كلكم راع

141
3 دقائق
2 محرم 1447 (28-06-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

حياكم الله ورفع قدركم، وجمعنا وإياكم على طاعته ومرضاته، لا يفرّق بيننا وبين الخير فرّاق، ولا يحرمنا بركة الاجتماع عليه.

حديثنا عن أمرٍ ما أكثر ما يُتلى على الألسنة، وما أقل ما يُترجم على الجوارح، حديثٍ نبويٍّ عظيمٍ ما ينبغي لمؤمنٍ أن يمرَّ عليه مرور الكرام، ولا أن يسمعه كأنّه يسمع خبرًا قديمًا لا يعنيه. قال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته... "، ثم فصّل، ثم أعاد التوكيد: "ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته".

كلامٌ ما أظنه يحتاج إلى فقيه ليشرحه، ولا إلى خطيب ليزينه. كل واحد منّا يعرف موضعه، ويعرف من استُرعي عليه، ويعرف حدود مسؤوليته، لكن المسألة ليست في العلم، إنما في الأمانة... في التقوى.

كم من الناس اليوم يتقلد مسؤولية، ثم يظن أن الوظيفة لقب، وأن الكرسي شرف، وأن الراتب غنيمة، وأن الله لا يسأل! كم من موظف يدخل إلى دوامه كما يدخل إلى مقهى، أو ربما لا يدخل أصلًا، ثم يمدّ يده إلى راتبٍ شهري كأنّه أجر مشقّة، وهو لم يشقَّ على نفسه بخطوة؟!

ما الذي يجري؟!

والله لقد صار الحديث عن الوظيفة حديث مكرٍ لا أمانة فيه، إلا من رحم الله. صارت الإدارات تُدار بالتلفون، والحضور يُوزّع بالتراضي، والدوام يُكتب على الورق ولا يُرى على الأرض! ثم إذا أنكر منكرٌ، قالوا له: المدير راضٍ، والوكيل مُطّلع، والوزير لا يرى بأسًا!

سبحان الله، أهذا هو الدين؟! أهذا هو العدل؟! أتُؤخذ الأموال باسم الدولة، ويُطعم بها الأبناء، وتُركب بها السيارات، وتُبنى بها البيوت، ثم لا أحد يعمل؟!

وقد حدثنا أحدهم - وما أكثر من يحدّثك بهذا- أنّه يعمل في قسم يستقبل شكاوى الناس. قال لي: لا نداوم إلا نادرًا، واحد يمرّ في الأسبوع، والثاني في الأسبوعين، والباقي "تفاهم"! يعمل بالنيابة عن الجميع موظفٌ واحد، أما البقيّة فيتقاسمون الغنيمة: دوامٌ وهميّ، وحضورٌ معدوم، وأجرٌ موفور!

يا هذا، اتقِ الله، هذا لا يجوز. فأجاب: كلّ المسؤولين يعلمون، حتى الوزير يعلم. فقلت: إذا كان الوزير يعلم، فالمصيبة أعظم.

هذا ليس مال أبيه، ولا شركةً يملكها، حتى يعطي من شاء، ويعفي من شاء، ويمنح من شاء أجرًا على لا شيء! هذه أموال الناس، أموال الدولة، أموال الأمة، أموال من لم يجد وظيفةً إلى اليوم، أموال من ينتظر دوره على طابورٍ طويلٍ ليأخذ فتات فرصة، أموال من لو أُعطي الراتب لأدّى حقّه، وسهر من أجل الناس، وخدم المجتمع.

أتدرون ما قاله النبي في الذي يُستَرعى على رعية ثم يغشها؟ قال: "ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٌ لها، إلا حرم الله عليه الجنة". رواه مسلم.

حرامٌ أن تأخذ مالًا لا تستحقه.

حرامٌ أن يقال لك "لا تحضر" ثم تُطيع، وتظنّ أن الإثم على الآمر.

الإثم مشترك، إن علِم الآمر فهو شريك في الجريمة، وإن استجاب المأمور فهو شريك في الخيانة.

إن أردتَ أن تأخذ راتبًا وأنت لا تعمل، فلا بأس... بشرطٍ واحد: أن يدفعه لك المدير من جيبه! من ماله هو، من حُرّ ما يملك! أما أن يُعطيك من خزينة الدولة، ويعفيك من العمل، فهذا لا يجوز. لا يجوز شرعًا، ولا يقبل عقلًا.

لو كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيننا، ورأى ما ترونه الآن، لبكى من خشية الله، قبل أن يُبكي الناس من عدله.

أتذكرون تلك الليلة التي خرج فيها يتفقّد أحوال الناس؟ حين وجد امرأةً تُغلي ماءً لأطفالها الجائعين، لا لشيء بل حتى يظنّوا أنّ هناك طعامًا ويغلبهم النوم... ماذا فعل؟ حمل كيس الدقيق على ظهره بنفسه، وقال لأسلم: "لن تحمل عني وزري!". ثم طبخ بيده ونفخ في النار، وبقي يراقب الأطفال حتى ضحكوا. ثم قال: "الآن نمضي."

هذا هو الراعي... هذا هو الوالي... هذا هو الذي لم يغشَّ رعيّته.

أما نحن، فقد اجتمع عندنا غشّ الولاة، وتفريط الرعية. صار المسؤول لا يتق الله في من تحت يده، وصار الموظف لا يتق الله في عمله، والناس بينهما ضائعون.

ورسالتنا إلى كل وزير، إلى كل وكيل، إلى كل مدير، إلى كل رئيس قسم: اتقوا الله.

اتقوا الله قبل أن يأتيكم يومٌ لا يُقبل فيه عذر، ولا يُقبل فيه مال، ولا يُقبل فيه منصب.

ورسالتي إلى كل موظف: إن كنت لا تعمل، فلا تأخذ. وإن كنت تأخذ بلا حق، فتذكّر: قد يُغفر لك تقصير، لكن لا يُغفر لك غشّ أُمّة.

اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرَّ شرارهم، واهدِ كل مسؤول إلى الأمانة، وكل موظف إلى التقوى، واجعلنا ممن يؤدّي ما عليه، ويسأل الله حقَّه، ولا يجعل المال فتنةً له، ولا المنصب سترًا للظلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق