بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
(عن أبي الذّيّال، قال: تعلّم الصّمت كما تعلّم الكلام، فإن يكن الكلام يهديك فإنّ الصّمت يقيك، ألا في الصّمت خصلتان: تدفع به جهل من هو أجهل منك، وتعلم به من علم من هو أعلم منك).
((الزهد)) لابن أبي عاصم (ص: 51).
وقال بعضهم: *رأيت مالكًا صامتًا لا يتكلم، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا، إلَّا أن يكلمه إنسان فيسمع منه، ثم يجيبه بشيء يسير، فقيل له في ذلك، فقال: وهل يَكُبُّ الناسَ في جهنم إلَّا هذا؟ وأشار إلى لسانه*.
ترتيب المدارك (١/ ١٧٩).
وعن أبي بكر بن عياش قال: *أدنى نفعِ السكوتِ السلامةُ،- وكفى به عافية، وأدنى ضررِ المنطقِ الشهرةُ، وكفى بها بلية!*.
*سير أعلام النبلاء*(٨/ ٥٠١).
و (قال بعض البلغاء): الزم الصمت فإنّه يكسبك صفو المحبّة ويؤمنك سوء المغبة ويلبسك ثوب الوقار ويكفيك مؤونة الاعتذار.
ذكر الشيخ المفضال صاحب المصنفات الحسنة المفيدة: محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم في كتابه «بصائر في الفتن» (ص73) بعد أن أورد أقوال السلف والعلماء في الصفت وحفظ اللسان؛ أن الأصل هو الصمت قائلًا:
«فليكن الأصل هو الصمت؛ إذ يكفي في فضل الصمت كونه أقوى وسيلة وقائية من الغِيبة وأخواتها من آفات اللسان، والسلامة لا يعدلها شيء إلَّا مَن تيقن مِن حصول الغنيمة بالكلام.» انتهى
والذي يظهر لي أن الأصل هو التكلم بالخير وبما ينفع، فمن لم يكن متكلما بخير فليصمت، كما دلّ على ذلك قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". أخرجاه في الصحيحين، وفي رواية: "أو ليسكت".
فقوله: (فليقل خيرًا أو ليسكت)؛ يدل على أن قول الخير خير من الصمت، والصمت خير من قول الشر، إلا أن هذا الحديث يدل على فضل القول؛ لأنه بلام الأمر، ثم بدأ به على الصمت، فقال: فليقل خيرًا، ثم قال: أو ليسكت، يعني إن لم يقل خيرًا فليصمت. كما في الإفصاح لابن هبيرة.
ومن جميل ما يذكر في هذا المقام ما جاء في «الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي» لأبي الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى الجريرى النهرواني (ت 390ه):
«وَفِي الْكَلَام بما هُوَ خَير وَصدق وَعدل وَحقّ = الْأجر والفائدة وَالْغنيمَة الْبَارِدَة، وَفِي الصمت فِي مَوَاطِن الصمت = الرَّاحَة والسلامة، والتنزه عَمَّا عاقبته الْمَكْرُوه والندامة.
وَقد ذُكر فِي فضل النُّطْق ومدح الصمت نثرًا ونظمًا مَا يطول إِتْيَانه وَيكثر تعداده، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع الْإِتْيَان بِهِ.
وَجُمْلَة القَوْل أنَّ لكلِّ وَاحِد من الْأَمريْنِ موضعا هُوَ فِيهِ أولى من صَاحبه، وَقد يعتدلان فِي بَعْض الْأَحْوَال ويتقاربان، وَإِن كَانَا فِي بعضهما يتفاوتان ويتفاضلان.
وَقد حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَحْمَد بْن عبدالله الدقيقي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عُمَر السّبيعي، قَالَ: سَمِعت بِشْر بْن الْحَارِث يَقُول: الصَّبْر هُوَ الصمت، والصمت هُوَ الصَّبْر، وَلَا يكون الْمُتَكَلّم أورع من الصَّامِت إِلَّا رَجُل عالمٌ يتَكَلَّم فِي مَوْضِعه ويسكت فِي مَوْضِعه. انتهى (ص126- 127).
وجاء في الاستذكار لأبي عمر ابن عبد البر: (قَالَ أَبُو عُمَرَ قَدْ أَتَيْنَا فِي التَّمْهِيدِ بِمَا فِيهِ شِفَاءٌ مِنَ الْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ رحمهم الله فِي فَضْلِ الصَّمْتِ وَأَنَّهُ مَنْجَاةٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَمَتَ نَجَا"، إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ بِالْخَيْرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِدْمَانَ الذِّكْرِ وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّمْتِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِذَلِكَ غَنِيمَةٌ وَالصَّمْت سَلَامَةٌ؛ وَالْغَنِيمَةُ فَوْقَ السَّلَامَةِ. انتهى
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين