أختك وصية الحبيب المصطفى

119
7 دقائق
18 صفر 1447 (13-08-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

إن صلة الرحم من أعظم القربات عند الله تعالى، اتصف بها نبينا عليه أزكى الصلاة والسلام قبل بعثته ولقد أقسمت السيدة خديجة للنبي قالت: "كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ"1

وإن أعظم الصلات هي صلة الإخوة أشقاء كانوا أو إخوة لأب أو لأم، فهم أولى بالصلة بعد الآباء والأمهات.

وأخت الإنسان أولى بقرابته فهي فرد من الأسرة، فالأسرة في الإسلام: «لا تقتصر على الزوجين والأولاد فقط إنما تمتد إلى شبكة واسعة من ذوي القربى من الأجداد والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والمصاهرة أو الرضاع أينما كان مكانهم، تتسع حتى تشمل المجتمع كله» 2

ومنزلة الأخت تأتي في المرتبة الأولى بعد الوالدين مباشرة، أوصى الإسلام بالإحسان إليها وتكريمها وحسن معاملتها، سواء كانت في بيت أبويها أو في بيت الزوجية، وكفاها رفعة أن جعلها النبي من وصاياه وقال: "استوصوا بالنساء خيرً"..

جعل النفقة عليها حجابًا ساترًا من النار

روى الإمام أحمد عن أم سلمة زوج النبي قالت، قال رسول الله : "مَنْ أَنْفَقَ عَلَى ابْنَتَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ذَوَاتَيْ قَرَابَةٍ يَحْتَسِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يُغْنِيَهُمَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏ ‏أَوْ يَكْفِيَهُمَا ‏ ‏كَانَتَا لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّار".ِ3

وعن انس بن مالك قال، قال رسول الله : "مَنْ عَالَ ابْنتين أوثلاث بنات أو أختين أو ثلاث أخوات، حتى يَبِنً أو يموت عَنْهُنً كُنْتُ أنا وهو كهاتين" وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. 4

فقوله يَبِنً: أي ينفصلن عنه بتزويج أو موت.

أشار النووي إلى هذا بقوله: «قام عليهما بالمؤونة والتربية وقام بما يصلحهما حتى تدركا البلوغ أو تتزوجا قاصدا به وجه الله تعالى، جاء يوم القيامة مصاحبًا للنبي صلى الله عليه وسلم»5 .

حِرص النبي صلى الله عليه وسلم على القيام عليهن لضعفهن وحاجتهن للسند وإلى من يمدهن بالقوة، والعون المادي أو العون النفسي.

نقلت لنا كتب السيرة تضحية صحابي جليل من شباب الجيل الأول الذي تربى على يدي نبينا محمد وهو من أهل بيعة الرضوان إنه جابر بن عبدالله رضي الله عنه وأرضاه منعه أبوه من المشاركة في غزوتي بدر وأحد لأجل أن يرعى أخواته التسع، ولما استشهد عبدالله في غزوة أحد تركهن لا عائل لهن غير جابر فكان لهن الأخ والأب الراعي.

تزوج جابر بن عبدالله رضي الله عنه، فلما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم سأله: "ماتزوجت ياجابر أبكرا ام ثَيِّبًا؟ فقال: تَزَوَّجْتُ ثَيَّبًا ياَرَسُولَ الله.قال صلى الله عليه وسلم: هَلاَّ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعْبُكَ؟ قال جابر: يارسول الله، توُفِّيَ وَالِدِي وَلِي أخَوَاتٍ صِغَارٍ فَكَرِهْتُ أنْ أتزَوَّج َإليهِنَّ مِثْلِهِنَّ، فَلاَ تُؤَدِّبُهُنَّ ولاَ تَقوُمُ عَلَيْهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ وتُؤَدّْبُهُنَّ"6

وفي رواية قال جابر: "إنَّ عبدالله هَلَكَ وتَرَكَ تِسْعَ بَناَتٍ أو سَبْع ٍوَإنِّي كَرِهْتُ أنْ آتيهِن َّ أو أجِيئَهنَّ بِمِثْلهِنَّ، فأحْبَبَت ُأنْ أجِيءَ بامْرَأةٍ تَقُوم ُعَلَيْهِنَّ وتُصْلِحْهُنَّ، قال له ﷺ: بَارَكَ الله فِيكَ، أو قَالَ خيرًا" 7

لقد أدرك برجاحة عقله ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه وأن مايصلح لحالته هو امرأة عاقلة ناضجة ليلُم شمل أخواته الصغيرات، لقد آثر مصلحة أخواته على مصلحة نفسه، ولم يُراعي شبابه بل ربما فكر بما قد يحدث من خلاف بين زوجة صغيرة في السن وأخوات صغيرات، يجعله يبخس حق أخواته أو يظلم زوجته.

وإذا كانت الأخت متزوجة، كان الأخ الأب المحسن، الجابر لخاطرها، المطلع على أحوالها، المُدخل السرور عليها، يدافع عنها إذا أوذيت، ويعينها إذا احتاجت، ويخفف عنها كلما انهكتها الآلام والهموم... لكن للأسف فما يحدث في الواقع غير ماهو مكتوب في السطور.

وإكرام أبناء الأخت وزوجها هو إكرام لها، يفرحها ويَسُرها ويرفع قدرها عندهم، فأبناء الأخت عدَّهُم النبي من القوم ففي الحديث الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار،

فقالَ: "هلْ فِيكُمْ أحَدٌ مِن غيرِكُمْ؟ قالوا: لا، إلَّا ابنُ أُخْتٍ لَنا، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ابنُ أُخْتِ القَوْمِ منهمْ"8

انطر إلي هديه صلى الله عليه وسلم كيف جعل ابن الأخت من الأهل ولم يعده من الغرباء كما تمليه بعض العادات والتقاليد الخاطئة في مجتمعاتنا.

وربما تسوء حياة الأخت مع زوجها ويحدث طلاق فلا تجد ملجأ فبيت الأخ هو الذي يؤويها والديها الغائبين، لكن ما نسمعه من حالات طرد الإخوة لأختهم المطلقة أو الأرملة، وخاصة إذا كان معها أطفال ولا دخل لها، تنفقه على نفسها وأبنائها يدمي القلوب، وقد يسبب طردها ضياعا وإنحرافا، وقد تستغل ممن لا رحمة في قلوبهم أبشع استغلال.

ومن البر بها أنه إذا رغب زوجها في إرجاعها إلى بيت الزوجية أن يقف الأخ في وجه إعادة المياه إلى مجاريها ولم شمل الأسرة إذا أرادت ذلك.

فهذا الصحابي معقل بن يسار يقول: «زوجت أختي من رجل فطلقها حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلت له: زَوَّجْتُكَ، وَفَرَشْتُكَ، وَأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا؟! لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} البقرة:232. فَقُلْتُ: الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ».9

فالأخ في غياب الأب هو ولي أخته، يستشيرها في الأمور ويعمل بنصائحها وخاصة إذا كانت ذات رأي سديد.

فكم من أخ حرم أخته الميراث ظلما وعدوانا، وكم من أخت تعرضت للضرب والشتم والسب، بل والطرد أحيانا، وما يحدث في المحاكم غير بعيد عن مسامعنا وأبصارنا.

إن الأصل في الأخت حبها لأخيها تحنو عليه، في القرآن الكريم صورة خالدة ومشرقة للأخت الحانية، قامت بدور إجابي وفعال، إنها أ خت موسى عليه السلام وصف القرآن مشهد الأخت وهي تقتفي أثار الأخ الذي ألقته الأم الخائفة في التابوت خوفا من ظلم فرعون يقول تعالى:{وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} القصص:11. فراحت الأخت تطلب شأنه، فبصرته عن بعد، بل غامرت بدخولها قصر فرعون، ولما علمت بأن الرضيع يرفض المرضعات أخبرتهم عن عائلة تكفله، وامرأة ترضعه قالت:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} القصص:12، يالها من شجاعة ومُحبة، وهكذا رجع موسى لأمه لتقر عينها ولا تحزن.

ولما كبر موسى أراد الله تعالى أن يذكره بتلك التضحية الكبيرة التي قامت بها الأخت وبتلك الخطوات الحثيثة التي مشتها الأخت الحانية، وكانت هذه إحدى المنن العظيمة على موسى عليه السلام يقول تعالى:{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ.....} طه: 40.

ومن جميل القصص عن حب الأخت لأخيها أذكرها هنا لللإستئناس أن أحد الولاة أسر ثلاثة رجال أخ، وزوج، وابن، أُحضرت المرأة وخيرُوها بين أحدهم.

فقالت: الزوج موجود، والابن مولود، والأخ مفقود، وأنا أختار الأخ.

فقال الوالى: عفونا عن جماعتهم لحسن كلامها 10.

إن الأخ هو الأب الثاني للأخت فهي أولى بهديته، وصدقته، فكم من محسن إلى أخواته رُفع ذكره في الدنيا ولن يضيع الله أجره في الآخرة.

كثير منا يعرف الخنساء الشاعرة والصحابية الفاضلة، لكن قليلا من يعرف سبب رثائها لأخيها صخر.

السبب في ذلك: هو إحسانه وإكرامه لها، كانت الخنساء حبيبة أخيها صخر يجود عليها ويغمرها بعطفه ومن ذلك أن زوجها افتقر فقصدت أخاها صخر فقسم ماله شطرين وأعطاها أجودهما، وبعد مدة افتقر زوجها وعادت إليه وقسم ماله شطرين وأعطاها أجودهما وفعل ذلك مرارًا وفي كل مرة كان يقاسمها ماله ويعطيها أحسنه.11

وفي عهد الفاروق رضي الله عنه، مر قومها بالمدينة فأتوا أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فقالوا: هذه خنساء فلو وعظتها فقد طال بكاؤها في الجاهلية والإسلام.

فقام عمر وأتاها وقال: مالذي أقرح مآقي عينيك؟

قالت: سادات مضر.

قال: إنهم هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاد اللهب، وحشو جهنم.

قالت: فداك أبي وأمي ذاك زادني وجعا.12

بكت صخرًا في الجاهلية حبًا له وحسرة على فراقه، وبكته بعد إسلامها شفقة عليه وخوفا عليه من عذاب النار.

أعلم أخي أن صلتك لأختك لن تزيدك إلا رفعة في الدنيا وفي الآخرة، سترسم طريق الخير لأبنائك ليرفقوا ببناتك ويعلو شأنك عند الناس ويشار إليك بالبنان بأنك الواصل للرحم، وأختك قطعة ترى فيها صورة أمك، ومأوى تشكو إليها إن ضاق همك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

1 -البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبو عبدالله، الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله عليه وسلم وسننه وأيامه، تح: جماعة من العلماء، (ط1 طبعة السلطانية، دار طوق النجاة- بيروت- 1433ه)، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان الوحي، 3، 1/7

ميثاق الأسرة –اللجنة العلمية للمراة والطفل التابعة للمجلس العالمي للدعوة والإغاثة، الفصل الرابع، مادة:13، ص 30 2

3-الإمام أحمد، احمد بن محمد بن حنبل، أبو عبدالله، الشيباني الوائلي، مسند الإمام أحمد بن حنبل، تح:شعيب الأرناؤوط وآخرون، (ط 1، مؤسسة الرسالة، 1421ه/2001م ) مسند النساء –حديث أم سلمة زوج النبي –صلى الله عليه وسلم- ،265516، 44/134

المصدر نفسه، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، إسناده صحيح على شرط الشيخين12497، 19/4184-

5- الإمام النووي، محي الدين أبي زكرياء يحي بن شرف النووي، صحيح مسلم بشرف النووي، تح: محمد فؤاد عبد الباقي، (ط1، دار ابن الجوزي –القاهرة- ، 1432ه/2010م) المجلد الثامن، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات، 15/146

6- صحيح البخاري، مصدر سابق، كتاب النفقات، باب عون المرأة زوجها في ولده، (5367، 7/ 66).

7-الإمام مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، المسندالصحيح المختصرمن السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ، تح: محمد فؤاد عبد الباقي، (د ط، دار الحلبي وشركائه، د ت)، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح البكر، 1466، 2/1087

صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب المناقب، باب ابن أخت القوم ومولى القوم منهم، (3528، 4/128)

8- المصدر نفسه، كتاب النكاح، باب من قال لانكاح إلا بولي، (5130، 7/16

المصدر نفسه، كتاب النكاح، باب من قال لانكاح إلا بولي، (5130، 7/16) 9-

10- الراغب، أبو القاسم الحسين بن محمد بن الفضل أبو القاسم الأصفهاني، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، دتح، (ط1، شركة دار الأرقم بن الأرقم –بيروت- 1420 ه/1988م)، 1/434

11- ابن عبد ربه الأندلسي، أحمدبن محمد بن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، تح:مفيد محمد قميجة، (دط، دار الكتب العلمية –بيروت- 1404ه/1983م)، 3/223 12- الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبدالله الصفدي، تح: أحمد الأرنؤوط وتركي مصطفى، (دط، دار إحياء التراث –بيروت- ، 1420ه- 2000م)، 10/ 243.


مقالات ذات صلة


أضف تعليق