بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون، ويرتحل إليه السالكون، ويجدّ في طلبه العارفون، هو محبة الله جل جلاله. فإن من نال محبة الله فقد نال أعظم العطايا وأشرف المراتب، ومن فاته هذا الفضل فهو المحروم حقًا، وإن كثرت أعماله.
وليس الشأن في كثرة الركوع والسجود، ولكن الشأن في القلوب كيف تكون، وما الذي يحركها ولمن تخفق. فكم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب، وكم من متصدق لم يرتفع درهمه إلى السماء، وكم من داعٍ لا يسمع له دعاء، لأن العمل جسد، والنية روحه، فإذا فسدت النية، مات الجسد ولو تحرك.
وقد جاء في تخريج المسند لشعيب بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن النبي ﷺ أنه قال: "إنَّ العَبدَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ ما يُكتَبُ له منها إلَّا عُشرُها، تُسْعُها، ثُمُنُها، سُبُعُها، سُدُسُها، خُمُسُها، رُبُعُها، ثُلُثُها، نِصفُها". فدلّ الحديث على أن تفاوت الأجور راجع إلى ما في القلوب من تعظيم الله وخشيته، وإخلاص النية، وصدق المتابعة لرسول الله ﷺ.
ولذلك، فإن المحبة الخالصة لله لا تنال بالأماني، وإنما بصدق الاتباع، كما قال سبحانه:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
فالاتباع هو الميزان، والاقتداء هو البرهان. وهذا ما وعاه الصحابة رضوان الله عليهم، فكانوا أصدق الأمة وأتبعها لرسول الله ﷺ، حتى قال الله عنهم:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]. وما ذاك إلا لما وقر في قلوبهم من محبة صادقة لله ورسوله.
وقد بيّن النبي ﷺ طريق الوصول إلى محبة الله فقال فيما رواه البخاري: "وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به..." إلى آخر الحديث.
فهذا الحديث القدسي يرسم لنا خريطة الوصول إلى محبة الله، ويبيّن أن البداية تكون من الفرائض، وهي أحب الأعمال إلى الله، ثم تكون الترقية بالنوافل، حتى يصل العبد إلى مقام المحبوبية، فيكون الله حافظًا له، مسددًا لخطاه، مباركًا في سعيه.
وهذا ما دعا إليه الأنبياء، فقد روى الإمام أحمد في الزهد أن داود عليه السلام كان يقول: "اللهمَّ إني أسألُك حُبَّكَ ، وحُبَّ من يُحبَّك ، وحُبَّ عملٍ يُقرِّبُنِي إلي حُبِّكَ". وهو حديثٌ ضعّفه الإمام الألباني في السلسلة الضعيفة.
والمحبوب عند الله محفوظ، تُسخّر له الأسباب، وتُقرّب له الطاعات، وتُصرف عنه الفتن. قال الإمام ابن سيرين رحمه الله: *إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَبْدٍ خَيْرًا ، جَعَلَ لَهُ وَاعِظًا مِنْ قَلْبِهِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ*. فالمحبّة لا تظلّ سرًا، بل تظهر على الجوارح، في صدق الاتباع، وفي دوام الطاعة، وفي الإقبال على الفرائض والسنن.
وقد رأينا من آثار هذه المحبة على من سبقنا ما يُدهش العقول. فهذا محب الدين الطبري، من علماء الشافعية، تجاوز المئة سنة، ومع ذلك كان يسير كالشاب النشيط، يقفز الحفر، ويتسلق الصخور، فلما سئل عن ذلك فقال: *هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكِبَر*.
فهذه بركة الطاعة، ومحبة الله التي تحفظ البدن والروح.
وإن من أعظم علامات محبة الله لعبده: أن يبعده عن المعصية، ويقربه من الطاعة، ويلهمه الخير، ويصرف عنه السوء، ويقذف في قلبه نورًا، يعرف به الحق من الباطل. بل يصل به الحال إلى أن يحبّ ما يحب الله، ويكره ما يكرهه، فيكون هواه تبعًا لما جاء به رسول الله ﷺ.
وقد قال أهل العلم: من أحبّ الله أحبه الله، ومن أحبّه الله استعمله في طاعته، وبارك له في عمره ووقته وعمله، حتى يكون قليل عمله كثير الأثر، لأن الله هو الذي تولاه بالرعاية، وسدده بالتوفيق.
ومن أعظم أسباب نيل هذه المحبة: الدعاء، فقد قال النبي ﷺ: "الدعاء هو العبادة" [رواه أحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرد]، وليس شيء أقوى في ربط القلب بالله من الدعاء، خاصة إذا كان في خلوة أو في سجدة أو في ظلمة الليل، حينما يُغلق الناس أبوابهم وتبقى أبواب السماء مفتوحة.
الدعاء هو إعلان فقر العبد، واعتراف بعجزه، وتفويض كامل لله جل جلاله. وقد كان الصحابة يسألون الله حتى في شسع النعل إذا انقطع. فهذا هو التعلق الصادق، وهذا هو باب المحبة المفتوح لمن طرقه بإخلاص ويقين.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: *إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء*، لأنه يعلم أن التوفيق للدعاء هو بحد ذاته منحة من الله، وأن العبد إذا فتح له في الدعاء، فقد فُتح له في الخير كله.
ثم بعد الدعاء العمل بما يحبه الله وهذا هو الطريق الحق، لا أن يدعي المرء المحبة بلسانه، ويخالف أمر الله بأفعاله. فالمحبة الصادقة لها ثمن، وثمنها الاتباع. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
فهل رأيت محبًا يخالف محبوبه؟! أو عاشقًا يعصي من يحب؟! لا والله، بل المحب يتلمّس خطوات من يحب، ويهتدي بهديه، ويتبع آثاره، ويحب ما أحب، ويكره ما كره، ويُفني عمره في طاعته.
وهكذا نعلم أن طريق المحبة ليس بالأماني بل بالصدق والاتباع والدعاء والطاعة، ومجاهدة النفس على ما يرضي الله عز وجل.
فيا من تطلب محبة الله، الزم باب الطاعة وأكثر من النوافل وداوم على الدعاء واقرأ كتاب الله، وتأمل في أسمائه وصفاته، وسل الله حبّه، كما كان نبيك ﷺ يسأل، واذكر قوله في الحديث القدسي كما في مجموع الفتاوى لابن تيمية: "ولئِن سألني عبدي لأُعطيَنَّه، ولئِن استعاذني لأُعيذَنَّه". فهذا هو الفضل، وهذه هي الغاية.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم حبه، وحب من يحبه، وحب عمل يقربنا إلى حبه، وأن يجعلنا ممن إذا أحبهم حفظهم، وبارك فيهم وقربهم إليه ورفعهم عنده.