بسم الله الرحمن الرحيم
شملت الحلقة الأولى المقدمة التي كتبها الأستاذ محب الدين الخطيب - رحمه الله -، ثم مقدمة الموضوع الذي أعده مكتب الأخبار التونسية، ومن أهم فقراته:
- إيقاظ وإنذار للعالم الإسلامي والعربي.
- تكوين إمبراطورية فرنسية من أكبر أجزائها أفريقيا الشمالية.
- ومن وسائل تكوين هذه الإمبراطورية تجنيس سكان هذه البلاد بالجنسية الفرنسية.
ماذا يعني هذا التجنيس من الناحية الشرعية؟
- امتناع المسلمين في بنزرت من دفن أحد المتجنسين في مقابرهم.
- تواطؤ الوزير الأكبر وشيخي الإسلام على الباي المتعاطف مع شعبه.
- مقابلة وفد الحزب الدستوري للوزير الأكبر وشيخي الإسلامي، وتبليغهم نص احتجاج الأمة على هذه المؤامرة.
ونستمر في هذه الحلقة في عرض دور وفد الحزب.
كان سلطان تونس - الباي - آخر من يعلم بهذه المؤامرة، وكان الوزير الأكبر يستغل جهل الباي، فعندما سأله عن سبب المظاهرة أجابه: سببها البطالة وعسر الحال، وعندما كان يغضب انتصاراً لشعبه كانت التهديدات تأتيه من المقيم العام الفرنسي فيضعف ويتراجع، ووزيره الأكبر هو الذي يرتب هذه الأدوار كلها، وهذا هو شأن الضعفاء، ورحم الله القائل:
وطغوا فأصبح ملكنا متقسماً وإمامنا فيه شبيه الضيف
* * *
ولما رجع أعضاء الوفد ليلاً إلى مقر الحزب الحر الدستوري قرروا إصدار عدد خاص من جريدة الحزب التي يصدرها باللسان الفرنسي (صوت الأمة) وشرح هذه المقابلة ونتيجتها فيه إيقاظاً للشعب وتنبيهاً إلى ما يراد به ويدبر له في الخفاء. وفعلاً أصدروا من الغد (الجمعة 13 ذي الحجة) عدداً خاصاً بعناوين ضخمة مفادها أن الجنسية التونسية في خطر، وكتبوا فيه كشفاً لهذه المؤامرة، فكان لهذا النبأ صداه، ومن الغد "السبت" كان موعد قدوم سمو الأمير [1] إلى العاصمة لقبول تهاني رعاياه بالعيد فاسقتبله الشعب بمظاهرة ولاء عظيمة امتدت على طول الطريق من محطة الأرتال إلى القصر العالي، وكان عدد المتظاهرين نحو الخمسين ألفاً يهتفون على طول الطريق بحياة الجنسية التونسية وسقوط التجنس الأجنبي. وقد اهتز الأمير لهذا النبأ الذي لم يكن له علم به، ولم يعرض عليه قبل ذلك اليوم. وقد سأل وزيره: ما لهؤلاء ولمسألة التجنيس وقد طويت صحيفتها قبل اليوم؟ فأجابه: إن الأزمة يا مولاي أضرت بالقوم، وأن هذا التظاهر بدافع البطالة وعسر الحال. فقال له الأمير: إنهم ينادون بسقوط التجنيس وهو غير الأزمة والبطالة. ولما صعد الأمير إلى قصره وسط ذلك الخضم من المخلوقات الصاخبة الناقمة، وأشرف عليهم من شرفات القصر ليطمئن خاطرهم، اعتلى أحد الشبان هامات الواقفين وألقى على مسامع الأمير خطاباً شرح له فيه حقيقة الحال. فاستاء الأمير أيما استياء، وشاهد الناس مشادة وقعت بينه وبين الوزير دعي على أثرها مدير الداخلية مسيو تيري وانتقد عليه هذا السلوك، وحمله والوزير عواقب ما ينشأ عن هذه الفتنة، فخاطبه مدير الداخلية بأن في الإمكان تفريق هذه الجموع بفرقة من رجال الشرطة. فانتهره الأمير قائلاً: أولئك رعاياي، أريد أن أسمع تظلمهم، ولا أريد أن يظلمهم أحد. ورجع الأمير بعد انتهاء الموكب إلى قصر حمام، وشيعه جمع عظيم من شيوخ العاصمة - من علماء وأعيان وأشراف - وأعينهم باكية وهم في حالة من الهلع أحزنت الأمير وأبكته، لأنهم كانوا يستغيثون من العبث بأحكام الدين، والعمل على ارتداد المسلمين بواسطة التجنيس. وكان الأمير طول الطريق يبكي لبكائهم، ويلاطفهم ويهدئ من روعهم، إلى أن امتطى الرتل إلى قصر الشتاء.
ومن الغد صدرت الصحف ملأى بأنباء هذه المظاهرة العظيمة، مرددة أصوات الاحتجاج الواردة من جهات المملكة وعلى الأخص جريدة الحزب الحر، فإنها كانت مملوءة بعرائض الاحتجاج الواردة من أطراف البلاد التونسية.
وفي يوم الاثنين شاعت أراجيف مفادها أنه وقع سحب الاستفتاء وبطل العمل به، وأنه سيبقى ما كان على ما كان، إلا أن الحزب علم من مصدر وثيق أنه قبل ظهر يوم الاثنين بساعة سلمت جميع الأجوبة على الاستفتاء من طرف المجلسين الحنفي والمالكي، ولم يشذ عن الجواب الذي يرضي الحكومة إلا الشيخ عبد العزيز جعيط من شيوخ الإفتاء المالكية، والشيخ حميد بن مراد والشيخ محمد بن الخوجة من شيوخ الإفتاء الأحناف، فقد علق أولهم وهو المفتى المالكي قبول توبة المتجنس ورجوعه إلى حظيرة الإسلام على رجوعه إلى الأحكام الشرعية والجنسية التونسية، وهو أمر مستحيل قانوناً، وامتنع المفتيان الحنفيان من الموافقة على الاعتراف بقبول التوبة لاستحالة رجوعه إلى أحكام الإسلام قانوناً، ولما تيقن الحزب استلام الحكومة للجواب المصطنع قرر إرسال لائحة إلى وزارة الخارجية الفرنسية تبين رأي الأمة. ومن ذلك الحين أخذت الاجتماعات العظيمة تتوالى بأندية الحزب والخطباء فيها يشرحون الموقف الحرج الذي تجتازه البلاد بتأثير أعمال الوزير وشيخي الإسلام.
وأعلن طلبة جامع الزيتونة (الكلية الدينية الكبيرة بشمال أفريقيا) ويقدر عددهم بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة طالب أنهم قرروا الإضراب عن الدروس إلى أن يتخلى عن إدارة الكلية شيخ الجامع الحالي وهو شيخ الإسلام المالكي المسمى الطاهر بن عاشور. وكبر هذا الأمر على الوزير وعلى شيخي الإسلام لما يعلمانه من سوء الأثر الذي سينشأ عن هذا الإضراب، وعبثاً حاولوا إبطاله بشتى الطرق.
وفي يوم الجمعة قرر الناس عدم الإقتداء في الصلاة بجميع الأئمة الذين شاركوا في هذه الفتوى، وأن لا تقام الصلاة وراءهم ولا وراء نوابهم بالجوامع التي هم أئمتها، فأصبحت خاوية على عروشها، وصلى الناس وراء غيرهم صلاة الجمعة وأقيم ذكر اسم "اللطيف" في الجوامع الكبرى احتجاجاً على هذه الفتوى، وذكر الناس ربهم بلسان واحد قائلين "يالطيف يالطيف، ألطف بديننا الحنيف" وقد تأثر الناس من إجراءات علماء السوء وأجراء السوء، وازداد حماسهم وسخطهم على أولئك الشيوخ الذين صاروا محل الزراية والأذى من أخلاط القوم، فإذا مروا بشارع تناولتهم الألسنة بما يشين الكرامة ويزري بالشرف.
وأشيع في عشية الجمعة أن أحد المتجنسين قد مات بنهج الحفير، وأن الحكومة تحاول إخفاء موته لتدفنه في مقابر المسلمين، فتجمهر الناس حول دار هذا الرجل المصاب بداء النقط وقد نزل به هذا المرض المهلك عندما وصلته أوراق تجنسه. ولما خشيت عائلته سخط الجماهير استنجدت القوة الحاكمة فأنجدتها بالبوليس وجنود الدرك المدججة بالسلاح، فامتلأت بهم الشوارع في ذلك المساء، وزاد قدوم القوة في حماسة الناس وتجمهرهم. ولما خيم الليل وقع اصطدام بين القوة والشعب بسبب تضارب أحد المتظاهرين مع ضابط من كبراء قوة الدرك ضرب الضابط الرجل فأدماه فخطف الناس الضابط وأشبعوه ضرباً، فاستنجد جنود الدرك بالجيش فحضرت منه كوكبة مسلحة إلى تلك الساحة التي أخذت تعج بالناس في ظلمة ذلك الليل، وأسفرت المشادة في صبح ذلك اليوم عن 16 جريحاً من الجند والمتظاهرين. وقبض على 27 من التونسيين زجوا في السجن.
وما أصبح الصبح حتى امتلأت تلك الساحات والبطاح بالجنود السود مشاة، وركباناً من الإفرنسيين، ودارت في شوارع العاصمة وفي الحارات الإسلامية منها بالخصوص المدافع الرشاشة والدبابات وأطلقت البنادق في الفضاء إرهاباً للناس ورغبة في تفريقهم. ولكن هذه الرغبة أتت بعكس المقصود فازداد الازدحام وامتلأت الشوارع كافة بالمتظاهرين وبدأت علائم الشر تلوح على الوجوه، وكانت قوات الحكومة قد أوعزت إليها الإدارة بتكوين حوادث دموية في ذلك اليوم الرهيب لأنهم لم يتركوا وسيلة لإثارة حفائظ الناس لم يستعملوها، ولكن الشعب المتظاهر قابل كل تلك المحاولات بما عهد فيه من صبر وأناة، فكنت ترى جنود الدرك والبوليس، وحتى رؤساء هذه القوات، يمعنون في ضرب الناس على وجوههم حتى أدموا الكثيرين منهم وأحدثوا لهم أضراراً كثيرة، فنقل الكثير منهم على أثرها إلى المصحات والمحلات التي أعدت خصيصاً لمعالجة منكوبي المظاهرة.
وحدثت عدة اصطدامات بين الجند والمسلمين في أثر هذه الاعتداءات الفظيعة الصادرة من الجنود وأعوان الحكومة استعمل الجند فيها سلاحهم ورجال الشرطة عصيهم، واستعمل الناس الحجارة والعصي من جهتهم أيضاً، واستمر الحال هكذا بين أخذ ورد إلى الليل، ودام الأمر كامل تلك الليلة وصباح الغد وعربات السجن تحمل الجموع إليه وعربات الإسعاف تحمل المنكوبين إلى ما بعد ظهر الاثنين.
وفي عشية يوم الاثنين رغب الناس في الذهاب إلى قصر حمام لمكاشفة سمو الأمير بما حل برعاياه. وعارض الحزب الحر الدستوري في تنفيذ هذه الفكرة وفضل عدم إدخال ملك البلاد في هذه الخصومة حتى لا يقع استعمال نفوذه فيها ضد إرادة الشعب بتأثير إدارة الاحتلال. وفعلاً فإنه لم يذهب إلا نحو الثلاثمائة شخص فقط تجمهروا أمام قصر الإمارة هاتفين بسقوط التجنيس والفتوى المفتعلة على الدين. واتفق أن كان هناك نائبان في البرلمان الفرنسي قدما إلى تونس بقصد السياحة والإطلاع، فقدمهما المقيم العام في ذلك المساء إلى سمو الباي فشاهدا ذلك الهتاف والتظلم. وقد تأثر المقيم من هذه الصدفة السيئة فأفهم ذينك النائبين غير الحقيقة من تلك المظاهرة، فصرح أحدهما للصحف بما يدل على تبرمه مما شاهده من عدم الإخلاص لفرنسا رغماً عما عرفت به من تسامحها الديني!.
مثل وفد من أولئك المتجمهرين أمام سمو الأمير، وقدم له عريضة بما لقيته الأمة. وكان الوزير حاضراً هذا الموطن وكان للأقوال التي قيلت لسمو الباي تأثيرها على نفس الوزير بطل هذه المأساة فرآها فرصة سانحة للاتحاد مع المقيم العام ضد إرادة سمو الباي فجاءا إليه من الغد: الأول يهدد ويتوعد باسم حكومته وقوتها وعظمتها وجندها وسلاحها، والآخر ينصح الأمير بتعديل الموقف خشية حدوث مالا يسر. وقد تليت في هذا الموطن على سبيل التبرك والانتفاع قصة سلطان المغرب مولاي عبد الحفيظ. وبعد جدال ومناقشة دامت ساعتين ونصفاً أذن الأمير لوزيره بأن يعمل ما يهدئ روع الناس، وما يرجع الأمن والطمأنينة إلى ما كانا عليه، فخرج الوزير فرحاً بهذا الانتصار الذي أحرزه ووضع خطة التنفيذ بمعية مدير التشريفات مصطفى صفر عدو الحركة الوطنية القديم. وكانت الخطة إخراج تصريحات على لسان حاجبي الأمير يعربان فيها عن أفكار سموه في هذه المشاكل، تم إصدار بلاغ من الوزير على لسان سمو الأمير يكون حاسماً لمادة النزاع على رأي الوزير الأكبر. وتولت جريدة النهضة التي تخدم ركاب الوزير ومشيخة الإسلام نشر هذين البلاغين فكان يحدث بسببهما الفشل في الشعب لما اشتملا عليه من تغير في الموقف ولكن القابضين على زمام الحركة منعا هذا التأثير من التسرب إلى الأفكار وبادر الحزب حالاً بالرد عليه وخاطب الشعب بوجوب الثبات والاستمرار على حركة الاحتجاج إلى أن يقع حل هذا المشكل بما يرضي التونسيين المسلمين.
وهناك حادثة استغلها الوزير وأثر بها على سمو الأمير لابد من ذكرها هنا بإيجاز لأن البلاغ الأول يصرح بها والثاني يشير إليها، وهي حادثة الخلاف الذي وقع في العام المنصرم بين سمو الأمير ووزيره السابق خليل بوحاجب وشيخ الإسلام السابق حميدة بيروم، وصورة هذا الخلاف أن حملة صحفية عنيفة أقامها الوطنيون ضد الاحتفال بمرور خمسين عاماً على الحماية الفرنسية بتونس فأراد المقيم العام أن يرفع قضية على القائمين بها من رجال الحركة الوطنية، وفعلاً وقع تتبع هؤلاء، وصح العزم على إصدار أحكام قاسية عليهم، فأذاع أعداء ذلك الوزير أن الموعز بهذا التتبع هو الوزير التونسي نفسه، فقامت حملة ضده في الصحافة وحدثت مظاهرات عظيمة كانت نتيجتها حفظ القضايا، وإرجاع الصحف المعطلة ومنها النهضة، وصادف أن وقع الخوض إذ ذاك في مسألة إصلاح نظام التعليم بالجامع الأعظم، فكان شيخ الإسلام السابق من المعارضين فيه، فاغتنم الفرصة شيخ الإسلام الطاهر بن عاشور خصم شيخ الإسلام المذكور وأثار ضده حملة في الصحافة باسم إصلاح الجامع وتحت عنوان إرادة الخير لهذا المعهد الإسلامي الكبير، فأصبحت الحملة متجهة نحو شيخ الإسلام ونحو الوزير الأكبر فتساندا للدفاع عن موقفيهما وكانت لهما منزلة لدى حكومة الاحتلال، ولكن الأمير صمم على عزلهما فعزلا وتولى بدلهما الوزير الحالي الهادي وشيخ الإسلام الحالي محمد بن يوسف والطاهر بن عاشور انتصب شيخاً للإسلام في المذهب المالكي وشيخاً للجامع بعد أن تم أمر إصلاح التعليم فيه على ما يؤمله ويرجوه. ونظراً لما لاقاه الأمير في مسألة عزلهما من العنت من حكومة الاحتلال فقد أصبح لا يحتمل ذكرهما. ولما جاءت هذه الحوادث قال الوزير لسمو الباي: إن هذه الحركة يغذيها الوزير السابق وشيخ الإسلام ليحلا محلي ومحل الطاهر بن عاشور، فخاف سمو الباي أن تكون هذه هي الحقيقة، وأن يصبح يوماً ما أمام أمر واقع. وبهذا الأمر نجح الوزير واستخرج الأذن من سمو الأمير بإصدار ذلك البلاغ الذي لم يخلُ من الإشارة إلى هذه الدسيسة، بينما المسألة لا تخرج عن الاحتجاج على الإفتاء بقبول توبة المتجنس ومعاملته معاملة المسلمين بينما هو لا يحتكم إلى شرعهم ولا يمت إلى جامعتهم بسبب.
حوادث التجنس في أنحاء الإيالة التونسية:
قصبة بنزرت:
بينما الحوادث تجري في العاصمة التونسية كما مر في الفصل السابق إذا بحوادث أخرى أفظع منها تقع في قصبة بنزرت "فير يفيل" ذلك أن أحد المتجنسين فيها - وهو المسمى عيسى بو عقلين - توفي وأرادت الحكومة دفنه غصباً في مقابر المسلمين، رغماً عن كونه لا تنطبق عليه الفتوى المفتعلة، على فرض التسليم بصحة ما جاء فيها من أن المتجنس إذا حضر لدى الحاكم الشرعي وأشهد على نفسه أنه تبرأ من جميع الأديان ونطق بالشهادتين تقبل توبته بعد ردته ويعامل معاملة المسلمين ولو مع بقائه على الاحتكام إلى غير شريعة الإسلام. ولما عارض مسلمو قصبة بنزرت في دفنه بمقابرهم عمدت الحكومة إلى فرقة كاملة من الجند أرسلتها ليلاً على هذه البلدة بخيلها وسلاحها وأمطرت المتجمهرين وابلاً من رصاص الرشاشات والبنادق واستمر إطلاقها من الساعة 10 ليلاً إلى السادسة صباحاً فخربت عدة أماكن وجرح الكثير من مسلمي البلدة الوادعين المسالمين، ومن الغد زيد في عدد الجند والسلاح وحوصرت البلدة ومنع الداخل فيها والخارج منها، وقبض على كافة المنتمين للحزب الحر الدستوري بها وأودعوا السجن، ثم حملت جثة المتوفى تحت السيوف والبنادق والرشاشات في مساء ذلك اليوم، وصلى عليه عامل بنزرت محمد بن الخوجة لعدم وجود من يصلي عليه من المسلمين، وغسله أحد أعوان العامل المذكور ودفن في قبره الأول من نوعه لأنه محاط بالإسمنت والحديد خوفاً من نبشه بعد دفنه، وأقيم عليه حرس من الجند لا يزال قائماً إلى الآن.
ثم أرسلت الحكومة الجند على بيوت سكان القرية بدعوى التفتيش على السلاح الموجود فيها، ففتكوا بأهلها وشردوا نساءها وصغارها يهيمون في الجبال، وكسروا كل ما وجدوه من أمتعتهم وأبادوا كل ما ادخروه من أقوات وفي 27 بيتاً فتشوها ولم يعثروا إلا على أربع قطع من السلاح المرخص في حمله للحراسة والصيد فحجزوها، ولا تزال البلدة على روعها محاطة بالجند المدجج بالسلاح والرقابة مضروبة على أهلها والذين أودعوا السجون لا يزالون بها لحد الآن، وقد تطوع للدفاع عنهم محامون من رجال الحزب.
في منزل جميل:
وفي هذه القرية متجنس منعه مسلموها من دخول المسجد لارتداده بالتجنس عن دين الإسلام، فرفع أمره إلى حاكم البلدة وفي أسرع من لمح البصر زحف عليها الجند وأجبروا سكانها على إدخال المتجنس للجامع فتركوه والجامع وأقاموا صلواتهم في أماكن أخرى من البلدة وبقي الجند مرابطاً إلى الآن.
بنزرت:
أخذت السلطة الفرنسية في هذه البلدة تحقق مع الكاتب العام لشعبة الحزب الحر الدستوري هناك السيد الطيب بن القايد حسين وثلة من أحرار البلدة بشأن توقيعهم على عرائض الاحتجاج الموجهة للحكومة ضد الفتوى المتعلقة بالتجنيس، ولا يزالون في استنطاق وهم بحالة سراح إلى الآن، وقد وقع تهديدهم بالسجن والإبعاد إن هم عادوا لمثل هذه الخطة.
ماطر:
تظاهر سكانها وهتفوا في جموع عظيمة بسقوط الفتوى، واجتمعوا في جامعها لذكر اسم الله "اللطيف" إظهارا لامتعاضهم مما نزل بالإسلام وأهله من محنة، وأخذت الإدارة هناك تحقق مع رجال الحزب الحر فيها وبالأخص زعيم الحركة هناك السيد حمودة ميهوب الذي هدد بالإبعاد عن الوطن التونسي بتهمة إثارة القلاقل به في كل مناسبة.
فريانة:
أضرب أهالي هذه البلدة عن العمل يوماً كاملاً، احتجاجاً على فتوى التجنيس، وأرسلوا برقيات بذلك إلى المراجع العليا كما أبرقوا إلى الحزب يؤيدونه في موقفه ضد الفتوى والتجنيس فنقمت السلطة عليهم هذا الأمر وأسرت لهم الإيقاع بهم، واتفق أن حدث من الغد حريق في مناشر الحلفا فأجبرت السلطة أهالي البلدة - كما هي عادتها - على إطفاء ذلك الحريق فامتثلوا، ولكنهم بمجرد الشروع في العمل سمعوا أصحاب الحلفا الفرنسيين واليهود يشتمون دين الإسلام ظناً منهم أن الذي أضرم النار من مسلمي القرية فاحتج المسلمون على هذا الاعتداء وإزاء احتجاجهم استنجد عامل الجهة الجيلاني بن رمضان الذي كان من الوطنيين ثم صار عاملاً لحكومة الاحتلال بقوة الجند والدرك فأرسلت إليه قوة من سوسة وأخرى من قفصة وقبض على المنتمين للحزب في القرية وزجوا في السجن فاحتج رفاقهم وأرادوا أن يدخلوا السجن معهم إعلاناً لتضامنهم فما كان من جنود الدرك إلا أن ضربوهم الضرب المبرح وأدخلوهم السجن ودخل العامل عليهم السجن وأخذ يضربهم بهراوة كانت بيده ومن الغد سيق خمسة منهم إلى سجن مدينة سوسة حيث أحيلوا على محكمتها الفرنسية لتحاكمهم بصفتهم متهمين بضرب جنود الدرك وأطلق سراح الباقين ووضعت عليهم الرقابة من عيون الحكومة وأعوانها السريين.
قفصة:
وفي قفصة أغلقت البلاد يومين كاملين وأضرب عن العمل فيها وتظاهر السكان مع من وفد إليها مما حواليها من جموع العربان وطافوا شوارعها وذهبوا إلى إدارة الحكومة وقدموا إليها عرائض احتجاجهم ضد العبث بالدين الماثل في فتوى توبة المتجنس وقبولها، وأرسلوا عرائض إلى سمو الباي وشيخي الإسلام بتونس وإلى مركز الحزب الحر الدستوري يؤيدونه في موقفه ويعاضدونه في دفاعه. وقد أجرت الحكومة أبحاثاً ضد المتسببين في هذه المظاهرة إلا أنها إلى الآن لم تسجن منهم أحداً.
----------------------------
[1]- من المناسب في هذا الصدد عرض نبذة قصيرة عن حياة هذا الباي:
هو: أحمد بن علي بن حسين بن محمود. ولد في تونس [قصر المرسي]، وتولى السلطة سنة 1347 هـ [1929] بعد وفاة ابن عمه الباي محمد الحبيب، كان فيه ورع وميل إلى الأدب، وانسياق إلى مناصرة الحركة الوطنية في بلاده، إلا أنه لم يكن له من الأمر غير الاسم والمظهر، وفي حكومة تونس على عهده 12 ألف موظف فرنسي تبلغ رواتبهم 53% من مجموع الميزانية، والوظائف العليا وقف على الفرنسيين، ولا يزيد عدد الموظفين التونسيين على أربعة آلاف. [عن كتاب الأعلام، لخير الدين الزركلي].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد