لما تمزق الاتحاد السوفييتي تنفس المسلمون الصعداء، وحاولوا إعادة بناء كيانهم، وإظهار تميزهم عن غيرهم من أهل الملل الأخرى، والانضمام إلى كيان الأمة الإسلامية الكبيرº لذا قاموا بالاعتصام في ميادين العاصمة (دوشنبيه) وضربوا في الميادين أكثر من أربعمائة وخمسين خيمة، واعتصموا بها - على رغم الأمطار والثلوج - أكثر من عشرين يوماً من آخر رمضان إلى آخر شوال وقد صلٌّوا العيد في ميدان لينين، مطالبين الدولة بعدة مطالب منها: أن تكون الأحرف العربية هي أحرف الكتابة، وأن يكون الذبح على الطريقة الإسلامية، وأن تكون الجمعة هي إجازة الأسبوع، وأن يكون يوما العيدين إجازة رسمية، وأن يفسح ببناء المساجد وترفع عنها الضرائب إلى غير ذلك من المطالب.
وقد قدِمت العاصمة وشاهدت بنفسي تجمعات المسلمين وهم يرفعون راية (الله أكبر) والنصر لهذا الدين، والناس يؤمون هذه الميادين صفوفاً تتلوها الصفوف من شباب وشيب.
وعلى حين يطالب أهل السنة بأن تكون الكتابة بالأحرف العربية فإن الشيعة في أذربيجان يطالبون بأن تكون كتابتهم بالأحرف اللاتينية، وقد أقاموا ندوة حضرها أحد الإخوة من هيئة الإغاثة الإسلامية، قالوا فيها بالحرف الواحد: (إن الحروف العربية لا تناسب النطق والصوت في لغتنا ولا تستطيع تلبية احتياجات اللغة الأذربيجانية).
المسلمون يتظاهرون مطالبين بالأحرف العربية، أما شيعة أذربيجان فيطالبون بالبعد عن الأحرف العربية.
ولا يخفى أن الدول الغربية وعلى رأسها (أمريكا) تسعى للضغط على الجمهوريات الإسلامية كي تكون كتابتهم بالأحرف اللاتينية بدلاً من الروسية، لأنهم يعلمون أن المسلمين لن يقبلوا بالأحرف الروسية بعد تلك السنين العجاف.
وقد عرضوا عليهم الإسلام التركي بشقيه العلماني الحاكم والصوفي الشعبي.
حزب العدالة يدل على الاستجابة لهذا الدين: وقعت في مدينة (نمنكان) في وادي فرغانة من جمهورية أوزبكستان - عدة سرقات للسيارات ولم يعرف السارق، إلا أن هناك تواطؤاً من بعض الجهات.
وكشف ذلك شاب من المدينة عندما أعلن عن تشكيل حزب العدالة وانضم إليه قرابة خمسة آلاف شخص، ثم دعا مَن سرقت سيارة إلى إخبار الحزب عنها، وقام الحزب بالبحث عن السيارات المسروقة وأحضرها لأصحابها بعد تأديب اللصوص، ثم تطور الحزب في مجال الحسبة فبدأ بإغلاق محلات القمار، ثم انتقل إلى منع الخَمَّارات، وبمطالبة النساء بالتستر ومنع التبرج.
إن بلداً ومجتمعاً عاشا سبعين سنة في جو الإلحاد والتهتك ثم قاما بهذه الحركة لَدليل على أن مقومات هذا الدين ما زالت تنبض في صدورهم فمَن يوقظها ويوجهها الوجهة الصحيحة؟ ؟ الحرص العجيب على طلب العلم من منابعه الأصيلة: لقد لمست من تلك المجتمعات حرصاً عجيباً على طلب العلم في المدينة النبوية الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم والمواقف والقصص التي مرت بي أكبر شاهد على ذلك، وأذكر من ذلك قصتين فقط هما: الأولى: قدمنا إلى مدينة (دوشنبيه) يوم الجمعة ثم رحلنا عنها يوم السبت ولم نقابل عدداً كبيراً من الطلاب هناك بسبب الاضطرابات والمظاهرات، ولما علم بنا أحد الشباب هُرع إلينا في الفندق، فقيل له: إنهم رحلوا إلى مدينة (دهنوا) التي تبعد مسافة مائتين وخمسين كيلو متراً، فركب القطار ولما وصلها صباح الأحد قيل له إنهم رحلوا إلى سمرقند، ثم سيرحلون إلى بُخارى، فركب القطار إلى بخارى، فوصلها يوم الاثنين ظهراً، وسأل عنا فقيل له إنهم ذهبوا إلى القطار ليرحلوا إلى جمهورية (تركمانستان)، ولم يكن معه من النفقة ما يكفيه فطلب سيارة لتوصله إلى محطة القطار فاشترط عليه السائق مبلغاً لا يملك سواه فوافق على ذلك، ولما وصل إلى محطة القطار قام بالبحث عنا هناك فلم يعثر علينا، حيث كنا في مطعم نتناول طعام الغداء، وقف على بوابة القطار ورفع يديه إلى السماء ونذر لله أن يصوم شهراً كاملاً شكراً لله - تعالى - إن وجدنا، فلما خرجنا من المطعم وشاهدنا أسرع إلينا وعانقنا ثم حمل عنا أمتعتنا، وركب معنا القطار وقال: أنا منذ يومين أبحث عنكم كي أقابلكم فعرضنا عليه أن يسافر معنا، فذكر أنه لا يحمل جواز سفره، وبعد مسير ثلاث ساعات استأذننا ثم فارقنا فعرضنا عليه بعض المال فرفض لكننا ألزمناه به.
ثم طلبنا منه شهاداته فقال: ليست معي.
فقلنا له: تقدم بها علينا في طشقند الأسبوع القادم، وفي يوم الأحد قدم إلى طشقند حاملاً أوراقه إلينا.
الثانية: كنا نقول لمن لم نتمكن من مقابلته في جميع الجمهوريات، أن يلتقي بنا في مدينة (طشقند) فلما قدمناها بعد خروجنا منها بعشرة أيام، وجدنا مئات الطلاب ينتظروننا في أحد المساجد، وكلهم غرباء، وبعضهم من كبار السن قد أتوا بأولادهم، وكان من بينهم رجل يزيد عمره عن ستين عاماً قد أحضر معه ولده الذي يبلغ ستة عشر عاماً، إلا أن مظهره يوحي بأقل من عمره، فقلنا له: لعلك تنتظر بالولد سنتين ثم نقابله، ولما سمع ذلك منا بكى وبكى معه ولده، فقررنا إجراء مقابلته وطلبنا منه أن يقرأ سورة (النبأ) فلما قرأ عشر آيات بكى وبكى أبوه، وألح عليَّ في قبوله للدراسة لأنه يريد له أن يتربى ويتعلم في ديار الإسلام، وأن يكون ذخراً له بعد موته، فوعدته خيراً.
التنافس والتفاني في بناء المساجد: عاش المسلمون ردحاً من الزمن وهم في بعد عن بيوت الله بسبب الشيوعية الإلحادية الطاغية، فما إن سمح بإقامة المساجد، حتى تسارع الناس إلى بنائها وتشييدها من أموالهم الخاصة على الرغم من الفقر وضيق ذات اليد التي يعانونها، حتى شملت المساجد كثيراً من الأحياء، وأصبحت في بعض المدن تعد بالمئات.
عمارة المساجد بذكر الله: ومما يسر المسلم في تلك البلاد كثرة المصلين وخصوصاً من الشباب، وامتلاء المساجد بطلبة العلم وقراء القرآن، فما إن تدخل مسجداً في ليل أو نهار حتى تجد أناساً يقرؤون القرآن أو يتعلمون شيئاً من العلم، ولقد زرت عدة مساجد في أوقات مختلفة من الليل والنهار فوجدت المساجد عامرة بالناس.
تقبلهم للتوجيه والنصح: إن كثيراً من الناس هناك على الفطرة وعندهم استعداد طيب لقبول التوجيه والنصح والإرشاد.
زرت مدرسة في مدينة (مرغلان)، وصليت معهم صلاة المغرب فعرض علينا أحد الآباء أن يُسمعنا من ابنه أسماء الله الحسنى التي يحفظها عن ظهر قلب فرحبنا بذلك، وتلا علينا الابن أسماء الله الحسنى بصوت جميل رقيق ومؤثر حتى أبكى الحاضرين، ثم أمره أبوه أن يذكر أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قرأها وجدت أن بعضها لا تليق إلا بالله - عز وجل - فقمت وذكرتهم بعظمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبمنزلته، وتقديم محبته على محبة الوالد والولد والناس أجمعين، لكن هذه الأسماء لا تليق إلا بالله - عز وجل - ولا يرضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قام مَن ترجم لهم ما قلت، ولما ركبنا السيارة لحقني الأب وقال: نسيت الأسماء، اكتبها لي في ورقة حتى أعلّم ابني إياها فكتبتها له وبدا أثر الفرح على وجهه.
وقمنا بتوزيع بعض الكتب في العقيدة السليمة الصحيحة على بعض أئمة المساجد وغيرهم، ورأينا بعضهم يخطب بها في يوم الجمعة، وهذا دليل على تقبلهم للتوجيه والتعليم، والقصص في ذلك كثيرة.
عزة النفس: على الرغم من الفقر وضيق ذات اليد عندهم، وضعف الاقتصاد وقلة الأعمال إلا أنك لا تكاد تجد متسولاً، ولا يرحبون بالمساعدات المالية الشخصية، إلا أن تكون على شكل هدية، أو لقيام مشروع، وقد حاولت أن أدفع بعض المساعدات للذين خدمونا وأكرمونا فرفضوا أخذها وعدٌّوا ذلك عيباً، بل إن بعضهم يغضب منك إذا مددت إليه شيئاً من المال مكافأة على عمله لك.
وجود عدد كبير من المخطوطات الثمينة: على الرغم من إحراق وإبادة الكتب من قِبَل الشيوعيين، إلا أنه قد بقي في المنطقة ثلات خزائن للمخطوطات، في طشقند، وأذربيجان وطاجكستان، إضافة إلى المخطوطات المتناثرة في بيوت الناس، وقد اطلعت على بعضها، وزرت خزانة الكتب في معهد الاستشراق التي تحوي أكثر من أربعين ألف مخطوط، أكثر من ثلاثين بالمائة باللغة العربية،.
ولم يفهرس منها إلا سبعة آلاف مخطوط والباقي لا يعرف، وقد سألتهم عن عدد من الكتب لكنهم لا يعلمون هل هي عندهم أم لا، وتوجد عندهم مخطوطات يعود تاريخها إلى نهاية القرن الثاني للهجرة، وأكثر اهتمامهم بكتب القانون والفلسفة، ولذا تجدهم يبرزون كتب ابن سينا والفارابي وغيرهم.
ومن العجائب أنه يوجد في مكتبة الشؤون الدينية نسخة من مصاحف عثمان التي بعثها إلى الآفاق.
قلوب القوم معنا فهل قلوبنا معهم؟: إن أولئك الناس يكنون لنا الود والمحبة وهم لم يرونا، ولقد حملني كثير منهم السلام إلى إخوانهم في هذه البلاد، على حين أننا أغفلنا حتى ذكرهم سنين طويلة ولم نقدم لهم شيئاً من حقوقهم.
(إِن تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإنَّهُم يَألَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ) [النساء: 104].
إن أعداء الإسلام قرروا أن هذه المنطقة من المناطق البكر التي يجب استغلالها، وتنفيذ مخططاتهم فيها.
وهنا أنقل إليكم هذه الأخبار المؤلمة والقلب يكاد يتقطع، والكبد يكاد يتفطر، فلقد تسابق أهل الكفر والزندقة إلى استثمار هذه المنطقة الجديدة في العالم، كل يحاول التفرد بها دون غيره: اليهود، النصارى، القاديانية، الإسماعيلية، الروافض، الصوفية الغالية: كالنقشبندية والقادرية والبكرية وغيرها، وكل قد نزل بثقله إلى استثمار هذه البلاد، ونشروا عقائدهم الفاسدة فيها، ودول الكفر تحاول عزل هذه البلاد عن إخوانهم المسلمين في كل مكان، وتحذر حكامها من الأصولية كما يقولون.
لقد صليت الجمعة في مسجد (تخطباي) في طشقند - وهي آخر جمعة من شهر ذي القعدة - وحضر وفد نصراني إلى داخل المسجد، كموفد من كلية الكنيسة في أمريكا لدراسة المنطقة دينياً واقتصادياً واجتماعياً، ومدة هذه الدراسة ستة أشهر، وكانوا يقومون بزيارة كل موقع ودخول كل تجمع، وكانوا يسألون عن سر كثرة الشباب في هذا المسجد، وعن سبب تكبيرهم أحياناً أثناء الدرس الذي يعطيه الإمام، ولما سألناهم كم لكم هنا؟ قالوا: أربعة أشهر وبقي لنا شهران.
وفي يوم السبت ذهبنا إلى المسجد لمقابلة الطلاب، وأثناء خروجنا منه وجدنا على بابه عجوزاً أمريكية، فقلت لصاحبي: اسألها عن سبب قدومها لهذه البلاد، فذكرت أنها دكتورة في (جامعة كولمبيا في نيو يورك) - وللعلم أن هذه من أكبر الجامعات التنصيرية - وقد قدِمت هذه العجوز لنفس الغرض السابق، ثم بادرتنا بالحديث وقالت: أنا أعرف أنكم من السعودية، وقد سبقتمونا في تقديم الخدمات لهذه البلاد ولكننا سنقدم لهم كل ما يريدون وما يطلبون!.
وقد ذكر لي أحد الثقات: أن عدداً من المسلمين قد تنصَّر في جمهورية القرغيز، نتيجة الترغيب والإمداد بالأموال، وتقول الإحصائيات: إن النصارى وزعوا أكثر من خمسين مليون نسخة من الإنجيل في جميع لغات الاتحاد السوفييتي - المنهار - وفي جميع الأحجام والأشكال مقروءاً ومسموعاً.
والقناة الروسية تبث الدعوة إلى النصرانية في فقرات متعددة من برامجها، و (جيمي سواجرت) وحده يظهر على القناة الروسية - التي تُلتقط في جميع الجمهوريات - مدة ثلاث ساعات من يوم الأحد في كل أسبوع، عدا البرامج النصرانية الأخرى.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد