بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
المال فتنة. لا يثبت في يد، ولا يهدأ في قلب، ولا يكفّ عن التسلل إلى نوايا الناس. الناس تتقاتل عليه، وتنسى بسببه من كانت. لكن في وسط هذا الجنون، يخرج إنسان... ويفتح يده. يعطي، لا لأنه أغنى من غيره، ولا لأنه لا يبالي، بل لأنه يثق. يثق أن ما عند الله أبقى، وأن ما يخرج من اليد، لا يضيع، بل يثمر، ويعود. هذه هي الصدقة.
الصدقة ليست مجرّد دينار يمرّ من يد إلى يد. إنها إعلان... إعلان بأن المال ليس سيد هذا القلب، وأن هذا العبد لا يزال يعرف أن الطريق إلى الله مفروش بالعطاء، لا بالاحتفاظ.
"والصدقة برهان"، هكذا قالها النبي صلى الله عليه وسلم. برهان على الإيمان، لا مجرد فعل عابر. من ينفق ماله، يعلن -دون أن يتكلم- أن هناك في قلبه نورًا يهديه، ويقينًا يدفعه، ورضًا لا يُشترى.
قال النبي ﷺ لمعاذ رضي الله عنه: "يا معاذ، والله إني لأحبك".
وكان يمكنه أن يقول: (إني أحبك) دون قسم، لكن القسم هنا يحمل دفئًا لا تشرحه اللغة. وكأن النبي أراد أن تلتصق هذه الكلمة بقلب معاذ، لا تزول. ثم قال له: "ألا أدلك على أبواب الخير؟".
وأبواب الخير… أبواب. ليست بابًا واحدًا، لا صيامًا فقط، ولا صدقة فقط، ولا صلاة فقط.
لأن الله وسع، فلا يضيق على عباده الخير، ولا يحصره في حال دون حال.
قال ﷺ: "الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار".
تطفئها… كالماء. ولك أن تتخيل النار، ولهيبها، ثم ماء ينهمر عليها، ويغمرها، ويسكنها.
هي كذلك الصدقة، تطفئ ما أحرق القلب من ذنب، وما أثقل النفس من خطأ. وفي حديث آخر: "تطفئ غضب الرب".
والمرء لا يدري، كم غضبَ اللهَ منه وهو لا يشعر. فإذا تصدق، ولو بالقليل، جعل بينه وبين غضب الله سدًا، ربما لا يراه، لكنه هناك… قائم.
والقرآن مليء بتلك الآيات التي لا تمجّد العطاء فقط، بل تصفه بأنه من صفات أولياء الله. أولئك الذين لا ينامون إلا قليلاً، ويستغفرون كثيرًا، ويتركون جزءًا من مالهم للسائل والمحروم. لا منّة، لا استعلاء، فقط شعور عميق بالمسؤولية أمام الله.
{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ...} [البقرة:195].
{قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} [إبراهيم:31].
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16].
ثم يأتي الوعد. وعد من لا يخلف الميعاد. {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]. هذا ليس وعدًا بالتعويض فقط، بل بالإكرام. لأنك حين تعطي لله، فأنت لا تخسر، بل تشتري... تشتري مقامًا عند الله، وطمأنينة في القلب، وسعة في الرزق قد لا تُرى في الحساب البنكي، لكنها تُرى في بركة الوقت، وفي ضحكة الطفل، وفي رزق لا تدري من أين جاء.
والله يسأل سؤالاً لا ينتظر له جوابًا: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245]، وكأن الله يقول لك: أترضى أن تقرض غيره ولا تقرضني؟ أترضى أن تثق في وعد بشر وتشكّ في وعد ربّك؟
إذن ربما نجا المرء من موتٍ مفاجئ، أو ختم له بخير، لا لشيء، إلا لأن صدقةً قديمة وقفت له في موضع لا تبلغه عين ولا تدركه حسابات.
فما نقص مال من صدقة. وكلما قرأناها، سكتنا قليلًا. هل هي بركة؟ هل هو تعويض؟ هل هي سعة في النفس؟
ربما كل ذلك، وربما شيء لا تبلغه العقول. لكنها لا تنقص… هذه وعد، لا قول بشر.
ثم تمضي الحياة… وتأتي ساعة لا يؤخر فيها أجل، ولا يستقدم. وتُنتزع الروح.
يسألونك عن الروح؟ {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، لكننا نعلم أنها تسكن الجسد كله، من أطرافه إلى قلبه، من عيونه إلى قدميه.
حتى إذا نُزعت، نُزعت منه كله. فكيف تُنتزع؟
إن كانت النفس عامرة بالطاعات، رفيقة للخير، جاءت الملائكة برفق. يُقال لهم: "اخرجي أيتها النفس الطيبة…" ويُقال للعاصية: "اخرجي أيتها النفس الخبيثة…". وكأن الروح تُسمى باسم العمل، لا باسم صاحبها.
والأعمال الصالحة، هي التي تخفف، هي التي تُيَسِّر، هي التي تجعل النزع بردًا، لا ألمًا. تذهب حر القبور.
والقبور مظلمة، كما قال ﷺ: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم".
فكيف بصدقاتنا؟ كيف بما نخرجه دون أن ننتظر جزاء؟
قال ﷺ: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلوَّه حتى تكون مثل الجبل". رواه البخاري (1344) ومسلم (1014).
لأن المال حين يخرج من يدك، لا يموت… بل يعيش، وربما يطول عمره في الآخرة أكثر منك.
لهذا، حين تتصدق، لا تنظر لمن أعطيت، بل انظر من حفظت… ربما حفظت نفسك. ربما روحك. وربما قبرك.