فوائد من محاضرة جمال العلم إصلاح العمل للكملي

104
16 دقيقة
5 صفر 1447 (31-07-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

للاستماع إلى المحاضرة كاملة للشيخ اضغط هنا

1- الاجتماع لطلب العلم في بيوت الله من الأعمال الجليلة التي تُنزل الرحمة والسكينة، وقد وعد الله من يجتمعون على تلاوة كتابه وتدارسه بالفوز العظيم، وهذا يدل على أن هذه المجالس محفوفة بالبركة، وهي من أسباب تحصيل الخير والهداية في الدنيا والآخرة.

2- الغاية الحقيقية من طلب العلم هي إصلاح العمل والالتزام بالمنهج الرباني، فلا قيمة لعلم لا يثمر عملًا صالحًا، كما قال ابن الوردي في لاميته المشهورة: "وجمال العلم إصلاح العمل"، وهذا يؤكد أن العلم وسيلة وليس غاية، وأنه يجب أن يقترن بالعمل حتى يكون نافعًا.

3- أهل العلم شهداء لله بالتوحيد، وقد قرن الله شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}، مما يدل على مكانتهم العظيمة عند الله، وأنهم ورثة الأنبياء في حمل الرسالة ونشر الحق.

4- قبول شهادة العلماء في التوحيد دليل على عدالتهم وتزكية الله لهم، لأن الشاهد لا بد أن يكون ثقةً عدلًا، وهذا يرفع من شأن العلم وأهله، ويوجب على المسلمين احترامهم وتوقيرهم، لأنهم يحملون رسالة الأنبياء في بيان الحق والدعوة إليه.

5- العلماء هم أهل الفهم والتدبر، وهم الذين يعقلون أمثال القرآن ويستنبطون الحكم منها، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}، مما يدل على أن العلم يمنح صاحبه بصيرةً تميزه عن غيره، وتجعله قادرًا على فهم مراد الله من آياته.

6- في قصة قارون، نرى أن العلماء هم الذين ذكروا الناس بقيمة الآخرة وحذروهم من الانبهار بالدنيا، فقالوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، وهذا يبين أن دور العالم ليس مجرد نقل المعلومات، بل تذكير الناس بالحق وتبصيرهم بحقيقة الدنيا والآخرة.

7- قصة الذي عنده علم من الكتاب مع سليمان عليه السلام تظهر عظمة العلم وقدرته على تحقيق المعجزات، حيث استطاع بإذن الله إحضار عرش بلقيس في طرفة عين، مما يدل على أن العلم النافع من أعظم الوسائل التي يُمكّن الله بها عباده الصالحين.

8- سليمان عليه السلام لم يفتخر بملكه ولا بجنوده، بل افتخر بالعلم الذي منحه الله إياه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ}، وهذا يؤكد أن العلم أشرف من الملك والمال، وأنه أعظم نعمة يُمنحها العبد بعد الإيمان.

9- فضل العالم على العابد عظيم، كما في حديث أبي أمامة أن النبي قال: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، وهذا يدل على أن العلماء هم ورثة الأنبياء، وأن مكانتهم لا تدانيها مكانة، لأنهم يحيون ما أمات الناس من السنن، ويبصرونهم بدينهم.

10- معلمو الخير يحظون بدعاء الله وملائكته، بل حتى الحيتان في البحر تستغفر لهم، كما في الحديث: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير"، وهذا يبين عظم أجر من يُعلّم الناس الخير ويهديهم إلى الصراط المستقيم.

11- العلم النافع يورث الخشية الحقيقية لله تعالى، فكلما ازداد العبد علمًا ازداد معرفة بعظمة ربه وجلاله، مما يجعله أكثر خوفًا من الله وأشد مراقبة له في السر والعلن، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وهذا يدل على أن العلم الحقيقي لا يقف عند حدود المعرفة النظرية، بل لا بد أن يتحول إلى سلوك عملي يظهر في تعامل العبد مع ربه ومع خلقه.

12- أهل العلم هم الأقدر على الإنابة إلى الله والتوكل عليه في جميع الأحوال، لأنهم الأكثر فهمًا لحقيقة الألوهية والربوبية، فهم يعلمون أن الله هو المدبر لكل شيء، وأنه لا معطي ولا مانع إلا هو، وهذا العلم يمنحهم ثباتًا في المواقف الصعبة، ويجعلهم أكثر صبرًا على البلاء، لأنهم يعلمون أن كل شيء بقدر الله وحكمته، وأن العاقبة للمتقين.

13- طلب العلم من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، وقد جعل الله له منزلة عظيمة، كما في الحديث: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة"، وهذا الطريق ليس مقتصرًا على العلم الشرعي فحسب، بل يشمل كل علم نافع يفيد الأمة، شرط أن يقترن بالإخلاص لله تعالى، وأن يكون وسيلة لعبادة الله وليس غاية في ذاته.

14- العلماء هم ورثة الأنبياء في حمل الرسالة وتبليغها للناس، وقد بين النبي هذه الحقيقة بقوله: "إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم"، وهذا الإرث العظيم يوجب على العلماء مسؤولية كبرى في حفظ الدين ونشره، كما يوجب على الأمة احترامهم وتوقيرهم، لأنهم خلفاء الأنبياء في هداية الخلق وإصلاح المجتمع.

15- العلم يرفع صاحبه في الدنيا قبل الآخرة، كما قال عمر بن الخطاب: *إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين*، وهذه الرفعة ليست مادية فحسب، بل هي رفعة معنوية في القلوب قبل العيون، فالعالم يحظى بمكانة عظيمة في المجتمع، لأن الناس يحتاجون إليه في حل مشكلاتهم وتبصيرهم بأمور دينهم، وهذه المكانة توجب على العالم التواضع وعدم الغرور، لئلا يحرم من بركة علمه.

16- العلم النافع ينير البصيرة ويهدي إلى الحق، كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، فالفرق بين العالم والجاهل كالفرق بين الحي والميت، لأن العلم حياة للقلوب ونور للبصائر، يهدي صاحبه إلى الصراط المستقيم، ويجنبه مزالق الضلال، وكلما ازداد العبد علمًا ازداد بصيرة في دينه، فصار كالمنارة التي تضيء الطريق للناس.

17- العلماء لهم شفاعة خاصة يوم القيامة، لأنهم كانوا سببًا في هداية الناس وإصلاحهم، فكل من اهتدى بسبب علمهم أو استفاد من فتاويهم، كان لهم مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجور الناس شيء، وهذه من أعظم فضائل العلم، أن أجره لا ينقطع بموت صاحبه، بل يبقى مستمرًا ما دام الناس ينتفعون بعلمه، سواء من كتبه أو تلاميذه أو من استفاد من فتاويه.

18- العلم الحقيقي يورث التواضع ولا يورث الكبر، لأن العالم كلما ازداد علمًا ازداد معرفة بنفسه وبعظمة ربه، فشعر بصغر نفسه وضعفها أمام عظمة الله، وهذا الشعور يجعله متواضعًا لله وللناس، لا يرى لنفسه فضلًا على الآخرين، بل يعلم أن العلم نعمة من الله، يجب شكرها لا التباهي بها، كما قال بعض السلف: *كلما ازددت علمًا ازددت معرفة بجهلي*.

19- العلم النافع يصلح النية ويقوم السلوك، لأنه يربط العبد بخالقه في جميع أحواله، فيصبح عمله خالصًا لله، وحركاته وسكناته وفق ما يرضي الله، وهذا هو الفرق الجوهري بين العالم العامل والجاهل الذي يعمل بلا بصيرة، فالعالم يعلم أن الله مطلع عليه في كل لحظة، فيحرص على إصلاح نيته وإتقان عمله، بينما الجاهل قد يغفل عن هذه المراقبة، فيقع في الرياء أو العجب.

20- العلماء هم القدوة الحقيقية في المجتمع، وهم أولى الناس بالاقتداء، لأنهم أعلم الناس بشرع الله وأدراهم بمقاصد الدين، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وهذا يوجب على العالم أن يكون قدوة في أقواله وأفعاله، فلا يناقض علمه عمله، لأن الناس ينظرون إليه كمثال حي لتطبيق الإسلام، فإذا خالف علمه عمله كان ذلك سببًا في صد الناس عن الدين.

21- العلم يوجب المسؤولية العظيمة على صاحبه، فالعالم يحمل أمانة التبليغ والبيان، وهو مسؤول عن علمه بين يدي الله، كما في الحديث: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن علمه ما عمل به"، وهذه المسؤولية تجعل العالم حريصًا على نشر العلم وتعليم الناس، لا يكتمه ولا يبخل به، لأن كتم العلم من أعظم الذنوب، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.

22- العلم النافع يورث الحكمة، وهي وضع الأشياء في مواضعها، فترى العالم يتعامل مع الأمور بحكمة وروية، لأنه يعلم عواقب الأمور ويقدرها حق قدرها، فلا يعجل في الحكم على الأشياء، ولا يتسرع في اتخاذ القرارات، بل يتأنى ويدرس الأمور من جميع جوانبها، ثم يحكم بعد ذلك بحكمة وعدل، وهذه الحكمة هي التي تجعله مؤهلًا لقيادة الناس وإرشادهم إلى الصواب.

23- العلماء هم صمام الأمان للأمة في مواجهة التيارات المنحرفة والفتن المضلة، لأنهم يحفظون الدين من التحريف والتبديل، وهم الذين يبصرون الناس بالحق عند اختلاط الأمور، كما قال النبي : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، فهم حراس العقيدة وحماة الشريعة، الذين يقفون في وجه كل من يحاول العبث بالدين أو تشويه تعاليمه، وبدونهم لضاعت الأمة في متاهات الضلال.

24- العلم يورث القناعة والرضا بقضاء الله، لأن العالم يعلم أن الأرزاق بيد الله، وأنه ما من إنسان إلا وقد كتب الله رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فيرضى بما قسم الله له، ولا يتسخط على قضاء ربه، بخلاف الجاهل الذي يظن أن الرزق يأتي بالحيلة والجشع، فيتعب نفسه في طلب الدنيا، وقد كتب الله له ما هو آتيه لا محالة، كما قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}.

25- العلم النافع يعين على الصبر في مواجهة الشدائد والمحن، لأن العالم يعلم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وأن الصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى أقدار الله المؤلمة من أعظم أسباب الفلاح، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وهذا العلم بحقيقة الدنيا ومتاعبها يجعل العالم أكثر تحملًا للمشاق، وأصبر على البلاء من غيره.

26- العلماء هم أرحم الناس بالخلق، لأنهم أعلم الناس بحال البشر وحاجة نفوسهم للهداية، فيسعون في نفعهم وإصلاحهم برفق وحكمة، لا بعنف وشدة، فهم كالأطباء الذين يعالجون أمراض القلوب قبل أمراض الأبدان، يصفون الدواء المناسب لكل حالة، بجرعات مناسبة، حتى لا ينفروا من الدين، بل يقبلون عليه برغبة واقتناع، وهذا من أعظم صور الرحمة التي يجب أن يتحلى بها كل داعية إلى الله.

27- العلم يورث الخوف من الله في السر والعلن، لأن العالم يعلم سعة علم الله وإحاطته بكل شيء، فيخاف من تقصيره في حق ربه، ويستحي منه في كل حال، فلا يعصيه في الخلوات، ولا يرائي في العلنات، بل يجعل مراقبة الله نصب عينيه في جميع أحواله، كما قال بعض السلف: *كن كما تكون في العلويات تكون في السفليات، فإنه ليس دون الله أستار*، وهذا الخوف الحقيقي هو الذي يحفظ العبد من الزلل، ويقوده إلى طريق الاستقامة.

28- العلم النافع يبعد صاحبه عن مواطن الشبهات، لأن العالم يعلم حدود الله فيجتنب ما يريب، كما قال النبي : "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"، فهو لا يكتفي باجتناب المحرمات الواضحة، بل يبتعد حتى عن الأمور المشتبهات، خوفًا من الوقوع في الحرام، وهذا الورع هو الذي يحفظ دين العبد وعرضه، ويجعله من المتقين الذين يخشون الله حق خشيته.

29- العلماء هم أولى الناس بالإنصاف والعدل، لأنهم أعلم الناس بالحق وأبعدهم عن الهوى، فلا يحملهم التعصب على الجور، ولا تدفعهم العصبية إلى الظلم، بل ينظرون إلى الأمور نظرة موضوعية، ويحكمون بالعدل ولو على أنفسهم أو أقرب الناس إليهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، وهذه سمة عظيمة من سمات العلماء الربانيين.

30- العلم يورث الرجاء في رحمة الله مع الخوف من عقابه، لأن العالم يعلم سعة رحمة الله وكرمه، فيطمع في عفوه ويُكثر من سؤاله، وفي نفس الوقت يعلم شديد عقاب الله، فيخاف من غضبه وسخطه، وهاتان الصفتان - الخوف والرجاء - يجب أن يتوازنا في قلب العبد، فلا يغلب أحدهما على الآخر، لأن الغلو في الخوف قد يؤدي إلى اليأس من رحمة الله، والغلو في الرجاء قد يؤدي إلى الأمن من مكر الله، وكلاهما مذموم.

31- العلم النافع يعين على محاسبة النفس وتقويمها، لأن العالم يعلم أنه مسؤول عن كل صغيرة وكبيرة، فيُداوم على محاسبة نفسه في جميع أحواله، يسألها عما فعلت، ويحاسبها على ما قصرت، كما كان عمر بن الخطاب يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا"، وهذه المحاسبة الدائمة هي التي تمنع العبد من الانزلاق في المعاصي، وتجعله دائم التوبة والإنابة إلى الله.

32- العلماء هم أهل المشورة والنصيحة، لأنهم أعلم الناس بمصالح الأمور وعواقبها، فمشورتهم تمنع من الوقوع في الأخطاء، وتُرشد إلى الصواب، كما قال النبي : "الدين النصيحة"، وهذه النصيحة ليست مقصورة على الأمور الدينية فحسب، بل تشمل جميع شؤون الحياة، لأن العلم الصحيح يشمل جميع جوانب الحياة، ولا يقف عند حدود العبادات فقط، فالعالم الحقيقي هو الذي يستطيع أن يقدم النصح المفيد في جميع المجالات.

33- العلم يورث الوقار والهيبة، لأن العالم يعلم قدر العلم فيتخلق بأخلاقه، فلا يكون مُضحكًا ولا خفيفًا في غير موضعه، بل يكون وقورًا في مشيته وكلامه وتعامله مع الناس، وهذه الهيبة ليست مصطنعة، بل هي نابعة من علمه وتقواه، كما قال تعالى في وصف عباده المؤمنين: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، وهذه السمة تجعل الناس يحترمون العالم ويقدرونه، فيكون كلامه مسموعًا ونصحه مقبولًا.

34- العلم النافع يبعد صاحبه عن الجدال العقيم، لأن العالم يعلم أن الجدال يُمرض القلوب ويُضيع الوقت، فيتجنبه إلا في مواضع النصح والإرشاد، عندما يكون الجدال وسيلة لإظهار الحق ورد الباطل، أما الجدال من أجل الجدال، أو لإظهار البراعة والتفوق على الآخرين، فإن العالم الحقيقي يبتعد عنه، لأنه يعلم أن ذلك من أسباب الفرقة والتنازع، كما قال تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فإذا لم يكن الجدال بالتي هي أحسن، فالسكوت أولى.

35- العلماء هم أهل الوسطية والاعتدال، لأنهم أعلم الناس بالشرع وأفقههم في مقاصد الدين، فيتجنبون الغلو والتقصير، ويقفون حيث وقف الكتاب والسنة، فلا يتشددون تشددًا يخرج عن حدود الشرع، ولا يتساهلون تساهلًا يضيع حدود الله، بل يكونون وسطًا في جميع أمورهم، كما قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، وهذه الوسطية هي التي تحفظ الأمة من الانحراف إلى طرفي الإفراط والتفريط.

36- العلم يورث الشجاعة الأدبية في قول الحق، لأن العالم يعلم أن النصر مع الحق، وأن الباطل زاهق لا محالة، فلا يخاف في الله لومة لائم، ويقول كلمة الحق ولو كانت مرّة، ولو خالفت هوى الناس أو حكامهم، كما قال النبي : "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وهذه الشجاعة نابعة من إيمانه بقول الله تعالى: {وَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}، فمتى استشعر العبد خشية الله، زالت عنه خشية المخلوقين.

37- العلم النافع يعين على حسن الظن بالله في جميع الأحوال، لأن العالم يعلم كمال حكمة الله ورحمته، فيحسن ظنه بربه في السراء والضراء، في الرخاء والشدة، يعلم أن الله لا يقدر له إلا الخير، وأن كل ما يصيبه من مصائب فيها حكمة يعلمها الله، وإن خفيت عليه، كما قال تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، وهذا اليقين يمنحه الطمأنينة والرضا بقضاء الله وقدره.

38- العلماء هم أهل الصدق في الأقوال والأفعال، لأن العلم يهدي إلى الصدق ويبعد عن الكذب والنفاق، فترى العالم صادقًا في كلامه، لا يقول إلا الحق، وصادقًا في عمله، لا يرائي ولا يسمع، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، وهذه الصفة تجعل الناس يثقون بالعالم ويطمئنون إلى كلامه، لأنه لا يقول إلا ما يعلم، ولا يحكم إلا بما يعتقد أنه الحق.

39- العلم يورث الرحمة بالخلق، لأن العالم يعلم ضعف الإنسان وحاجته للتوجيه والإرشاد، فيتعامل مع الناس برحمة وعطف، لا بعنف وشدة، خاصة مع المخطئين والجاهلين، فينصحهم برفق، ويبصرهم بحكمة، كما كان النبي يقول: "إنما بعثت رحمة مهداة"، وهذه الرحمة هي التي تجعل الناس يقبلون على العالم، ويستمعون إلى نصحه، لأنهم يشعرون أنه يريد لهم الخير، لا أن يظهر تفوقه عليهم.

40- العلم النافع يبعد صاحبه عن العجب والغرور، لأن العالم يعلم أن العلم فضل من الله، وأنه ليس له من نفسه إلا الجهل والنسيان، فلا يعجب بنفسه ولا يرى لها فضلًا على الآخرين، بل يزداد تواضعًا كلما ازداد علمًا، كما قال بعض السلف: *من علامة العالم تواضعه لله*، وهذا التواضع هو الذي يحفظ للعالم بركة علمه، ويجعله مقبولًا عند الله وعند الناس.

41- العلماء هم أهل العفو والتسامح، لأنهم أعلم الناس بعيوب النفس وضعفها، فيعفو عن زلات الآخرين كما يحبون أن يعفو الله عنهم، كما قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}، وهذا العفو ليس ضعفًا، بل هو قوة في النفس، وسمو في الأخلاق، يدل على سعة صدر العالم وحلمه، وقدرته على تجاوز إساءات الناس، لأن همته مصروفة إلى ما هو أعلى من المشاحنات الشخصية.

42- العلم يورث القناعة بما عند الله، لأن العالم يعلم أن الدنيا زائلة، وأن ما عند الله خير وأبقى، فلا يتكالب عليها كما يتكالب الجاهلون، ولا ينشغل بجمعها عن طاعة ربه، بل يجعلها وسيلة لا غاية، يعمل فيها بقدر حاجته، ويصرف الزائد في وجوه الخير، كما قال تعالى: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، وهذه القناعة هي التي تمنحه السعادة الحقيقية، وتجعله يعيش مطمئنًا، لا يقلق على رزق، ولا يحزن على فوات دنيا.

43- العلم النافع يعين على كظم الغيظ والسيطرة على النفس عند الغضب، لأن العالم يعلم أجر الصابرين الكاظمين الغيظ، فيتحمل الأذى ويصبر على المكاره، لا يثور لأتفه الأسباب، ولا ينفعل لأصغر الإساءات، بل يسيطر على نفسه، ويذكرها بقول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وهذا الكظم ليس ضعفًا، بل هو قوة في التحكم في النفس، وضبط للانفعالات، يدل على سمو أخلاق العالم ورقيه.

44- العلماء هم أهل الحلم والأناة، لأن العلم يهدي إلى الحلم وعدم العجلة في الأمور، فلا يغضبون سريعًا، ولا يعجلون في اتخاذ القرارات، بل يتأنون ويدرسون الأمور من جميع جوانبها، ثم يحكمون بعد ذلك بحكمة وروية، كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، وهذا الحلم هو الذي يجعل العالم قادرًا على تحمل أذى الناس، والصبر على جهلهم، دون أن يفقد أعصابه أو يثور غضبًا.

45- العلم يورث الإخلاص في العمل، لأن العالم يعلم أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، فيجتهد في تصفية نيته، ويحاسب نفسه على الدوافع الخفية، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وهذا الإخلاص هو أساس قبول الأعمال، وبدونه تصير الأعمال كالسراب يحسبه الظمآن ماء، فلا يجد عند الله شيئًا، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}.

46- العلم النافع يبعد صاحبه عن حب الظهور والرياء، لأن العالم يعلم أن الشهرة تُفسد العمل، وتذهب ببركته، فيختفي كما يختفي قطرة الماء في البحر، لا يحب أن يذكر، ولا يسعى لأن يشتهر، بل يحرص على إخفاء عمله، كما كان السلف يخفون أعمالهم الصالحة خشية الرياء، وهذا الخفاء هو الذي يحفظ للعبد إخلاصه، ويجعل عمله مقبولًا عند الله، لأن الله يحب العبد المتخفي، الذي يعمل الصالحات دون أن يظهرها للناس.

47- العلماء هم أهل الزهد في الدنيا، لأنهم يعلمون حقارة الدنيا وسرعة زوالها، فيزهدون فيها ويقبلون على ما عند الله، لا ينشغلون بجمعها، ولا يتكالبون على حطامها، كما قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ}، وهذا الزهد ليس معناه ترك العمل وعدم السعي في الأرض، بل معناه عدم التعلق بالدنيا، وعدم جعلها غاية في ذاتها، بل وسيلة للآخرة، كما كان النبي يقول: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

48- العلم يورث المراقبة الدائمة لله، لأن العالم يعلم أن الله مُطّلع عليه في كل لحظة، فيراقبه في السر والعلن، لا يغفل عن هذه المراقبة طرفة عين، كما قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}، وهذه المراقبة هي التي تحفظ العبد من المعاصي في الخلوات، وتجعله دائم الاستحضار لعظمة الله، فيحرص على طاعته، ويجتنب معصيته، سواء كان أمام الناس أو في خلوته.

49- العلم النافع يعين على الاستعداد للآخرة، لأن العالم يعلم أن الموت آتٍ لا محالة، وأنه ليس أمامه إلا العمل الصالح الذي ينفعه في قبره ويوم لقاء ربه، فيجتهد في الطاعة، ويُكثر من الصالحات، كما قال تعالى: {وَاعْدُدُوا أَيَّامَكُمْ وَاشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ}، وهذا الاستعداد ليس معناه ترك الدنيا وعدم العمل فيها، بل معناه استحضار الآخرة في كل عمل، وجعل الدنيا مزرعة للآخرة، لا مكانًا للترف واللهو.

50- العلماء هم أهل الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لأنهم أعلم الناس بدين الله، وأفقههم في طرائق تبليغه، فيدعون إلى الله بعلم وبصيرة، لا بعنف وتشدد، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، وهذه الدعوة تحتاج إلى صبر ومصابرة، لأن طريقها طويل وشاق، مليء بالعقبات والمحن، لكن العالم الصادق لا يمل ولا يكل، لأنه يعلم أن الأجر على قدر المشقة، وأن الجزاء مع الصبر.

51- حكمة استشهاد الله للعلماء معه في آية التوحيد تكمن في تشريفهم لا حاجته لشهادتهم، فهم شهود عدول اختارهم الله لتأييد كلمته، وهذا يوجب على الأمة احترام مكانتهم، لأن الله قد زكّاهم وقرن شهادتهم بشهادته وملائكته، مما يجعلهم في منزلة لا تدانيها منزلة، فهم ورثة الأنبياء في حمل الرسالة وتبليغها للناس.

52- في قصة قارون يتجلى تمييز العلماء لقدر الآخرة، فعندما انبهر الناس بزينته وكنوزه، كان العلماء هم الوحيدون الذين ذكّروا بثواب الله الخالد، لأنهم يعلمون أن الدنيا زائلة، وأن ما عند الله خير وأبقى، وهذه البصيرة النافذة هي ثمرة العلم النافع الذي يورث الخشية ويبصر بالحقائق.

53- العلم الحقيقي منقذٌ لصاحبه من الفتن، كما في قصة عمر بن الخطاب مع عامله على مكة، حيث قبل تولية مولى لعلمه بالفرائض، مع أن الأصل تولية العرب، وهذا يدل على أن العلم يرفع صاحبه فوق الاعتبارات الجاهلية، ويجعله مؤهلًا للمسؤولية حتى لو خالف العرف السائد، لأن الكفاءة العلمية مقدمة على النسب والجاه.

54- تواضع السلف مع عِظم علمهم كان سمة بارزة، فها هو عمر يخاف السؤال عن علمه يوم القيامة، وإبراهيم يعترف بذنوبه رغم منزلته، وهذا التواضع نابع من معرفتهم بعظمة الله، فكلما ازداد العبد علمًا ازداد معرفة بجهله، وكلما تعمق في العلم ازداد خوفًا من التقصير، فالعلم الحقيقي لا يورث الكبر بل يورث الخشية.

55- الفرق بين العلم الحقيقي وكثرة المسائل ظاهر في تحذير الإمام مالك من ظن البعض أن العلم هو حفظ المتون دون العمل، فالعلم النافع هو ما نفع صاحبه في قبره ويوم لقاء ربه، لا مجرد جمع المعلومات وحفظ الأقوال، لأن العلم وسيلة لا غاية، والغاية هي إصلاح القلب والعمل.

56- النية في طلب العلوم الدنيوية تحولها إلى عبادة، فإذا قصد طالب الطب أو الهندسة كفاية الأمة ونفع الخلق، كان عمله عبادة يثاب عليها، لأن كل علم نافع يقصد به خدمة الدين والخلق هو فرض كفاية، وهذه سعة رحمة الله أن جعل أبواب الخير متعددة، وطرق العبادة متنوعة، لا تقتصر على العلوم الشرعية فحسب.

57- حكم الهجر في العلاقات الزوجية يتبين في تحريم هجر الزوجة لزوجها المتكاسل عن الصلاة، مع وجوب النصح والتذكير باللين، لأن الهجر وسيلة قد تؤدي إلى تفكك الأسرة، والأولى الصبر مع الاستمرار في النصح، مع الحرص على عدم مشاركته في المعصية، وهذا من الموازنة التي يحتاجها الدعاة في معاملة الأهل.

58- التوازن بين الخوف والرجاء في التوبة يتجلى في عدم اليقين بمغفرة الذنب مع الاستمرار في الرجاء، فالمؤمن يعلم قدر ذنوبه، لكنه يطمع في سعة رحمة الله، وهذه المعادلة تحفظ العبد من اليأس والقنوط، وفي نفس الوقت تمنعه من الاستهانة بالذنوب، لأن الخوف والرجاء جناحا الإيمان لا يصلح العبد إلا بهما.

59- تحذير خاص لطالب العلم يظهر في قصة الشيخ مصطفى النجار مع تلميذه، حيث كان يوصيه بعدم السهر عنده لئلا يفوته قيام الليل، وهذا درس في أن طلب العلم لا يجوز أن يكون على حساب العبادة، بل يجب أن يكون وسيلة للتقرب إلى الله، لا حجابًا عنه، وأن يكون العلم خادمًا للعمل، لا منافسًا له.

60- التمييز بين الفتوى والترجيح العلمي مهم في مسائل الخلاف كالقصر في السفر، حيث يؤخذ بقول عالم موثوق دون إنكار على المخالف، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وهذه القاعدة تحفظ وحدة الأمة، وتعلم طالب العلم أدب الخلاف، فليس كل من خالفك في الرأي مخطئًا، خاصة في المسائل الاجتهادية التي للعلماء فيها أدلة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق