نشر الفضيلة في بيان معنى الوسيلة ( 1 – 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 



الحمد لله الذي أمر الخلق بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وشرع الوسيلة بالإيمان به للفوز بجنته، وصلاة وسلاماً على من أعطاه الله الوسيلة والدرجة العالية الرفيعة، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين:

أما بعد: فقد لفت نظري وأنا أتصفح بعض كتب العقيدة استدلال جمع من المؤلفين على اختلاف مشاربهم بقوله تقدست أسماؤه: \"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة\"، فتعجبت لهذا الاستدلال من كلا الفريقين، فكان لي هذا حافزاً على النظر في كتب التفسير واللغة، فنظرت فكان ثمرة هذا النظر كتابة هذه الكلمات المقتضبة عن كلمة (الوسيلة) في القرآن الكريم من خلال آية المائدة فقط، والتي غدت عمدة كل من تكلم في موضوع التوسل والوسيلة.

وأود أن أقول هنا أن موضوع التوسل موضوع كبير تعددت فيه الكتابات، وتنوعت فيه التقريرات، ولست أريد هنا بحث هذه المسألة من كل جوانبها، ولكن انتهز الفرصة لأشير بأن أبدع من كتب فيها هو شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمه الله رب البرية - في كتابه: (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) فعليك به إن أردت تحقيق المسألة.

وقد حاولت أن يكون هذا البحث مقسماً على المباحث التالية:

المبحث الأول: الوسيلة عند أهل اللغة.

المبحث الثاني: الوسيلة عند المفسرين.

المبحث الثالث: الوسيلة عند أهل الأهواء والرد عليهم.

المبحث الرابع: نتائج وتوصيات.

المبحث الأول: الوسيلة عند أهل اللغة:

- قال ابن فارس: \"وسل\" الواو والسين واللام: كلمتان متباينتان جداً الأولى: الرغبة والطلب، يقال: \"وَسَلَ\" إذا رغب، والواسل: الراغب إلى الله - عز وجل - وهو في قول لبيد:

بلى كل ذي دين إلى الله واسل

ومن ذلك القياس الوسيلة، والأخرى السرقة، يقال: أخذ إبله توسلاً [معجم مقاييس اللغة 6/110].

- وقال الجوهري: الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسل واحد، يقال: وسَّل فلان إلى ربه وسيلة، وتوسل إليه بوسيلة، أي تقرب إليه بعمل\" [الصحاح 4/1497].

- وقال الزبيدي: الوسيلة والواسلة: المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والوصلة.. قال ابن الأثير: هي في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به.

ووسل إلى الله - تعالى - توسيلاً: عمل عملاً تقرب به إليه...\" [تاج العروس من جواهر القاموس 15/774] وبنحوه قال صاحب لسان العرب [11/724-725].

- وقال أصحاب المعجم الوسيط: \"وَسَلَ\" فلان إلى الله بالعمل (يسل) وَسلاً رغب وتقرب، (وسَّل) فلان إلى الله – تعالى -: عمل عملاً تقرب به إليه، (توسَّل) فلان إلى الله – تعالى -: وسَّل، وإلى فلان بكذا: تقرب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه. (الواسلة): مؤنث الواسل، والمنزلة عند الملك، والدرجة والقربة (الوسيلة): الواسلة، والوصلة والقربى\" [المعجم الوسيط 2/1032].

هذا هو خلاصة ما يذكره علماء اللغة قاطبة أثناء حديثهم عن الوسيلة فتخلص لنا: أنها تتضمن ثلاثة أشياء: القربة، والرغبة، والتوصل، فهي على هذا قربة موصلة لأمر مرغوب فيه، وعلى هذا ينبني المعنى الشرعي في مستعمل الكتاب والسنة([1]) فهي إذن شرعاً تعني: القربة التي تكون سبباً في الوصول إلى مرضاة الله وجنته، وهي تكون بفعل أوامر الله، واجتنباب نواهيه، وبذلك أمر الله - عز وجل - في قوله: \"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون\"([2]).

فصل: في بيان أن الوسيلة تكون بما شرعه الله تعالى:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله تعالى -: \"والإيمان به - أي الرسول عليه الصلاة والسلام - ومتابعته هو سبيل الله وهو دين الله، وهو عبادة الله وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله وهو الوسيلة التي أمر الله بها عباده في قوله تعالى: \"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة\"، فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد وأتباعه\"([3]).

وقال في موضع آخر: \"فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه من الواجبات والمستحبات، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول، فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك\"([4]).

وقال الشيخ محمد رشيد رضا: \"ولم يؤثر عن صحابي ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أو عامتهم أن الوسيلة إلى الله - تعالى - تبتغى بغير ما شرعه الله للناس من الإيمان والعمل ومنه الدعاء، إلا كلمة رويت عن الإمام مالك لم تصح عنه به صح عنه ما ينافيها\"([5]).

المبحث الثاني: الوسيلة عند المفسرين:

وهو لب البحث وأسه إذ أن كثيراً من أرباب البدعة والتصوف تعرضوا لهذه الآية الكريمة شرحاً وتفسيراً فجانبوا الصواب - نسأل الله تعالى - أن يتجاوز عنا وعنهم يوم الحساب، وهاك الآن فصل الخطاب.

- قال الإمام فخر الدين الرازي: \"الوسيلة فعلية، ومن وسل إليه إذا تقرب إليه\" فكان المراد طلب الوسيلة إليه في تحصيل مرضاته، وذلك بالعبادات والطاعات\"([6]).

- وقال العلامة الشنقيطي: \"اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله - تعالى - بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - بإخلاص في ذلك لله – تعالى، وأصل الوسيلة الطريق التي تقرب إلى الشيء، وتوصل إليه وهي العمل الصالح بإجماع العلماء... إلى أن قال: التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله - تعالى - بالإخلاص له في العبادة على وفق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -\" ([7]).

- قال في الجلالين: \"(وابتغوا) اطلبوا (إليه الوسيلة) ما يقربكم إليه من طاعته\" وقال في حاشية الصاوي تعليقاً على هذا الكلام، قوله: \"ما يقويكم إليه\" أي يوصلكم إليه، وقوله: (من طاعته) بيان لـ (ما) سواء كانت تلك الطاعة فرضاً أو نفلاً لما في دلالة الحديث: \"ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به...\" الحديث فالتقوى هنا ترك المخالفات، وابتغاء الوسيلة فعل المأمورات، ويصح أن المراد بالتقوى امتثال المأمورات الواجبة وترك المنهيات المحرمة، وابتغاء الوسيلة ما يقربه إليه مطلقاً.. فالمعنى كل ما يقربكم إلى الله فالزموه، واتركوا ما يبعدكم عنه\"([8]).

- وقال الإمام الخازن: \"(وابتغوا إليه الوسيلة) يعني واطلبوا إليه القرب بطاعته، والعمل بما يرضى، وإنما قلنا ذلك لأن مجامع التكاليف محصورة في نوعين لا ثالث لهماº أحد النوعين: ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله: (اتقوا الله)، والثاني: التقرب إلى الله - تعالى - بالطاعات وإليه الإشارة بقوله: (وابتغوا إليه الوسيلة).. ([9])

- وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: \"والوسيلة كالوصيلة. وفَعَلَ وَسَلَ قريب من فَعَلَ وَصَلَ، فالوسيلة: القربة وهي فعلية بمعنى مفعولة أي متوسل بها، أي ابتغوا التقرب إليه أي بالطاعة.. فالوسيلة ما يقرب العبد من الله بالعمل بأوامره ونواهيه وفي الحديث القدسي: \"ما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه...\" الحديث([10]).

- وقال الإمام ابن كثير: \"(وابتغوا إليه الوسيلة) قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس: أي القربة، وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبدالله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وقرأ بن زيد: \"أولئك الذي يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة\" وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه([11]).

- قال الزمخشري: \"والوسيلة أقل ما يتوسل به أي يتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله - تعالى - من فعل الطاعات، وترك المعاصي، وأنشد لبيد:

أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم*** ألا كل ذي لب إلى الله واسل([12])

- وقال الإمام جلال الدين السيوطي بعد آية المائدة هذه: \"أخرج عبد بن حميد والفرياني وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: (وابتغوا إليه الوسيلة) قال: القربة، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: (وابتغوا إليه الوسيلة) قال: تقربوا إلى الله بطاعته، والعمل بما يرضيه، وأخرج عبد بن حميد عن أبي وائل قال (الوسيلة) في الإيمان...\"([13]).

- وقال الشيخ محمد رشيد رضا: \"... فهل يكون شخص غيرك وسيلة وقربة لك إلى الله وإن لم يدع لك؟ هذا شيء لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا عقل، إن جاز أن يحكم العقل في قربات الشرع، فالعمدة في تقرب الإنسان إلى الله وابتغاء مرضاته، وحسن جزائه هو إيمانه وعمله لنفسه، فإذا أنت لم تعمل لنفسك ما شرعه الله لك، وجعله سبب فلاحك، ولم يدع لك غيرك بذلك فكيف تكون قد ابتغيت إلى الله الوسيلة؟ وهل تسميتك بعض عباد الله المكرمين وسيلة، أو طلبك من بعد موته أن يشفع لك - أي يدعو لك - يعد امتثالاً منك لأمر الله – تعالى-: (وابتغوا إليه الوسيلة)؟ كلا. ([14])

فتأمل أخي القارئ أقوال هؤلاء الجهابذة من المفسرين وغيرهم ممن لم نذكر أقوالهم إيثاراً للاختصار تجد أنهم مجمعون على تفسير (الوسيلة) في الآية بالقربة والتقرب إلى الله - تعالى - بالعمل الصالح، وفعل الطاعات، واجتناب المنهيات، وقد تختلف عبارات بعضهم عن التعبير لهذا المعنى ولكنهم في النهاية يدندنون حول حقيقة واحدة فقط كما بينا.

____________________________

[1] - رسالة الشرك ومظاهره ص (185).

[2] - أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة ص (274).

[3] - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص (3).

[4] - المصدر السابق ص (79- 80).

[5] - تفسير المنار (6/371).

[6] - التفسير الكبير (4/349).

[7] - أضواء البيان (2/86-87).

[8] - حاشية الصاوي على تفسير الجلالين (1/282).

[9] - تفسير الخازن (2/47).

[10] - تفسير التحرير والتنوير (6/187).

[11] - تفسير ابن كثير (2/50).

[12] - الكشاف (1/336).

[13] - الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/494).

[14] - تفسير المنار (6/371-378).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply