بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تخيل أنك تعيش في عالمٍ لا وجود فيه للبنوك، ولا للتحكم المركزي بالمال، لا دولة تطبع، ولا سلطة تصادر، بل المال بين يديك وحدك، تتبادله مباشرةً مع الناس، دون وسيط. هذه ليست قصة خيال علمي. هذه هي فكرة البيتكوين.
من هو مبتكر هذه الفكرة؟ اسمه «ساتوشي ناكاموتو»، شخص أو ربما مجموعة أشخاص. لا أحد يعلم من هو بالضبط، لم يظهر في الإعلام، ولم يُعرف له وجه. فقط ورقة علمية نُشرت سنة 2008، وقلبت بها موازين النظام المالي العالمي رأسًا على عقب.
فكرة البيتكوين باختصار: عملة غير مركزية. أي لا تسيطر عليها دولة، ولا تخضع لبنك مركزي. الناس يتداولونها فيما بينهم باستخدام شبكة تُسمّى "البلوك تشين" وهي ببساطة دفتر حسابات عالمي مفتوح، لا يمكن التلاعب فيه ولا تزييفه.
إذن، ما الحكم الشرعي؟
نظم مجمع الفقه الإسلامي ندوة قبل سنوات عن العملات الرقمية، وكان الحضور من العلماء منقسمًا إلى فريقين:
فريق يرى التحريم والمنع، ويتكئ على أمرين: المخاطرة العالية، والغموض حول من يقف خلف العملات. قالوا: إن ضاعت أموالك، فمن تحاسب؟ وإن سُرقت محفظتك الرقمية، فلا عنوان تلجأ إليه.
وفريق آخر يرى الجواز، ويستند إلى القاعدة المعروفة: "الأصل في المعاملات الحل". والاعتراضات المطروحة كلها موجودة –بدرجة أو بأخرى– في العملات الورقية العادية: التضخم، التزوير، التذبذب في القيمة... إلخ.
حتى التزوير الذي يُخشى منه، قال بعضهم إن البيتكوين أشد تحصينًا منه، لأنه يقوم على التعدين، وهي عملية معقّدة تستهلك طاقة وجهدًا، ولا يمكن تزويرها. كل عملية شراء أو بيع لا تتم إلا عبر هذه الشبكة المحكمة.
هناك من قال: هذه العملات ليست صادرة عن سلطة مركزية، فليست بعملة.
والرد: من قال إن العملة لابد أن تصدر من جهة؟ قديمًا كان الناس يبيعون ويشترون بالمقايضة. حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكّر أن يجعل جلود الإبل عملة! وتراجع، لا لحرمتها، بل لخوفه على الدواب من الانقراض.
المسألة ليست أبيض أو أسود، ولهذا تم اقتراح هذا التقسيم:
عملات رقمية محرّمة قطعًا: وهي التي تصدرها جهات مشبوهة، أو تكون متصلة بأعمال قمار أو غسيل أموال. هذه لا يجوز شراؤها ولا تداولها.
عملات مباحة بوضوح: مثل العملات الرقمية الرسمية، كالدولار الرقمي، أو اليورو الرقمي. هذه تمثّل العملة الحقيقية، ولا فرق شرعي بينها وبين نظيرتها الورقية.
عملات محل خلاف: وأبرز مثال عليها البيتكوين. لا تمثل عملة دولة، ولا تُعرف الجهة التي أصدرتها، ولكن في الوقت نفسه لا تصدر عن جهة مشبوهة.
والميل إلى جواز تداول البيتكوين، استنادًا إلى الأصل في المعاملات: الإباحة. ما لم يصدر من ولي الأمر منعٌ، أو يتسبب ذلك في ضررٍ بيّن.
بل إن بعض الدول الآن تعترف بالبيتكوين كعملة رسمية، وتضع له أجهزة سحب آلي (ATM) يمكنك من خلالها بيع البيتكوين وسحب الكاش، كأي عملة تقليدية.
إذًا في حال اقتنيتَ بيتكوين فهل عليه زكاة؟ نعم تجب فيه الزكاة إذا بلغ النصاب ومضى عليه الحول كأي مالٍ مدخر. ولا تنسَ: الزكاة 2.5% إذا بلغ ما يعادل 85 غرامًا من الذهب أو 595 غرامًا من الفضة.
أيضًا يجب التنبه لأحكام الربا. فلا يصح بيع البيتكوين بالآجل. لابد من القبض فورًا. القبض هنا ليس ماديًا، لأنه لا وجود فيزيائي له، بل قبض حُكمي: تنتقل العملة إلى محفظتك فور الدفع.
في النهاية، فالبيتكوين ليس حرامًا لذاته، وليس حلالًا على الإطلاق، بل هو أداة، والحرمة أو الإباحة تتعلق بكيفية استخدامه، والجهة التي تصدره، والغرض من تداوله.
فكن على بصيرة، لا تبالغ في الخوف، ولا تنخدع بالتهويل، لكن أيضًا لا تغفل عن الضوابط.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين