بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تلوح تباشير ذكرى ميلاد سيد الخلق محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة الخالدة التي حملت في طياتها الرحمة لكل العالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. رسالة انتقلت بالبشرية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، وقفزت بالإنسانية إلى مستقبل مشرق جميل.
لقد كان مولده إعلانًا قويًا وواضحًا لرسالة عالمية، امتدت في الزمان والمكان، رسالة شاملة، واضحة، خاتمة، جاءت لتسود العالم إلى يوم الدين، لتصده عن الانحراف إلى الاستقامة، وتنأى به عن التيه إلى الرشد، وتخرجه من ظلمات الجهل إلى نور العدل والسلم.
أمر الله سبحانه وتعالى الناس عربهم وعجمهم باتباعه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
"اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ في مصالحكم الدينية والدنيوية، فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالًا بعيدًا"[1].
وعن ميلاده صلى الله عليه وسلم كتب شيخنا البشير الإبراهيمي: "ولد النور الذي نسخ الظلام، وولد فيها التوحيد الذي أمات الوثنية، وولدت فيها الحرية التي انتقمت من العبودية، وولد فيها التساوي الذي قضى على الأثرة والأنانية، وولد فيها التآخي الذي أبطل البغي والعدوان، وولدت الرحمة التي قضت على القسوة والجبروت وعلى البخل وآثاره، وولدت فيها الشجاعة التي تنصر الحقيقة وتمهد الطريقة، وبالإجمال ولد الإسلام وما أدراك ما الإسلام"[2].
لقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم من المحن والأذى ما لا يخطر على بال أحد منا، كان هذا الذي ناله على قدر الرسالة التي حملها الله إياه، فاستحق بذلك الدرجة الرفيعة والمقام المحمود.
فبربكم كيف لا نقف عند ذكرى مولده؟
الشفيق على أمته، أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم الماضية من العذاب والاستئصال، ومن كمال شفقته ما رواه مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "أن النبي ﷺ تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى.
فقال الله عز وجل: "يا جبريل! اذهب إلى محمد، -وربك أعلم-، فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله ﷺ بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك"[3].
إن أمته التي بكى خوفًا عليها تعاني الويلات والتحديات، وتلاقي النكبات تلو النكبات، إذ أُثقل المسلمون بالدنيا، أحبوها وتنافسوها، عبدوا الدينار والدرهم فأهلكتهم، فتداعت عليهم الأمم تداعي الأكلة إلى قصعتها.
كيف لا نقف عند ذكرى مولده؟
وهو الرحيم بنا، الآخذ بحجزنا عن النار، خوفًا علينا في الحديث الذي رواه جابر بن عبدالله أن النبي ﷺ قال:((مثلي ومثلُكم كمثلِ رجلٍ أوقدَ نارًا، فجعل الفراشُ والجنادِبُ يقعْنَ فيها، وهو يذُبُّهُنَّ عنها، وأنا آخُذُ بحُجْزِكُمْ عنِ النارِ، وأنتم تفْلِتونَ مِنْ يَدَي)) [4].
كيف لا نقف عند ذكرى مولده؟
وهو صاحب العفو، وقد بلغ عفوه ذروته حينما سأل الله تعالى أن يخرج من أصلاب المشركين الذين آذوه ووقفوا في وجه دعوته مَن يعبدالله ويقيم دينه. عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أُحُدٍ؟ قال: ((لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيتُ منهم يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد يَاليلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، فلم يُجبني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفقْ إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قولَ قومِك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملكُ الجبال، فسلَّم عليَّ ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قولَ قومِك لك، وأنا ملكُ الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت: إن شئت أطقتُ عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرجَ الله من أصلابهم من يعبدالله وحده لا يشرك به شيئًا)) [5].
فأي عظمة هذه التي يتطلع صاحبها برؤية تفاؤلية لغد مشرق، جيله غير جيل الآباء، جيل يعبدالله ويقيم عدالته فوق الأرض.
كيف لا نقف عند ذكرى مولده؟
وهو الذي أثنى عليه الله -جل في علاه-: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ونحن في عصر نحتاج فيه إلى إعادة منظومة القيم والأخلاق التي تهاوت.
كيف لا نقف عند ذكرى مولده؟
وما عرفت البشرية سيرة أكمل وأوضح وأشمل وأحفظ على وجه الأرض عبر التاريخ المديد مثل سيرته صلى الله عليه وسلم، ولن تجد الإنسانية التائهة مَثَلًا أعلى وأعظم تقتدي به كصاحب السيرة العطرة صلى الله عليه وسلم: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
ما أصعب هذا الزمن، انتشر الإلحاد ومسخت الفطرة وانتكست، ومع ابتعاد المسلم عن كتاب ربه وسنة نبيه فقد بوصلة المسير، أصبح كغيره من البشر يقطع شوط الحياة بلا هدف.
لقد جلبت الحضارة المادية الأنانية والفردانية وشهوة الاستهلاك المسعور والترف والتفاهة القاضية على الأعمار والإعمار.
الإنسانية تئن في كل بقاع الأرض، تصرخ، تناشد، تنادي: هل من منقذ من الهلاك؟ أين حبل النجاة؟ النفوس عطشى إلى نبع صاف يرويها ويغسل ما علق عليها من غبار الضياع والتيه، وينقذها من الفراغ والانتحار.
فمن ذا الذي يقدر على ذلك؟ إنه معلم الخير للناس الذي جاء بعدالة الإسلام ورحمة الإسلام وإحسان الإسلام وهداية {إياك نعبد وإياك نستعين}. السراج المنير، البشير النذير.
إن مسلم العصر بحاجة لفهم حقيقة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم القائمة على العدل والإحسان والرحمة، لنقل نفسه وهذه الإنسانية المستنجدة المنهكة إلى شاطئ الأمان والسلام.
وهو مطالب بأن يقف عند ذكرى مولده متأملًا مصححًا لمسيرته، بإحياء سيرته في سلوكياتنا، ودراستها وتمثّل معانيها، بمسؤولية عظيمة ودور كبير. وسيسأل عن ذلك، فهل أعد للسؤال جوابًا؟
إن ذكرى مولده فرصة لنجدد بيعتنا له، معلنين بصدق أنه أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا وأموالنا ومن شهواتنا وآمالنا. أوليس حبه دليل الإيمان؟ ((لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِهِ، ووالدِهِ، والناسِ أجمعينَ)) [6].
وتحقيق هذا الحب لا يكون إلا بمعرفته والتقرب منه، وتطبيق تعاليمه في حياتنا اليومية، والاقتداء به في كل صغيرة وكبيرة، حبًا يرافقنا في سكناتنا وحركاتنا.
نقف عند سيرته العطرة نستنبط منها العظات والعبر، نعلمها أبناءنا، ونتأمل ما أصاب أمتنا من محن ومصائب، ونستلهم من صبره الدروس العملية من أجل تحقيق الغايات والأهداف المنشودة مهما كانت شدتها وأهوالها، ومهما كانت المعاناة، ومهما كان البذل نفيسًا، لأن الآمال العظيمة لا تنال إلا بالتضحيات الجسام.
إن ذكرى مولده رسالة لجيل الأمة الفتي المستهدف في دينه وعقيدته، وسلخه عن هويته الإسلامية، وأن نستشعر حضوره معنا دائمًا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات: 7].
فهو فينا ومعنا بمنهجه وخلقه وكل ما يحقق لنا النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
إن الأمل معقود على الشباب المسلم في التعريف بنبي الرحمة وفهم الدين فهمًا صحيحًا، ويعرف حقيقته القائمة على الوسطية والاعتدال، والأمل معقود في النهوض بالأمة من رقدتها الطويلة، والحرص على الوحدة وتلاحم الصفوف ونبذ الخلافات والنزاعات.
في ذكراه تتجدد أنوار البشر والأمل ورسائل النصر لتملأ القلوب يقينًا بأن النصر قريب، وأن تباشير الصبح قد آذنت بالتنفس والانفلاق، وأن التمكين لا محالة آت.
إن حاجة المسلمين حول العالم اليوم لدراسة سيرته ﷺ كبيرة وملحة، فلن ينجح تغيير وإصلاح ودعوة، إلا أن نهرع إليها لنقف على معالم البناء الإيماني والأخلاقي، لنربي عليها جيلًا على خير قدوة، ونعَمق ولاءهم لأعظم جيل أخرجه الله للناس.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين