من اطمأن بالله لا يستوحش

340
2 دقائق
30 محرم 1447 (26-07-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الطمأنينة... كلمة تتكرر في كتب العلماء، لكنها ليست مجرد شعور عابر، بل هي محطة روحانية عميقة لا يبلغها إلا من اختبر السكينة في قلبه، ودرّب نفسه على دوام الاتصال بالله.

يقول تعالى في كتابه للعصاة: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:124].

ويقول ابن القيم رحمه الله: إن السكينة التي ينزلها الله على قلب العبد هي مرحلة متدرجة، تبدأ بخطوات صغيرة ثم تعلو تدريجيًا، حتى تصل إلى حالة الطمأنينة، وهي الاستقرار الحقيقي الذي لا يغادر القلب، بخلاف السكون الذي قد يكون ظاهريًا أو مجرد غفلة.

وقال رحمه الله في مدارج السالكين: ففي القلب شعث، لا يلمه إلا الإقبال على الله. وفيه وحشة، لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته. وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته. وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه.

إذن هي ليست مجرد شعور عابر، بل هي إقامة الروح في مكانها، وكأن النفس استقرت في منزلها الروحي، فتعيش في أمان دائم مع الله، فلا يزعزعها خوف أو قلق.

ومن أجمل الأمثلة التي تعبر عن هذا المعنى قصة عبدالله بن عمر رضي الله عنه، الذي كان حياته مليئة بالعبادة والذكر، يصلي ويتلو القرآن، رغم أنه كان له تجارة لا يُستهان بها. كان يوازن بين عمله ودينه، ويُظهر كيف أن الطاعة ليست منفصلة عن حياة الإنسان العادي، بل هي التي تملأها بالطمأنينة.

عندما يفرغ الإنسان من مشاغله وأعبائه، يُدعَى إلى الانتباه والاتصال بالله، كما قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾ [الشرح:7]. – أي ركز قلبك ومالك على ذكر الله، ولا تترك نفسك تنشغل بما سواه.

هذا الانقطاع، أو التبتل، لا يعني الانعزال الكامل، لكنه توجيه القلب كله إلى الله، حتى وسط انشغالات الدنيا. ولهذا، قال أحد العلماء إن النفس التي تجد في ذكر الله سكينة وحنين، لا تمل ولا تستوحش وحدتها، بل تجد في الله جليسها وصاحبها.

ومن قصص الأولين التي تعبر عن هذا المعنى نذكر الإمام النووي رحمه الله، الذي في طفولته كان يتأثر بشدة بذكر الله، حتى أنه كان يترك اللعب ويذرف الدموع ويصر على مراجعة حفظه من القرآن، في وسط صخب الأطفال من حوله.

والنفس المطمئنة، كما يقول ابن القيم، لا تخاف ولا تقلق، لأنها تعلم أن لها ربًا رحيمًا يغمرها بالأمن والسكينة، ويملأ قلبها بالرجاء والاطمئنان.

حتى من أشد الناس خشية لله وجد في القرآن وفي ذكر الله مصدرًا للبكاء والضحك معًا، كما حدث مع محمد بن سيرين ومحمد بن المنكدر. بكاؤهم كان من خشيتهم لله، وضحكهم كان من طمأنينتهم إلى وعد الله ورحمته.

هذه الطمأنينة التي يصفها العلماء ليست غيابًا للخوف، بل توازن دقيق بين الخشية والرجاء، بين الوجل من الله واليقين بوعده، كما نراها في شخصية عطاء السليمي، الذي جمع بين خوف شديد من النار وذكر دائم لهبّة الرحمة الإلهية.

الطمأنينة هبة من الله، لكنها أيضًا ثمرة اجتهاد في القرب منه، والمحافظة على ذكره، والتفكر في آياته، والتوازن في مشاعر الخوف والرجاء.

نسأل الله أن يمنحنا هذه الطمأنينة، وأن يجعل قلوبنا مستقرة في مرضاته، ساعين إلى أن نكون من الذين قال فيهم ربنا:

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق