استغلال الأوقات الموات

103
4 دقائق
17 صفر 1447 (12-08-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

إنني مُعْجَبٌ به كثيرًا وإعجابي به بدأ منذ زمن طويل؛ لأنّه عميقُ التفكيرِ في الأمور العويصة، وإذا تحدّثَ أنبأ حديثه عن علم غزيز، ويكتب بحوثًا علميّة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، وتلك البحوث وإنْ كانت غير طويلة إلا أنّ قارئها يجد فيها ما لا يجد في غيرها من البحوث ؛ لأنّ كاتبها مختلف عن الباحثين، فهو ليس ممن يقصّ مقالات غيره ويحشو بها بحثه، بل يعتمد على أفكاره ورؤاه...

كنت أقرأ له وعنه، وأسمع به قبل أن ألقاه، وكنت أمني النفس أن أجلس معه....

ودارت الأيام، ومرّت الأيام، وللأيام عجائب لا تنقضي، ومن عجائبها أنّ من كان مثلي نزيل الرياض سنين، ومع ذلك لم ألقه فيها مع ما في القلب من شوق للقياه، أنني ألقاه وأجتمع به هناك وراء المحيطات في واشنطن...

ففي عام 1407ه اشتركت معلّمًا في دورة للأئمة والدعاة بأمريكا وكندا عقدت صيفًا في مقرّ الأكاديمية الإسلامية السعودية في فرجينيا، وكان من أساتذة الدورة الأستاذ الدكتور / جعفر شيخ إدريس، وهو سودانيّ، كان أستاذًا في جامعة الملك سعود، ثم في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، وهو العالم الذي حدثتكم عنه وأنني طالما تمنيت أن أجالسه وأنتفع بعلمه، فكانت سعادتي بما قدّر الله لي من لقائه في واشنطن، ليس مرة ولا مرتين، بل مصاحبة استمرت شهرين كاملين خلال الدورة...

ولن أحدثكم عن الفوائد التي حصلتها منه ؛ لأنها جلّت عن الحصر، ولذلك قلت عنه في لقاء صحفيّ:

(ما سمعت بأحد ثم لقيته إلا وجدته دون ما كنت أتوقعه، إلا الأستاذ الدكتور جعفر شيخ إدريس ؛ فقد وجدته فوق ما كنت أتصوّره).

لكن لقاءاتي به كشفتْ لي عن مفاجأة مذهلة فيه ؛ فقد رأيته يحب اللقاءات، ويستجيب لدعوات الحفلات وجلسات الحديث والمؤانسة، فقلت في نفسي:

ما دام هذا العالم يمضي هذه الأوقات الطويلة في اللقاءات والجلسات فمتى يقرأ؟ ومتى يبحث، ومتى يكتب؟

وكان صعبًا عليَّ أن أسأله عن هذا إجلالًا له وتقديرًا وأدبًا مع العلماء...

وبعد تلك الدورة توثقت صلتي به أكثر فأكثر ؛ لأنني قد أحببته، وأحسب أنه قد حمل لي من الودّ مثلما أحمل له...

فاشتركنا معًا عام 1408 ه في دورة للعلوم الشرعيّة بمدينة (ممباسا) في كينيا، ومن طرائف تلك الرحلة أنه كان معي فيها ابني أنس، وكان عمره آنذاك (ثماني سنين)، فرأى الدكتور جعفر حينها يقرأ كتابًا كبيرًا، ثم رآه أنس بعد ثمانية أشهر، فسأله: هل انتهيت من قراءة ذاك الكتاب الكبير الذي كان معك في ممباسا؟، فضحك الشيخ ضحكًا طويلًا...

وفي عام 1409ه انتقل عملي إلى واشنطن مديرًا لمعهد العلوم الإسلاميّة والعربية في أمريكا، ومن حسن حظي أنّ الدكتور جعفر انتقل عمله من الجامعة إلى معهدنا رئيسًا لمركز البحوث والدراسات، فكانت تلك من أعظم الفرص لي للاستفادة من علمه وتجاربه، وكنت حريصًا أشدّ الحرص على الاستفادة منه حتى أنني طلبت منه في إحدى الصيفيّات أن أسكن معه -وكان معه اثنان من أبنائه- مدة شهر ؛ لأنّ بيتي فيه ضيوف من المملكة وأهلي رجعوا إلى المملكة...

وكانت هذه المدة التي سكنتها في بيته فرصة لأكتشف السرّ الذي حيّرني في العالم الفاضل:

(متى يقرأ؟ متى يبحث؟ متى يكتب؟).

اكتشفت بالمراقبة أنه يقوم قبل الفجر بساعة، ويصلي من الليل ما شاء الله، ويقرأ القرآن الكريم حتى يحين موعد صلاة الفجر، ثم يبدأ بالقراءة والبحث والكتابة حتى يحين موعد العمل، وهو الساعة التاسعة صباحًا.

وبعد الخامسة مساء حيث ينتهي وقت العمل الرسمي يعود إلى البيت، فإذا كان مدعوًا للعشاء أو لجلسة يذهب حتى الساعة العاشرة ليعود للنوم...

وفي يوم من الأيام أخبرته بالأمر الذي حيّرني مدّة وبما اكتشفته، فقال لي:

أنت مثل أحد أبنائي ، وأنت تتعرّض للإحراج أكثر مني في وقتك ؛ لكثرة المناسبات الرسميّة والاجتماعيّة، ولكونك طالب علم فأنت مطالب أيضًا بالبحوث، فأنصحك بأن تستغلّ الأوقات الميتة، فتحييها بالقراءة والبحث والكتابة، واستمرّ على ذلك، وسوف تجد بعون الله أنك تنجز فيها من المشروعات العلميّة ما لا تتوقعه...

مثلًا: عوّدْ نفسك على عدم النوم بعد الفجر، واستفد منه في القراءة والبحث والكتابة؛ فهذا وقت لا يمكن أن يزورك خلاله أحد، ويكون فيه ذهنك صافيًا مستعدًا للبحث...

وكذلك ما بعد العصر إلى المغرب، فالغالب أن الناس تكون زيارتهم قليلة خلاله...

واستطرد قائلًا:

إنّ من يتعوّد على النوم بعد الفجر وبعد العصر يذهب سدى عليه أفضل أوقاته، ولن يجد وقتًا بديلًا ؛ لأنّ أول الليل عرضة للضيوف وللدعوات الاجتماعية.

هذه خلاصة نصائح شيخي الفاضل.

بعد أن استمعت إلى نصيحته بادرت فورًا بتطبيقها ؛ لأنني إذا اقتنعت بشيء لم أؤخره إلى ضحى الغد..

فصرت أشتغل بأبحاثي من بعد صلاة الفجر حتى قبيل وقت العمل الرسمي كلّ يوم، وكنت حينها على رتبة (أستاذ مساعد)، فأنجزت أبحاث الترقية إلى (أستاذ مشارك)، وبدأت بأبحاث الأستاذية، وأنجزتها بتوفيق الله في وقت قياسيّ، حتى تفاجأ زملائي بأنني سبقتهم بالترقية على الرغم من كثرة أعمالي الإداريّة والخيرية والاجتماعيّة، ولم يسبقني إلى الترقية سوى زميل واحد مغلق عليه داره ؛ لا يزور ولا يزار، ومع ذلك لم يسبقني إلا بشهر واحد، والحمد لله.

وهكذا جعلت من مبادئي استغلال الأوقات الموات في إنجاز المهمات ؛ لأنني في الأوقات المعتادة عند الناس لإنجاز المهمات أكون من كثرة الأشغال فيها بمأزق ما بين أعمال رسمية أو تطوّعيّة أو تجاريّة أو اجتماعيّة، فلا أكاد أجد وقت فراغ والحمد لله.

لكنّ ما نفعني بعد توفيق الله هو استغلال الأوقات الموات، فهل من مستفيد من تجربة شيخي الدكتور جعفر شيخ إدريس التي صارت مبدأ لي؟

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق