بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
فالإيمان بالقدر ليس مسألةً ترَفيّة تُتداول في المجالس بين الجدل والتسلية، بل هو لبُّ العقيدة، وركنٌ لا يقوم الإيمان بدونه.
وهو من أعظم ما يثبت به القلب إذا اضطربت الأحوال، وزلت الأقدام، وتغيرت الموازين.
ولعل أول ما ينبغي أن نستحضره: أن الله سبحانه ما خلق هذا الخلق هملًا، ولا أرسله سُدى، وإنما قدّر الأشياء قبل أن تكون، ورتّبها بحكمة، وجعل لها آجالًا ومقادير لا تتعداها.
وإن كنت ممن يرجو طمأنينةً في القلب حين تداهمه الفواجع، فاعلم أن الإيمان بالقدر هو باب تلك الطمأنينة.
الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأربع مراتب، من جحد واحدة منها أو أنكرها، لم يكن مؤمنًا به على الحقيقة.
المرتبة الأولى: العلم:
أن تؤمن أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، علمه لا يحده زمان ولا يسبقه جهل، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. هذا ليس علمًا جزئيًا ناقصًا يحتاج إلى تحديث كما في عقول البشر، بل هو علمٌ شاملٌ محيطٌ، لا تغيب عنه ذرة ولا تسقط ورقة إلا وهو يعلمها. قال تعالى: ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾.
فإذا علمت أن الله يعلم ما أنت فاعله قبل أن تفعله، علمًا لا يسبق إليه جهل، ولا يلحقه نسيان، فإنك تكون قد وضعت قدمك على أول طريق الإيمان بالقدر.
المرتبة الثانية: الكتابة:
أن تؤمن أن الله كتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ. كما في الحديث الصحيح: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء".
هذه الكتابة ليست تقليلًا من حرية العبد، ولا تسلطًا عليه، إنما هي كتابة علم، لا كتابة جبر. الله كتب لأنه يعلم، لا لأنه يُكرهك على أفعالك. وما من شيءٍ يحدث، كبيرًا كان أو صغيرًا، إلا وقد كُتب في أمّ الكتاب، ﴿إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾.
المرتبة الثالثة: المشيئة:
أن تؤمن أن مشيئة الله نافذة، لا رادّ لها، ولا غالب لها. فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وإن اجتمع عليه أهل الأرض والسماء. وأما مشيئة العبد، فهي تابعة لمشيئة الرب، لا تسبقها، ولا تستقل عنها. قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
فلا يخرج شيء عن إرادته، ولا يقع في الوجود إلا ما أذن به سبحانه. وهذه المشيئة لا تنافي أن الإنسان مخيَّر في أفعاله، بل هو مأمور ومنهيّ، يُحاسب على فعله لأنه يريده ويقصده، لكنه لا يخرج عن مشيئة الله في نهاية المطاف.
المرتبة الرابعة: الخلق:
أن تؤمن أن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد، فهو الذي خلقك وخلق فعلك. قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾.
فليس هناك خالق مع الله، ولا شريك له في فعله. فأنت تفعل، وتكسب، وتُحاسب، لكن الله هو الذي خلق القدرة والفعل والنية والنتيجة. هذه عقيدة أهل السنة، لا تسلب العبد مسؤوليته، ولا تنسب الظلم إلى الله، بل تقيم التوازن الذي تستقيم به الفطرة.
فإذا أُصبت بمصيبة، فاعلم أنها لم تكن لتخطئك، وإذا فاتك أمر، فاعلم أنه لم يكن ليصيبك. وهذا ليس دعوة للكسل، ولا تبريرًا للعجز، بل هو تسليم وانقياد لله، وطمأنينة قلب، وراحة ضمير.
لا تبحث في القدر بعين الحائر، بل انظر إليه بعين المؤمن، واعلم أن الله أرحم بك من نفسك، وأن كل ما جرى، فيه حكمةٌ وإن خفيت، وفيه رحمةٌ وإن تأخرت، وفيه عدلٌ لا يُظلم فيه أحد.
إن الإيمان بالقدر، هو أن تقول عند الألم: "الحمد لله"، وأن تقول عند المنع: "ما شاء الله"، وأن تقول عند الفقد: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وأن تقول عند كل شدة: "اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها".
فآمن بالقدر، وارضَ بما قسمه الله، فإنك عبد، وربك حكيم، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين