الأخوة والمؤاخاة

30
5 دقائق
22 جمادى الأول 1447 (13-11-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

في كتاب من أجل التغيير لمالك بن نبي ذكر قصة حقيقية رائعة يرويها لهم حاج جزائري وقعت بينه وبين حاج إفريقي،تدور أحداث القصة في صحن الكعبة المشرفة، كان للحاج الإفريقي أربعة أطفال يطوفون معه، وكان الحاج الجزائري كلما التقى بهم في الطواف يوزع عليهم بعض الحلوى… أراد أبوهم أن يعبر عن شكره للحاج الجزائري الذي أضفى على أطفاله السرور،اقترب مني.

قال:أريد أن أصبح أخاك.

أجابه الحاج الجزائري: نحن إخوة بالفعل لأننا مسلمون.

لم يشأ الحاج الإفريقي الاستماع، بل أردف مؤكدا فكرته:

أريد أن نصبح أنت وأنا أخوين بصورة أخص.

قال الحاج الجزائري: حسنا قل لي ما ينبغي أن نفعل لنصبح كذلك، وسأفعل ما تمليه علي.

هنا. أخرج الحاج الإفريقي من ثوب الإحرام صرة حوت رزمة من الريالات السعودية، وقال:

هذه دراهمي. ضع دراهمك التي معك فوقها ونقسمها مناصفة.

يقول الحاج الجزائري: لم أشك لحظة في مصداقيته وعفويته، ولكني خفت أن يشك هو نفسه بمصداقيتي فأنا في ذلك اليوم بالذات، لم أحمل معي غير دراهم من الحجم الصغير من أجل الفقراء، ومن الممكن أن يظن بأني أخفي دراهمي حتى لا اقتسمها معه.

أصرالحاج الإفريقي علىيَّ بشدة، فيما كان الأطفال الصغار يرمقونني بحنان، ولم أجد بُدا من أن أخرج من حافظتي تلك الدراهم القليلة، قائلا له:

هذا كل مامعي.

أخذ الحاج الإفريقي دراهمه، وخلطها بدراهمي، وقسمها جميعا بكل دقة قسمين، ثم أعطاني نصيبي، وشدني إلى صدر قوي البنية وقال لي ببساطة:

الآن أنت أخي …(1)

يبين مالك بن نبي أن الفكر الإسلامي المعاصر يخلط بين مفهوم الأخوة ومفهوم المؤاخاة، في كتابه وجهة العالم الإسلامي يوضح ويعطينا الفرق بين المفهومين، قال:

الأخوة: عنوان على معنى مُجرَّد أوشعور تحجر في نطاق الأدبيات.

المؤاخاة: عمل ديناميكي (سلوك ونشاط وحيوية، وتغيير مستمر)، والمؤاخاة الفعلية هي الأساس الذي قام عليه المجتمع الإسلامي مجتمع المهاجرين والأنصار (2).

إن الأخوة: عقد وثيق ورباط مقدس يربط أمة الإسلام في كل بقاع الأرض. فأساس الأخوة الإسلامية هو الإسلام وجوهرها الإيمان العميق الصادق قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات:10، وهي تشريع رباني ومبدأ إسلامي، والحب الذي يملأ قلوب الإخوة في الله حب خال من الانانية وحب الذات والمصلحة الشخصية، ولكنه حب يجعل المؤمن الحق يحب لأخيه مايحب لنفسه، في الحديث الشريف: "لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ" وجاء في بعض الروايات: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير" متفق عليه.

وهذا ما فهمه الحاج الجزائري عندما قال: نحن إخوة بالفعل لأننا مسلمين.

فالأخوة هي المبدأ الذي يربط الإنسان المؤمن بأخيه المؤمن لأن العلاقة التي بينهما هي علاقة إيمانية وهذا هو الجانب النظري، الذي عبر عنه الحسن البصري بقوله: (الإيمان ما وقر في القلب)، وهي شيء جميل ولكنه يبقى معنى مجرد كما ذكر مالك بن نبي، هذا إذا لم تسقط آثاره في الواقع الحياتي.

والمؤاخاة: رابطة جمعت بين متآخيين تقوم على أساس العقيدة وتوثيق المحبة والمودة، والمواساة المادية والمعنوية، ولأهميته كان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بناء المسجد النبوي الشريف، فآخى بين المهاجرين والأنصار، فذابت كل الفوارق الإجتماعية بينهم، حيث لم يُقم وزنا للقبيلة ولا للون، بل جمعتهم رابطة الإيمان والدين والعمل الصالح، والحب في الله، بلغت درجة عالية من الرقي لم يعرف لها التاريخ الانساني مثيل،قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}الحشر:6.

وهذا ما حقق الإستقرار في المجتمع المدني في ظرف زمني قصير جدا.

لذلك كانت المؤاخاة أخص من الأخوة العامة بين المؤمنين جميعا، في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه يذكر فيها نبينا صلى الله عليه وسلم بعض الأعمال السيئة التي تنقض عرى الروابط وتُعجل انفصام ميثاق المؤاخاة الخاص، قائلا: "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا ولا تدابروا، ولا يَبِع أحدُكم على بيع بعض، وكونوا عبادَ الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقِره، التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحَسْب امرئ من الشرِّ أن يحقِر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمُه ومالُه وعِرضُ" رواه مسلم.

إن الحاج الإفريقي أراد تجسيد الإيمان الذي يملأ أركان قلبه في عمل صالح، فلم يترك عمومية الأخوة بل أرادها مؤاخاة حتى لا يبقى معنى مجرد، فقام بتقسيم الريالات مناصفة، وهذا هو الجانب التطبيقي العملي للإيمان الذي قال عنه مالك بن نبي أنه فعل ديناميكي وعبَّر عنه الحسن البصري بقوله: (وصدَّقَه العمل).

لقد كانت المؤاخاة خطوة خطاها النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يحل بها الأزمة المعاشية التي اجتاحت المهاجرين بعد مغادرتهم مكة، وينظم علاقاتهم الإجتماعية بإخوانهم الأنصار ريثما يستعيد المهاجرون مقدرتهم المالية، ويتمكنوا من بلوغ مستوى الكفاية الاجتماعية فاعتمد أسلوب المؤاخاة والمشاركة بين الطرفين وقال: "تآخوا في الله أخوين أخوين". بل بلغ من تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم على المؤاخاة أن كان ميراث الأنصاري يؤول بعد وفاته إلى أخيه المهاجري بدلا من ذوي رحمه من الإخوة أو الابناء أو النساء….وقد تلقى الأنصار أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم بفرح عميق وفتحوا قلوبهم ودورهم لرفقائهم في العقيدة…لقد كان الإخاء تجربة رائدة في تاريخ العدل الإجتماعي ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه مثلا على مرونة الإسلام وانفتاحه في الظرف المناسب على أشد أشكال العلاقات الإجتماعية (3).

إننا اليوم نعاني الفرقة والهوان وخلخلة الصف الإسلامي، وزوال هيبة الأمة التي يبلغ عدد أفرادها أكثر من المليار مسلم ولكن حُق وصف نبينا بأننا غثاء تافه حقير لا نفع فيه، في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبوداود "ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ"، نسأل الله السلامة….

إن استحضار التجليات السابقة في الضمائر وإنزالها في واقعنا المنهك مطلب أكيد و ضرورة شرعية، عامل من عوامل تحقيق النصر والقوة، وإخراج الأمة من ضعفها وفقرها وتخلفها، وعودتها لقيادة العالم الذي هيمن عليه غيره.

نحتاج إلى إختبار معاني الأخوة الإختبار الحقيقي ميدانيا بالتعاطف والتراحم والتكافل، والحرص على قيم المؤاخاة بكفكفة دموع الأرامل وجبر خواطر الثكالى والمسح على رؤوس الأطفال المشردين، وصون كرامة الرجال المقهورين.

بل نختبر معانيها على مستوى أسرنا وجيراننا، فلقد أصبح الواحد منا يدخل داره ويغلق بابه غير آبه بمن جاع أو شبع، بمن هومريض أو متعاف، حتى إخوة البطن الواحدة انقطعت الأواصر بينهم، فلا أحد يقضي حاجة أقربائه، ولا يعينهم ولا يواسيهم لا ماديا ولا معنويا.

إن إحياء معاني الإخاء تجعل الإخوة في الدين الذين يتوزعون في كل بقاع الأرض خاصة المستضعفين، والمظلومين منهم يشعرون بدفء التعاطف الذي يسري بينهم سريان التيار الكهربايي في الأسلاك، فتشع حبا يغمر الجسد الواحد: "مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى" البخاري.

ويجب أن نجعل من خلق العطاء شعارا يدثرنا، بل دما يسري في عروقنا، لننجوا بأنفسنا من التمركز حولها فلا ترى إلا همها وتلغي مَن حولها من إخوة في النسب والدين، بل والأخوة في الإنسانية كلها.

فإنه إذا تحقق مبدأ العطاء قبل الأخذ، وكانت العقيدة الصحيحة هي الداعمة لهذا المبدأ العظيم، وكان الإيمان الراسخ هو الموجه الحقيقي له، و كانت الأرضية التي يقام عليها صلبة نجح تطبيق هذه المعاني الجليلة، كما نجحت هذه التجربة الرائدة مع المهاجرين والأنصار في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد نجحت التجربة (4) لأن الأرضية التي أقيمت عليها والقيادة التي خططت لها ونفذتها استكملتا كل شروط النجاح في مجتمع يحكمه مبدأ العطاء قبل الأخذ، وتشده أواصر العقيدة وحدها ويوجهه الإيمان العميق في كل حركاته وأعماله وفاعلياته، ويقوده الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ضرب بتجرده وإيثاره وانسلاخه عن الأخذ وعطائه الدائم مثلا عاليا ومؤثرا يحرك الحجارة الصم لكي تنبجس فيتدفق منها الماء) (5).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

1. مالك بن نبي،"أخوة في الإسلام"، من أجل التغيير،ط: الحاديةعشرة، 1439ه-2018م،دمشق: دار الفكر،ص: 94-95

2. مالك بن نبي،"حركة الإصلاح"،وجهة العالم الإسلامي،ط: الحادية عشرة،1437ه-2016م،دمشق:دار الفكر،ص: 52

3. عماد الدين خليل، دراسة في السيرة،ط: الثالثة،مؤسسة الرسالة،دار النفائس -بيروت-،1412ه-1991ه،ص:152-153

4. تجربة الإخاء بين المهاجرين والأنصار.

5. المرجع نفسه،ص: 156


مقالات ذات صلة


أضف تعليق