كن ثابتًا والمحيط مضطرب

60
4 دقائق
26 جمادى الأول 1447 (17-11-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الثبات والحركة سنن كونية مشاهدة. والإنسان في حياته يتقلب بين سكون وحركة وعلو وهبوط ونجاح وفشل وفرح وحزن وقلما يستقر على حال طويلا. وتأثير تلك التقلبات قد يحفر عميقا في نفس الإنسان، أو يمر الهويني طفيف الأثر ويبقى قدر من الثبات والتوازن الإيجابي سمة غالبة.

كثيرًا ما تنتج تلك التقلبات عن عوامل خارجية لا سيطرة للمرء عليها. فالمحيط من حولنا يمور في اضطراب هائج وصراع محموم وتدافع لا يهدأ حتى يثور، وتبقى كيفية التعامل مع ذلك محل نظر يستند إلى ما للمرء من خصائص شخصية وثوابت راسخة ومنظومة قيم تضبط سلوكه وردود افعاله ومقدار استجابته.

يتسم العظماء بقدر عال من الثبات الإيجابي والتوازن الفعال عند حلول الفتن والاضطرابات وهو نابع من الداخل الذي يضبط الاستجابة للخارج ويتعامل مع الوقائع ببصيرة وهدوء وتؤدة محاولًا تحديد الدوافع والأسباب والمآلات المتوقعة وسبل الاحتواء ووصولًا إلى معالجات ناجعة. فالأنبياء بما يحملون من قيم رفيعة ورسالات سامية وما يتمتعون به من سمات شخصية حميدة يواجهون عويص المشكلات ويعالجون جسيم الصعاب بثبات راسخ ونظر ثاقب وصبر جميل ويصلون إلى نتائج تبدو عصية المنال. ولعل الثبات على منظومة القيم التي يؤمنون بها والإيمان الراسخ بعظمة الرسالة التي يحملونها تمثل روافع همم تجعل الوصول إلى ما يشبه المعجزات ممكنًا.

فالعظماء قدوة والاضطلاع بهذا الدور عن وعي وعزيمة يجعل الثبات واجبا والصبر ديدنا والجزع ليس خيارًا.

والقيم التي يلتزمها العظماء تمثل نبراسًا ينير السبيل ومنارة تهدي الحيارى في متاهات الضياع. فالأيمان بالله، مثلًا، قيمة تجعل المؤمن ينظر إلى الوقائع قضاءً وقدرًا يجب الرضا به وقبوله، ويرى الجذع والتضجر ناقضا لذلك الإيمان، فتسكن النفس وتعم السكينة ويهدأ الاضطراب. ولعل قيمة الإيمان هنا عامل توازن فعال لا خنوع، ودافع حركة منضبطة لا عجز وتوان، إذ لا تتناقض تلك القيمة والسعي لدرء سالب الأثار المترتبة على الوقائع والبحث عن السبل المتاحة والخطوات الحثيثة التي تجعل تفادي تكرار الكوارث ممكنًا أو تجلب لدرء ما ينتج من ضرر حلولًا. والإيمان بالآخرة يجعل المؤمن بها يرى الدنيا، وما يحدث فيها من مسرات ومشاق وابتلاء بالخير والشر، مرحلة قصيرة في مشوار طويل يبدأ من المهد وينتهي بخلود سرمدي في جنة أو نار؛ وهذا باعث توازن داخلي عظيم يجعل المرء يستصغر جسام الخطوب ولا يغتر بجليل النعم، فالغايات العليا تُستَسهل دونها الصعاب وتهون المشقات ولا يُركن من أجلها لعابر الملذات.

والإنسان كائن اجتماعي يأنس بمن يواسيه، يُعزّ بمن يؤيده، يميل إلى من يشاركه الثوابت، يسلو بمن يرافقه الطريق، يهش لمن يؤازره، يستقوي بمن يعينه، يسر بمن يدافع عنه، ويألف من يسعى معه لغاية سواء. هذه روافد ومعينات خارجية يتجاوب معها الثبات الداخلي، {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.

هنا صاحب يشارك المسير، يرافق وأنت تمر بالصعاب، يتعاطف معك فيحزن لحزنك ويسر بفرحك، يشد من عضدك وأنت تنوء بالأثقال ويهمس لك {والله لن يخزيك الله أبدا} فيعزز ثباتك الداخلي، وينبهك لمصفوفة قيم تُعلي شأنها، إيمان بأن للكون مدبر تجري على يديه المقادير، بأن الله معك ولن يخزيك وهو أقرب إليك من حبل الوريد، فترى يقينًا أن الخطو قاصد والبشارة تدنو.

ولهذا كان لنبي الله محمد أصحاب أوفياء، ولروحه عيسى حواريين مطواعين، ولكليمه موسى أخًا وزيرًا يشدد به أزره ويشركه في أمره، ولقادة الأمم بطانات تعينهم على أداء الامانات، ولقيادات الجيوش حَمَلة رايات ديدنهم الثبات إن زُلزل الناس وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا. وأنت تشق طريقا والمشاق تحفك، تلفّت حولك باحثا عن رفقاء يوافقونك الرأي ويشاركونك المسير ويطوون معك بُعد المسافات.

والحياة متاهة عمياء من دون هدف سامٍ تسعى له وتستطيب لأجله مُرّ المذاق. انعدام الغايات الكبرى يجعلك حيران خاوي الوفاض، كثير العثرات، خائر العزم، أسيفًا دائم الحسرات. فوضوح الهدف بصيرة تجعلك تُعمل الفكر لإيجاد وسائل الوصول ومزيلات العوائق ومعالم الطريق وممدوح سمات الرفاق ولازم القوى لمجابهة الأعداء. فالسبل الموصلة للغايات ليست مفروشة بالورود دوما، بل وعرة شائكة محفوفة بالمكاره. ولهذا فالعزيمة واجب والجد حتم والتأجيل ترف لا مكان له مع قاصد لمعالٍ، بل العمل الدؤوب والتفكير الهادف والتخطيط المحكم مع التزامٍ بنبيل القيم وسمح الصفات وطاهر الوسائل.

وبما أن من سنن الحياة المكابدة التي لا تتوقف إلا لتستأنف {ولقد خلقنا الإنسان في كبد}، على الإنسان السعي والمدافعة، لا الاستسلام والقنوط، والتخطيط والتنفيذ والعمل بجد وقبول الكبوات لتصحيح مواضع الخطوات، والمضي قُدُما بتؤدة وعزيمة وثبات. اشغل نفسك بعمل ترتاح إليه، يلاطف مشاعرك ويهدهد هواجسك ويخفف التياعك ويخرجك من أحاسيسك السلبية إلى أجواء من الإيجابية المفعمة بالرضا، الباعثة على الطمأنينة والهدوء النفسي والتوازن الانفعالي. فلتكن لك مبادرات نافعة تجاه نفسك ومحيطك، غراس خير تتفيأ والناس ظلاله وتستعذبوا طعم ثمره.

ولتكن لك في الخلوات أنس ومع التأمل وقفات. انظر إلى الماضي بروية وتدبر، استخلص عبرا من حوادثه وسيره، من حلوه ومره، ولا تقف أمامه متحسرا على فرص فاتت ولن تعود، ولا مزهوا بنجاحات تًعيقك عن المزيد، ولكن استصحب منه معك ما يفيد يومك وغدك؛ قَيّم رضاك بما أنجزت واجعل ذلك حافزا لبذل مزيد مما يحقق مستوى الرضا المأمول.

التغيير مطلب ملح أحيانا لمعالجات ناجحة. قد تبرز الحاجة لتغيير العمل الذي تزاوله، أو المجتمع الذي تعيش فيه، أو المكان الذي تسكنه، أو نمط الحياة والتفكير الذي ألفته أو مزيجا من ذاك وغيره. والنص القرآني {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} حث على هجر المكان وما يتصل به من مسكن ومجتمع ونمط حياه وأساليب عمل إن ضاق بك الحال، مفارقة للصعاب وبحثا عن أفضل الحلول.

قد لا تكون الحلول أحيانًا مصارعة الاضطراب أو محاولة الهروب منه، بل الإبحار بثبات واقتدار في خضمه وبين عواصفه. زادك هنا أن تستدعي نقاط قوتك وصلابة عودك وفعالية منظومة القيم لديك، وأن تستصحب معك ما توفر من معينات رحلة وأدوات عمل وبوصلة توجيه تحافظ على سلامة شراعك وتوازن قاربك ودقة وجهتك والأمواج متلاطمة.

النفس جموح عصية الترويض، نفور عن الصعاب، بحاجة للترغيب والترهيب لتذعن القياد لرسن يذللها لقبول الحق والأنس بالصواب. وبالدربة والمجاهدة ينبلج لها الحق صبحا وضيئا ويبدو الباطل ليلًا حالك السواد. وفي صبح الحق يتجلى جمال الحياة أخّاذًا ينشرح له الصدر ويهنأ به العيش وتزول معه عتمة الكآبة ووحشة غبش الرؤية وهواجس دجى الباطل. وهي تذعن وترضى، تجود بعطاء ليس لازمًا لها فقط بعد متعديا لغيرها يتجاوز خيره عمرها القصير إلى حقب تمتد آمادًا متطاولة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق