجل: {وَأَنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}، وقال تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ}.

فالإسرافُ صفةٌ مذمومة، بل هي من صفات الجبارين والظلمة، قال تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}، كما أنه من صفات الفاسدين المفسدين، قال تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إن مَا تُعَانِيهِ مُجتَمَعَاتُ اليَومِ مِن ضِيقٍ في الأَرزَاقِ، وَغَلاءٍ في الأَسعَارِ، ومحقٍّ في البَرَكَاتِ، كلُّ ذلك مِن آثَارِ تَرَاكَم الذنوب والمعاصي، والمجاهرةِ بارتكاب المنكرات والمناهي، ففي محكم التنزيل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

وفي الأثر: ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وَلا رفِع إلا بتوبة، ومع الأسف يا عباد الله: فلقد تحوَّل الإسرافُ في عصرنا هذا مِن سلوكٍ فردي لبعض الأغنياء، إلى ظاهرةٍ يقع فيها كثيرٌ من الناس شعروا أم لم يشعروا. بل إنه والله ليحقُّ للمرء أن يُسميه مرضُ الاسراف أو حمى الاستهلاك. وحين يتأمَّلُ المسلمُ كتاب ربه، ويتدبرُ آياته كقَولَه تَعَالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.

وقوله جل وعلا: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}.

وقوله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ.. }.

فسيجد في مَجمُوعِها بَيَانًا شَافِيًا للمنهج الصحيح في التعامل مع النعم ومقدرات الحياة، وأنَّ الإِيمَانَ وَالتَّقوَى، وشكرَ المنعمِ جلَّ وعلا، هي أهمُّ وأكبرُ أسبابِ الأَمنِ وَحلول البَرَكَات، وأنّ كفرَ النعمةِ وإساءةَ استخدامها مؤذنٌ بزوالها، وحلول العقوبات العاجلة، قال جل وعلا: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.

لقد بلغت أعداد الجياع في العالم أكثر من مليار إنسان. أكثرهم في البلاد الإسلامية. وإنّ نظرةَ تأملٍ للعالم من حولنا، تُرينا قُدرة المولى جلّ وعلا على تبديل الأحوال، وانقلابِ الأوضاع.

فالعراق الذي كان مأوى التجار، ومضرب المثل في الغنى ورغد العيش، بلغت فيه نسبة الفقر أرقامًا مهولة، ومثلهُ الشامَ واليمنَ ومصر والسودان وغيرها من الديار التي كان أجدادنا يقصدونها للتكسب، ويتغربونَ فيها سنواتٍ طويلة.

وإن اردتم العظةَ والعبرة، فسلوا كبارَ السنِّ عمَّا مرَّ بهم من الجوع والفقر، سيحدثونكم عن أحوالٍ قد لا تُصدقونها، فقد كان الواحد يسقط مغشيًا عليه في الطرقات، يظنُّ أنه مات وليس به إلا الجوع، حتى بلغ بهم الجوع أن أكلوا الجيف والكلاب.

ويقول أحد كبار السن: *لقد حدثناكم كثيرًا عن الجوع والفقر الذي مرّ بنا، وأخشى أن يأتي عليكم زمانٌ تحدثون أولادكم عن نِعمٍ مرت بكم ثم فقدتموها*.

ووالله يا كرام ما حفظت النعم بمثل رعاية حق الله فيها، وما استجلبت النقم بمثل الإسراف والتبذير فيها.

فعلى العاقل ألا ينهزم أمام رغبات ضعاف العقول، وأهواء النفس، فقد قال الله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَا وَاكْسُوَهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}.

واعلموا أن وفرة المال ليست مبررًا مقبولًا للإسراف، حتى وإن كان المنفق غنيًا مقتدرًا، فسيبقى الإسراف مذمومًا، يسأل عنه المرء يوم القيامة ويحاسب، قال الله تعالى في آخر سورة التكاثر: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.

وفي الحديث الصحيح، قال : "لا تزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامةِ حتى يسأل عن أربع"، وذكر منها: "عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه".

فاتقوا الله يا عباد الله فيما أولاكم الله من النعم والخيرات. ففي الحديث الحسن، يقول عليه الصلاة والسلام: "كلوا، واشرَبوا، وتصدَّقوا، والبَسوا في غيرِ إسرافٍ ولا مَخِيلةٍ". أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون}.

اتقوا وكونوا مع الصادقين، وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

معاشر المؤمنين الكرام:

حين يتأمل العاقل في أحوال الناس، يجد أن أكثرَ الناسِ ليسوا بحاجةٍ لزيادة مستوى الدخل، بقدر ما هم في حاجةٍ لحسن التدبير في المعيشة والاقتصاد فيها. وقبل ذلك وبعده الأخذ بأسباب حلول البركة من الله فيما يرزقهم. ومما ينسب لابن مسعود t قوله: الاقتصادُ في النفقةِ نِصفُ المعيشةِ.

فالتوسط والاعتدالُ والاقتصاد في النفقة: قاعدةٌ من قواعد الإسلام الكبرى، والإفراطُ أخو التفريط. وذا المروءةِ من يعرفُ للمال قدرهُ ومكانته، فيضعهُ في مواضعه، ويبذلهُ في مجالاته الصحيحة، بطيب نفسٍ وصدق نيةٍ، أداءً للحقوق والواجبات، وطلبًا لمرضاة فاطر الأرض والسموات.

قال ابن مسعود t: (التبذير: هو الإنفاق في غير حق، أما الإنفاق في الحق فلا يُعد تبذيرًا).

وحينما قال أهل العلم: لا خير في الإسراف، قالوا أيضًا: لا إسراف في الخير، وحينما قالوا: لا تنفق في الباطل ولو قليلًا، قالوا أيضًا: لا تمنع عن الحق قليلًا ولا كثيرا.

وخيرٌ من كل ذلك: قول الحق جل وعلا: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}. فهل يضرُّ أولي الفضل والسعةِ والغنى أن يقتصدوا في أطعمتهم وملابسهم، وأن يوفروا في حفلاتهم ومناسباتهم، وأن يرَّشِدوا من استهلاكهم ونفقاتهم، ثم يبذلوا أموالهم فيما تكتمِلُ به مروءتهم، وما يسمو به نبلهم، وما تدعو إليه حقوقُ مجتمعهم وأمتهم. والله إنَّ ذلك لممَّا يزيدُهم كرامةً إلى مكارمهم، ورفعةً إلى رفعتهم، وذلكم هو مسلك التوسط والعدل، وسبيل الفضل والنبل، وسطٌ خيار، بين البخل والإسراف، وميزانُ عدلٍ، بين الشحُّ والتبذير، وقوامٌ قِسط، بين الإفراط والتفريط. صراطٌ مستقيم، ومسلكٌ متوازن، يملك به العبدُ الدنيا، ليسخِرها للدين، ويأخذَ من متاع الأولى ما يبلغه المنازلَ العالية في الدار الأخرى، {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

فاتقوا الله معاشر المؤمنين، واحفظوا أموالكم، اكتسبوها بحقٍّ، وأنفقوها في الحقِّ؛ واستعينوا بها على طاعة الله، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق