مغسلة صلاة الفجر

319
7 دقائق
15 جمادى الأول 1447 (06-11-2025)
100%

ط

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

إذا أردت أن تغسل ثيابك تقوم بعدة تحضيرات، تجهز الماء، والمنظف (المسحوق)، والآلة التي تغسل (الغسالة)، ثم تضع الثوب والمنظف والمياه في الغسالة وتبدأ في التنظيف والتطهير، والتجفيف، ثم تلبس ثيابك طاهرة نظيفة ليراك الناس في أحسن حال، هذا في الظاهر، أما الباطن فكيف هو؟! وأين هو من رب الناس؟!

ركعتي الفجر من السنة المستحبة، وخير من الدنيا وما فيها، وهما يمثلان طهارة وتهيئة للمسلم قبل أداء فريضة الفجر.

وهناك أيضًا التهيئة الروحية والقلبية التي يقوم بها المسلم قبل صلاة الفجر، مثل الاستيقاظ في وقت مبكر، وذكر الله، وتلاوة القرآن، وذلك لتنقية النفس وتحقيق الصفاء لوقت الصلاة وللإنسان المصلي وللمكان الذي يؤدي فيه الصلاة! فيجتمع طهارة الزمان والإنسان والمكان!

المسلم يجب أن يتفق مظهره مع جوهره، ظاهره مع باطنه، داخله مع خارجه، فالله تعالى {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} [غافر: ١٩].

هناك مغسلة من نوع آخر، كيف؟!

الكون خالي من الذنوب، ملئ بالأكسجين النقي، لم يلوث بعد بثاني أكسيد الكربون، والبشر من نوع الأنقياء الأصفياء الذين يسمون أهل الفجر، الذين يحافظون على صلاة الفجر مهما كانت الظروف،

والوقت وقت البزوغ، تتهيأ الملائكة لتشهد {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء: ٧٨]، فيشهد الله، وملائكة الليل، وملائكة النهار، تتهيأ الكتبة لتكتب وتحصي {ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} [يس: ١٢]، ويتهيأ الجو ليسمع.

تستيقظ قبل الفجر تحضر الأدوات، وتهيئ نفسك، وتطهر داخلك وتنظف جوهرك، تقوم أولًا بالوضوء (الماء)، ثم بعض الأذكار، استغفار وتسبيح وتلاوة قرآن (المسحوق) ثم بعض الركعات حتى يؤذن الفجر، ثم تذهب إلى صلاة الفجر (المغسلة).

تبدأ يومك بالاستحمام والاستجمام والسلام، السلام النفسي مع البشر والسلام القلبي مع الكون، والسلام الروحي مع رب الكون، ما أجملها من مطهرة، وما أعظمها من مغسلة، تستر العيوب، وتهون الخطوب، وتطفئ الذنوب، كيف؟!

عن عبدالله بن مسعود قال، قال صلى الله عليه وسلم: "تحترقون تحترقون، فإذا صلَّيتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صلَّيتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صلَّيتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صلَّيتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صلَّيتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا" (حسن صحيح أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط).

إنه شعور خاص بالهدوء والسكينة، بالسلام والطمأنينة، بالتواصل مع الله، إنها تجربة دينية عميقة تُشعر المسلم بالانتماء والراحة والسعادة.

فأنت أخي المسلم قبل أن تنظم هندامك أمام المرآة، نظم صدرك أمام الله، وقبل أن تنظف ثوبك من التراب والغبار نظف قلبك من الحقد والحسد، وقبل أن تغسل أعضاءك وأطرافك بماء الوضوء اغسل ذنوبك وآثامك بالتوبة والإنابة والأوبة، وحبذا أن يكون ذلك مع بزوغ الفجر وبداية اليوم في صلاة الفجر!!

وقت صلاة الفجر تشعر أن الجو يملأ النفس أنسًا وبهجة، ويملأ القلب صفاءً ونشوة، ويملأ الوجه نضارة وفرحة! جو غير عادي، لم يلوث بأنفاس العاصين بعد، ولم يشوه بذنوب المذنبين، جو يُطل على قلبك المكدود، فيضخ فيه الدماء، وينبت فيه الحياء، ويجدد فيه البناء، ويترك فيه النقاء، ويزيد فيه الصفاء، وكأن كل فجر هو عيد للذين يتذوقون حلاوة صلاة الفجر ولذتها!!

تقول عائشة رضي الله عنها: لم يكن النبي على شيء من النوافل أشد تعهدًا منه على ركعتي الفجر. وكان يقول صلى الله عليه وسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما عليها"، عن عائشة رواه مسلم.

وقال أيضًا: "لهما أحب إلي من الدنيا جميعًا"، عن عائشة رواه مسلم وأحمد في مسنده.

وهناك سجلات حضور وانصراف، هناك ملائكة تحضر لتكتب وأخرى تحضر لتشهد، الملائكة تتبع من يصلون الفجر وتثني عليهم، كيف؟!

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم -وهو أعلم بهم-: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون". رواه البخاري ومسلم.

إنه نداء في الدنيا وآخر في الآخرة: ما أجل أن يُناديك ربُّك (حي على الصلاة) فتُلبِّي، (حي على الفلاح) فتُجيب، (الصلاة خير من النوم) فتُصدِّق وتُسرع، وكأن المنادي ينادي: يا نفوس الصالحين في قرب الرحمن وسماع القرآن افرحي، ويا قلوب المتقين مع الملائكة الشهود اطمئني، يا عشاق الجنة بعبق الفجر تأهبوا، ويا عباد الرحمن في رحمة الله ارغبوا، ارغبوا في طاعة الله وفي حب الله وفي جنة الله. فطوبى للذين وفِّقوا للاصطفاف خلف الإمام في صلاة الفجر، طوبى للذين كانوا مستغفرين بالأسحار، مقيمين بالليل، مشرقين بالنهار!

ألا تريد أن تجاور ربك يوم القيامة؟! إن ذلك يبدأ من صلاة الفجر!! هاهو نداء الآخرة،

عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لينادي يوم القيامة: أين جيراني، أين جيراني؟ قال: فتقول الملائكة: ربنا ومن ينبغي أن يجاورك؟ فيقول: أين عمار المساجد؟". أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وقال فيه الألباني كما في السلسلة الصحيحة.

ألا تريد أن تصبح طاهر القلب نظيف الصدر زكي النفس؟! تغفر ذنوبك وتمحي سيئاتك فتصبح طيبًا طاهرًا؟!

قال صلى الله عليه وسلم: "الصلاة الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". رواه مسلم.

ذُكِر أنَّ صلاح الدين الأيوبي وعى هذا الدرس، فقد ذهب إلى صلاة الفجر في المسجد الأموي بعد أن أقيمت الصلاة، ولم يكتمل الصف الأول، وبعد سبع سنوات ذهب إلى المسجد نفسه بعد أن أقيمت الصلاة، فلم يجد له مكانًا، وصلى في الساحة الخارجية، عندها توكَّل على الله، وشنَّ الحرب على الصليبيين، فانتصر نصرًا مؤزرًا وحرر الأقصى.

والمناضلين في فلسطين، والمجاهدين في غزة، لم يكونوا يصمدوا قرابة العامين أمام غطرسة الأعداء إلا لأنهم كانوا يحافظون على تلاوة القرآن وصلاة الفجر!!

للفجر رائحة شهية وصوت عذب من السماء ليخبر أهل الأرض أن الله أكبر، وأن أهل صلاة الفجر فئة موفقة وجوههم مسفرة وجباههم مشرقة وأوقاتهم مباركة، أما إذا هجرت الصلاة فاعلم أن الراحة والبركة قد هجرت حياتك!!

إنه شعور لا يغمر الجسد فحسب، بل يلامس أعماق الروح، متقد لا ينطفئ، مستقيم لا ينكسر، حي لا يموت، من عرف قدره لا يتركه، يعلم أنه الجوع الذي لا يُشبع، والعطش الذي لا يروي، وإنما تظل فيه تأكل وتشرب ما حييت!!

سمة الفجر تظهر على من صلى الفجر، فيرضى المسلم بحاله وبكلّ ما سيجري له خلال النهار، وإذا حصل أيّ عارض له خلال النهار فبسرعة يتذكر كيف قدّم الفجر، وهل من تقصير حصل في صلاة الفجر، فبعد فرحنا بصلاة الفجر تتوق النفس للزيادة، تستيقظ في السحر، لتنعم بمزيد من الفرح والسعادة والريادة!!

تنفرد صلاة الفجر بأذان مختلف عن بقية الصلوات فيه: (الصلاة خير من النوم) إنه اختبار الصدق مع الله، اختبار الوفاء بالعهد، واختبار النفاق بعيدًا عن اللحاق، صلاة الفجر وترك الفراش أصدق دليل على محبتك لله. جهادك لنفسك وترك الفراش لوجه الله والمشي في ظلام الليل لعمارة المساجد دليل على صدقك مع الله، صلاة الفجر بركات حياتك وطوق نجاتك وأكبر شفيع تُقضى بها حاجاتك، إنها قمة الطهر والطهارة، التنظيف والنظافة، قمة الحضور والتحرير والحضارة، حضارة العبادة، تحرير النفس من الأوهام والضلال، وتحرير العقل من الغش والخداع، وتحرير اللسان من الكذب والنفاق، وتحرير القلب من الذنوب والآثام!!

كيف لا ومن حضرها فهو في ذمة الله؟

كيف لا ومن حضرها خير له من الدنيا وما فيها؟

كيف لا ومن حضرها كان مع الملائكة الشهود؟

كيف لا ومن حضرها خير له من النوم؟

كيف لا وقد أقسم الله بها {والفجر وليال عشر} [الفجر: ٢] والعظيم لا يقسم إلا بعظيم؟

كيف لا ومن يمشي إليها يبشر بالنور التام يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"؛ (رواه الترمذي وابن ماجه).

ذُكر في كتاب خواطر الفجر أنَّ رجلًا كان يصلِّي الفجر في مسجد رسول الله راح يومًا ليصلِّي الفجر، فوجد الناس يخرجون، فقال مندهشًا: لم تخرجون؟ ماذا حدث؟ قالوا له: أقام رسول الله الصلاة وفرغ من إسرارها، وأنت الذي جئت متأخِّرًا، فإذا بالرجل يخرج من جوفه آهة تمتزج بها روحه، ويختلط بها دمه، فقال له من يحدِّثه: هوِّن عليك يا أخي، أتعطيني هذه الآهة، وتأخذ صلاتي التي صلَّيتها، قال: نعم، أعطيك إياها، قال له: قبلت، فذهب، ثم رأى في نومه كأنَّ مناديًا يناديه قائلًا: لقد اشتريتَ جوهر الحياة وشفاء الروح، فبحرقة هذه الآهة وبصدق هذا الندم قُبلت صلاة المسلمين كافة، ندم على تأخره، واستغفر من ذنبه، وعاد إلى ربِّه مستأنفًا الطريق إليه.

صلاة الفجر محطة هامة، ودوحة هادئة، وفرحة غامرة، لا يدركها إلا القليل من الطاهرين على هذه الأرض أولئك الذين أحبّوا القرب من الله من الداخل، من لب الروح، لا من شكل الجسد، من سويداء القلب لا من لون الملبس، أولئك الذين ارتقوا بحب الله حتى صار لديهم عبادةً فجرية يومية ثابتون عليها لا يتخلفون عنها، يكفيهم فقط أن يعيشوا الشعور، يركنوا إلى رب غني كريم غفور!!

صلاة الفجر بالمسجد: المساجد منازل النور ومهابط الهداية قال تعالى: {الله نور السماوات والأرض}. *ثم بيّن مَثَل نوره في قلب المؤمن، وذكر بعد ذلك مباشرة* {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال}.

فما أعظم هذا الارتباط!

نور الله لا يتلقى من الأفكار المجردة ولا من العزلة عن مواضع الطاعة، بل من المساجد، حيث تتنزل الرحمات، وتسكب الهدايات، وتروى الأرواح بنور الله الذي لا يخبو.

ولمّا قال{رجال}علمنا أن الصلاة في المساجد لهم، وأن الجماعة لهم، وأن نور الهداية الأعظم إنما يمنح لمن عمر هذه البيوت، فمن أغلق على نفسه داره، أو هجر المسجد بلا عذر، فقد حرم نفسه من مورد النور وموطن الرحمة،

أين يُتلى كتاب الله؟

أين تقام الصلوات الخمس؟

أين تعرف المواعظ وتصفى القلوب وتخشع النفوس؟

إنها المساجد، ولذا قال بعض السلف: من أراد نورًا في وجهه، وسكينة في قلبه، وصلاحًا في حاله، فليلزم المسجد. المسجد ليس جدران، بل منار، ومحراب، وملاذ….هو بيت الله، ومن أحب الله أحب بيته، ومن أحب بيته أكثر ارتياده، فكثر نوره، واستقامت خطاه.

يا من هجرت المسجد، كيف تطلب النور وأنت بعيد عن منبعه؟

كيف ترجو الهداية وأنت معرض عن دارها؟

عودوا إلى بيوت الله، وافتتح يومك فيها بصلاة الصبح، فإن فيها حياة القلوب، وصفاء الأرواح، وأنوار الإيمان، ومن عمر قلبه بذكر الله في المسجد، عمر الله قلبه بنور لا ينطفئ.

صلاة الفجر الشعور الذي لا يقال بل الذي يعاش، الشعور الذي لا يوصف بل الذي يحس، شعور الفجر، شعور الضوء، شعور النور، شعور الحياة، شعور الصفاء والنقاء وعبق اللقاء!!

صلاة الفجر دوحة غناء، واحة فيحاء، وجنة خضراء، أن تبدأ يومك مع الملائكة الشهود، والإله المعبود، فتخشع في الركوع والسجود، ليطيب القلب المكدود وينطلق العقل المحدود فتفتح له كل السدود ويصبو إلى ما يريد!!

اللهم اجعل لنا من نورك نصيبًا، وثبتنا في بيوتك، واملأ قلوبنا بمحبتك.

اللهم وفقنا لصلاة الفجر والحفاظ عليها.

اللهم لا تحرمنا أجرها، ولا تنسينا شكرها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق