يوشك أن تتداعى عليكم الأمم

159
3 دقائق
30 محرم 1447 (26-07-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

حين يغفل المسلمون عن الجهاد ويعزفون عن التضحية، مشغولين بزخرف الدنيا ومتقاعسين عن لقاء الله، يفتحون لأنفاس الأعداء أبواب الطمع، فتتسلل إليهم الكبائر وهم مستغرقون في لهوٍ لا طائل منه.

وقد بشّرنا رسول الله بأن أوقات ضعف الأمة ستأتي، حين (تَداعَى) علينا الأمم الكافرة من كل ناحية؛ كجموع الناس الحفاة تُهرع إلى قصعتها المليئة بالطعام، بلا جهد ولا مقاومة.

كما في الحديث: "يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم ؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ". (صحيح الجامع:8183).

لكن السؤال الذي يُطرح دائمًا عند سماع مثل هذه الأحاديث: هل معنى هذا أن المسلمين سيكونون قلة؟ لا، إنما هم كثيرون، لكنهم في حال يشبه الزبد الذي يجرّه السيل، خفيف بلا تأثير، متفرق بلا تماسك، وهكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ".

والمسلمون في تلك الحال يكونون (كثرةً)، فإنهم يصيرون (غُثاءً) لا قيمة لهم، مثل الزبد والأوساخ التي يطرحها السيل، لا يساويهم عدوٌّ ولا يخشاهم صولة. السبب ليس قلّة العدد أو ضآلة العدة، بل ضعف الإيمان وتفكّك الصف والكلام عن الشجاعة في مواجهة الباطل.

فالصفة التي تميز الأمة في هذا الزمن ليست في عددها، بل في ضعفها، في فقدانها المهابة التي تجعل أعداءها يحترمونها ويرتعبون منها. المهابة هي الخشية والوقار الذي يمنح قوة معنوية، هي الخشية التي تستقر في قلوب الأعداء فتُحبط مخططاتهم. حين تذهب هذه المهابة، يحل مكانها الوهن، الذي هو الضعف النفسي، الذي يجعل القلوب ضعيفة، والعزائم متكسرة، والهمم مهزوزة.

والوهن في قلوب المسلمين له سبب، والسؤال عن ذلك أجاب عليه النبي ببساطة بالغة: "لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ". حب الدنيا هو تعلق القلوب بما فيها من ملذات وشهوات وزينة، حتى تلهي الناس عن الاستعداد للآخرة التي هي دار القرار. هذه الغفلة عن الآخرة تجعل المسلمين يفقدون التركيز على طاعة الله والتمسك بمنهج نبيه، فتذبل نفوسهم وتضعف عزائمهم.

عندما ينشغل الإنسان بحب الدنيا فقط، يصبح همّه كيف يحصل على متاعها، وكم ينفق، وكم يملك، ويغفل عن الآخرة، التي قال الله تعالى عنها في كتابه الكريم: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:64).

ففي غفلة الناس عن ذكر الله، وضياع الأهداف العليا، تفتح أبواب ضعف الأمة وأعداؤها ينهشونها بلا رحمة. هذا الضعف لا يكون فقط على المستوى الفردي، بل على مستوى الجماعة والأمة كلها، فتصبح كالغثاء الذي لا قيمة له، بلا تماسك أو قوة تُرهب بها الأعداء.

لقد كان من أسباب قوة المسلمين قديمًا أنهم كانوا متشبثين بدينهم، متمسكين بأمر الله، وذاقوا من طاعة الله حلاوة، وذاق أعداؤهم من رعبهم في مواقف كثيرة. قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (التوبة:5).

إذن هي الطاعة التي تعيد بناء النفوس والأمم، وتجعلهم كالأسد الذي يخافه الجميع، لا كالزبد الذي يحمله السيل في أضعف حالاته.

فالواجب على كل مسلم أن ينظر إلى هذا الحديث بعين التأمل، ويقرأ بين سطوره ما فيه من تحذير ونصح. حب الدنيا، في ظاهره أمر طبيعي، لكن عندما يغلب على القلب ويطغى على الهمم، يصبح سببًا في سقوط الأمة، وذهاب هيبتها. وكراهية الموت تعني الفرار من الاستشهاد والهروب من المسؤولية، واللجوء إلى السكينة الزائفة التي لا تحقق شيئًا.

لذلك فإن سبيل النهوض الحقيقي يبدأ بترك حب الدنيا المفرط، والرجوع إلى الله بقلب نقي، وبذل الجهد في طلب مرضاته، وتحكيم شرعه في الحياة. ومن هنا تنهض الأمة كما كانت في عزها، ويعود لها ما كانت تملكه من وقار ومهابة، فلا تعود "غثاء كغثاء السيل"، بل تُصبح كالجبال الراسخة، التي تهتز لكن لا تنكسر، وتُرعب الأعداء.

إنها دعوة لكل مسلم أن يتفكر في حاله، ويعيد ترتيب أولوياته، لأن من أعظم أسباب قوة الأمة وحفظها: التمسك بالإيمان والعمل الصالح، وترك التعلق الزائد بالدنيا، والاستعداد للقاء الله بقلوب صافية وأرواح مفعمة باليقين. قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق:2-3).

إن جمال هذه اللمحة النبوية يكمن في كونها إنذارًا عامًّا لكل مسلم في كل زمان ومكان: لا تُقِرن الإسلام بالاستكانة، ولا تفهم الدعوة إلى الاستيقاظ على أنها مقصورة على عصرنا، بل هي سنّة الله في الأمم؛ فإذا حملنا راية الحق بفكرٍ ووعيٍ وحدّة همّة، نعود أمةً تنفض عنها غبار الوهن، وتستعيد هيبتها التي لا تُهزم بمشيئة ربها.

فلنبدأ بأنفسنا وأسرتنا، لنبدأ بتنشئة أطفالنا تنشئة صحيحة، ولنحرص على أن لا نكون ممن يضعفون ويُذلون أنفسهم بحب الدنيا، بل لنكن من الذين يتحلون بالقوة والإيمان، يواجهون الصعاب ويستبشرون بالنصر مع الإصرار واليقين بالله. وهذه هي الأمة التي يفرح بها الله ورسوله، وترتفع بين الأمم شامخة بعزتها وكرامتها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق