الشرك الأصغر

95
2 دقائق
2 محرم 1447 (28-06-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الخطر الذي يتخفّى في الطاعة:

في زحام العبادات، وسط أصوات التكبير والدموع المنهمرة في القيام، وبين صفحات المصحف التي تتقلّب بأيدينا كل يوم... قد يندسّ عدوّ لا يُرى. عدوّ لا يأتيك بسيف ولا بعصا، بل يتسلّل إليك في ثوب نقيّ، ولهجة خاشعة، وهمسة نوايا.

اسمه: الرياء.

أتعرف ما قال رسول الله عن هذا العدوّ؟ قال، كما رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه، وغيرهما، بسندٍ صحيح من حديث محمود بن لبيد:

"إنَّ أخوَفَ ما أخافُ عليكُمُ الشِّركُ الأصغرُ: الرِّياءُ، يقولُ اللهُ يومَ القيامةِ إذا جَزَى النَّاسَ بأعمالِهم: اذهَبوا إلى الذينَ كنتم تُراؤونَ في الدُّنيا، فانظُروا هل تَجِدونَ عِندَهم جزاءٍ".

ما الذي يخيف نبيّ الرحمة على أمته أكثر من هذا؟ ليس القتل، ولا الزنا، ولا الكبائر الجليّة، بل هذا الذي يندسّ في قلب العمل، فيشوّهه وهو يبتسم.

الرياء... أن تصلي، لكنك تنظر من طرف عينك إن كان أحد يراك.

أن تتصدق، فيسبق يدك لجيبك خاطرٌ يقول: (ليروني).

أن تحفظ كتاب الله، وتُعلّمه، وتبكي في الدعاء، لا لأن القلب خاشع، بل لأن الجمهور حاضر.

وليس هذا افتراءً أو مبالغة، بل هو ما أخبرنا به النبي في حديث يخلع القلب، رواه مسلم، عن أبي هريرة:

"إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ..." إلى آخر الحديث.

الله أكبر… أهذا هو مصير من ملأ المساجد بكلماته؟ من سُجّل له آلاف المحاضرات؟ من بكى الناس بصوته في التراويح؟

نعم… إن لم يكن العمل لله، كله لله، فالنار هي المآل، ولو هلّل معك الناس، ورفعوا صورك، وألّفوا عنك الكتب.

أما بقية الحديث: "... ورَجُلٌ وسَّعَ اللَّهُ عليه، وأَعْطاهُ مِن أصْنافِ المالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: ما تَرَكْتُ مِن سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فيها إلَّا أنْفَقْتُ فيها لَكَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقالَ: هو جَوادٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ".

ما شاء الله… تبرّعات، بناء مساجد، إفطار صائم، دعم أيتام لكن في قلبه شيء، شيء صغير… لكنه يكفي.

يريد أن يُقال عنه جواد، كريم، فاعل خير.

فيُقال له: كذبت!

يا إخوتي... هذه ليست خطبة جمعة، هذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، محمد ، رسول رب العالمين.

هل ترون؟ الجهاد، العلم، القرآن، المال... كلها أعمال جليلة. لكن لا قيمة لها إن لم تكن خالصة لله.

قال ابن الجوزي رحمه الله كلمة تُكتب بماء القلب لا الحبر: (اللهم إن قضيتَ عليَّ بالعذاب غدًا، فلا تخبرهم، حتى لا يقولوا: عُذّب من كان يدل الناس عليك).

ليست المسألة أن نُرى، بل: لمن نُري؟

ليست المشكلة أن يُسمع صوتك، بل: لمن تُسمعه؟

من أجل من تعمل؟

لمن كتبتَ المنشور؟

لمن دمعتَ في الدعاء؟

من هو في قلبك ساعة السجود؟

اللهم لا تجعل حظّنا من ديننا قولنا، اللهم ارزقنا الإخلاص في السر والعلانية، اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك، لا فيها رياء ولا سُمعة ولا مدح ولا نظرات.

واذكروا هذه الآية، فإنها جماع الأمر كلّه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق