الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مفعم بالإخلاص، مشحون بالشجاعة، ممزوج بالمروءة، محاط بالشهامة، مغمور بالنشاط، يتوسط ميدان الجهاد، يتبوأ الإيمان ويتحصن بالقرآن، الشريف أنس الشريف، من المناضلين من أجل كرامتهم وعزتهم التي أخذوها من كرامة القرآن وعزة الإيمان {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8].
أما المتساقطون على الطريق، فقدوا إيمانهم بربهم الذي هو وقودهم، فقدوا مبادئهم التي هي نبراسهم، فقدوا مروءتهم التي هي ضياؤهم، فقدوا كرامتهم التي هي نورهم، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
هناك متألقون على الطريق وهم كثر، ذوو المروءة والشهامة، أصحاب العزة والكرامة، الثابتون على مبدأهم السائرون في طريقهم.
أنس ارتقي ليُبقي لمجتمعه القيم العالية والآداب الرفيعة والأخلاق الحسنة، يُضحي بأعز ما يملك فداءً لدينه وإرضاءً لربه، وعشقًا لوطنه. تملَّكه الإخلاص - نحسبه كذلك ولا نزكيه على ربه - يستبطئ اللحظات التي تفصل بينه وبين الجنة، ويستطيل المسافات التي تُبعده عن الفردوس الأعلى!
أنس يستبشر بالفرح، ويتيمن بالخير: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 171]؛ يفرحون بنعمة الله وفضله وإحسانه.
أنس علمنا أن التفاؤل والاستبشار حائطُ دفاعٍ جيد ضد الإحباط والتعاسة.
أنس علمنا كيف تتعلق بفرج الله، حتى لو كانت المعطيات كلها ضدك، حتى لو أن العقبات كلها أمامك؛ فالبحر أمام موسى، والعدو خلفه؛ ومع ذلك قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، ومن ثم كانت النجاة، وبأسهل الأسباب، وبأبسط الأشياء، كيف؟ {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، وكان فضل الله عظيمًا على موسى وأتباعه؛ {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ • ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 65-66].
علمنا أن المؤمن إذا حلَّ الظلام في طريقه، لا بد أنه سيرى ضوءًا يشدُّه، وينير طريقه، ويوقد في داخله أمل العمل، وطموح الإصرار والتحدي.
علمنا أنه ما دام الإنسان مؤمنًا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا ورسولًا، عندما يداهمه اليأس، يصنع طريق الأمل، يشرق في قلبه من جديد، ولا يترك للحزن مكانًا في صدره، يثق بالله ثقة كبيرة، ويحسن الظن بربه، ويتوكل على الله، ومن توكل على الله فهو حسبه.
علمنا أن الثبات على المبدأ انتصار، وأن الوقوف في وجه الباطل شأن الأحرار، وأن البقاء في دار الكرامة والعزة طريق الأوفياء الأبرار، وأن نقل الحق والحقيقة قمة الفخر وذروة الفخار!
فطوبى لمن يسير على الدرب؛ يرسم ابتسامة، ويمسح دمعة، ويخفف ألمًا، ويطرد جوعًا. ولأن الغد ينتظرنا، والماضي قد رحل، فمع بزوغ كل فجر جديد، ننظر للحياة بجانب مشرق.
رحلت بجسدك لكن بقيت فينا بروحك {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ • فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ • يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169-171].
حسبنا أن جعل الله للشهيد فضائل كثيرة ومنازل وفيرة يتقلب بينها في جنات الخلد في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ فالشهيد لا تأكل الأرض جسده، ولا يفتن في قبره، ويفرحه الله من فضله ويبشره برزقه، روحه في ظل العرش وفي حواصل الطير.
كل هذه الفضائل للشهيد في حياة البرزخ، أما في يوم القيامة فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "إن للشهيد عند الله سبع خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانًا من أقاربه"؛ الحديث أخرجه أحمد، وهو حديث حسن، وحسنه ابن حجر في فتح الباري.
الشريف أنس الشريف ماذا بينك وبين الله؟!! دعوات المخلصين تملأ الآفاق، وترحمات الثكالى رفعت عند مقسم الأرزاق، وآهات المكلومين تفضح فاقدي المروءة والأخلاق. رحمك الله يا أُنس غزة، رحمك الله يا أنس عسقلان، رحمك الله يا شريف الميدان، رحمك الله يا قاهر الصهاينة وطائفة الخذلان. كانت كلماتك رصاصات، فالحقيقة عند هؤلاء نوع من الرصاص لا يقوون على تحمله، لذلك رسموا الخطط، أغروا العملاء والمنافقين، أنفقوا الأموال، من أجل الخلاص منك، لماذا؟! لأنك أتعبتهم، فقط بالميكروفون الذي بيدك، فقط بقول الحق وإعلان الحقيقة للعالم.
لكن حسبنا قول ربنا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ • لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 36-37].
عشت بالحق، وبلغت الحقيقة والحق، استشهدت رافعًا رأسك في ميدان الحق، وذهبت إلى جوار الحق، فهنيئًا لك هذه الشهادة، جائزة الصبر والخوف والجوع والتحمل. نشهد الله أنك لم تمل ولم تكل، الشريف أنس الشريف، سليل الشرفاء في كل الأنحاء، والبطل المغوار في كل الأجواء. رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. قلتها وبإذن الله نلتها (لن نخرج من غزة إلا إلى الجنة). أنت وزميلك وكل الأبطال الشهداء إلى جوار الرحمن، مع الأبطال الشجعان في أعلى الجنان.
إن الفرحة العظمى والجائزة الكبرى - التي أسأل الله تعالى أن تنالها يا أنس - عندما يضحك الرب لعبده الذي قدم حياته من أجله. إنه أفضل الشهداء، يعطى جزيل الثواب ولا حساب عليه، كيف؟ جاء ذلك في الحديث، عن نعيم بن همار أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الشهداء أفضل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الذين إن يلقوا في الصف لا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلا من الجنة (يتلبطون أي: يتمرغون)، ويضحك إليهم ربك وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه"؛ الحديث أخرجه الإمام أحمد، وهو حديث صحيح. فطوبى لمن ضحك الله إليه فابتسم عند الشهادة، وطوبى لمن علمه من أهله ورباه. جمعنا الله مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
ربح البيع أنس، ربح البيع أنس. هذه صفقة رابحة، تجد المشتري هو الله، والبائع هو المؤمن، والسلعة هي نفس المؤمن التي منحها الله تعالى له حينما نفخ فيه من روحه؛ لذلك فالاستبشار بهذا الشراء كبير، والفوز بهذا البيع عظيم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
وكأني بك يا أنس في الجنة قد فزت بالصفقة الرابحة، وتنقل مباشر من الجنة: إلى كل من يهمه الأمر {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ • قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ • بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 25-27].
رحمة الله تغشاك الشريف أنس الشريف.
لم أقابلك ولم أعرفك إلا مراسلًا مناضلًا عبر شاشة الجزيرة، لكني أحببتك كثيرًا لتفانيك ونشاطك وعملك الدؤوب في خدمة غزة الأبية وفلسطين الوفية، ودفاعًا عن مقدسات الأمة وبلوغ القمة!!
أسأل الله تعالى أن يعطيك ويرضيك.
اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره واغفر لنا وله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين