بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
خرج النبي ﷺ في يوم من الأيام إلى المقبرة فلم يكن خروجه صامتًا، بل سلّم على أهلها قائلًا: "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين". هو سلامٌ فيه سكينة، وفيه تذكير بأن بيننا وبين الموت صلة، ليست صلة خوف بل صلة عبرة ورحمة.
والسؤال هو الآن هل هذه الرحلة إلى القبور –التي شرعها الله للرجل– محرّمة على المرأة؟
والفقهاء –كما هي عادتهم– انقسموا في المسألة.
جمهورهم من مالكية وشافعية وحنفية، ومعهم رواية عن الحنابلة، قالوا: نعم، يجوز للمرأة أن تزور القبور.
بينما وقفت رواية أخرى للحنابلة عند المنع.
لكن لماذا قال الجمهور بالجواز؟ لأن النبي ﷺ قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها" (رواه مسلم)، ولم يقل: "فليزرها الرجال دون النساء". بل أطلق الكلام، والجمهور لا يقبلون التخصيص بلا دليل.
ثم إن في سيرة الصحابة ما يُؤيد ذلك، فعائشة رضي الله عنها، أم المؤمنين، زارت قبر أخيها عبدالرحمن.
وسألها ابن أبي مليكة: ألم يكن النبي ﷺ قد نهى؟ قالت: *بلى، كان قد نهى عنها ثم أمر بها*. وبهذا انتهى النهي، وبدأ الإذن.
بل الأعجب أن عائشة نفسها، سألت النبي ﷺ ماذا تقول إذا زارت القبور، فأجابها: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين... " إلى آخر الحديث المعروف (رواه مسلم).
فهل يُعقل أن يعلّمها ما تقوله عند الزيارة، ثم تكون الزيارة حرامًا عليها؟!
وفي مشهد آخر: امرأة تبكي عند قبر، يمر بها النبي ﷺ، فيقول: "اتقي الله واصبري" (رواه البخاري).
لم يُنكر عليها الزيارة، ولا طلب منها أن تترك المكان، بل نصحها بالصبر، وهذا دليل سكوتي له وزنه.
ولكن هل يعني هذا أن الباب مفتوح على مصراعيه؟ ليس تمامًا.
فالعلماء قالوا: إذا اعتادت المرأة زيارة القبور بشكل متكرر، حتى صارت (زوّارة) – بتشديد الواو– فقد تدخل في الحديث الذي فيه: "لعن الله زوّارات القبور" (رواه الترمذي).
واللعن هنا، كما قالوا، للمرأة التي تُكثر الزيارة، لا لمن تزور أحيانًا، وهذا فرق جوهري.
ثم إن الزيارة، لها آداب:
فإن كانت المرأة تزور بستر ووقار، وتدعو للموتى، وتعتبر، دون نياحة أو لطم أو مخالطة رجال أو كشف زينة، فزيارتها مقبولة، بل محمودة.
إذن لماذا نمنعها من التذكير بالموت، وهي أحوج إليه من كثير من الرجال؟
ألم يقل النبي ﷺ: "زوروا القبور فإنها تذكّركم الآخرة"؟ (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
هل التذكرة بالآخرة حكر على الرجال؟!
قال النووي رحمه الله: *زيارة القبور مستحبة للرجال والنساء إذا أُمنت الفتنة*. وهذا هو الميزان.
فمتى غابت الفتنة، وحضرت العبرة، فزيارة القبور باب من أبواب التذكير، لا غلظة فيه ولا إنكار.
وخلاصة المسألة والراجح والله أعلم أن زيارة النساء للقبور جائزة بشرطين:
1- ألا تكون بكثرة واعتياد.
2- ألا يصحبها منكرات كالنواح أو اللطم أو الاختلاط أو كشف الزينة.
أما إن كانت ملتزمة بالآداب الشرعية، زائرة تذكّر الموت وتدعو للموتى، فزيارتها سنة ورحمة، لا وزر فيها ولا نكير، نسأل الله أن يرزقنا قلوبًا حية، وأن يجعل زيارة القبور لنا ولنسائنا سبيلًا للعظة والعمل الصالح، لا عادة ولا شكلًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين