الثقافة والمثقفون


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

من المصطلحات الشائعة كثيراً في أحاديثنا وكتاباتنا مصطلح (الثقافة) فيتردد: ثقافة المجتمعات العربية أو الثقافة السائدة، الثقافة الغربية، الثقافة الإسلامية... إلخ. كما يوصف طبقة في الناس بـ\"المثقفين\"ويعنون ذلك غالباً من يمتلك جملة من المعارف أو حاملي الشهادات العليا والأكاديميين، فهل كلمة مثقف أو ثقافة تعني هذا؟ أم أننا في عصر فوضى المصطلحات والمسميات.

 

لم تستعمل كلمة (ثقافة) بالمعنى المصطلحي المعاصر في التراث الإسلامي، وإنما هي ترجمة لكلمة (culture) الإنجليزية أو الفرنسية ولا شك أن الذي ترجمها أو نحت لها هذا النحت من العربية كان أقرب إلى الدقة، وإن كانت الكلمة الأوروبية آتية من مفهوم الحرث والزرع والحصاد، فالزراعة في اللغة الإنجليزية agriculture، والحضارة الغربية حضارة زراعية في الأساس وعندما عبروا عن السلوك والقيم والعادات بكلمة (culture) فإنما هو تعبير مجازي عن انغراس هذه القيم والعادات في المجتمع، وأنها تؤتي ثمرتها من خلال سلوك الفرد، فهي زرع وحصاد. وإذا رجعنا إلى الجذر العربي لكلمة ثقافة فسيظهر لنا أنها ليست معلومات ومعارف فقط، بل إن لها وظيفة اجتماعية سلوكية تهذيبية، العلم أحد أركانها. جاء في لسان العرب: ثقف الشيء: حَذَقه، ورجل ثقف: حاذق فَهِمٌ ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، ويقال: ثقف، ويقصد: سرعة التعلم، والثِّقاف: ما تُسوّى به الرماح (1) فالمثقف آتية من تثقيف الرمح وهو تقويم قناته وتشذيب زوائدها وإزالة الإعوجاج منها.\"ومعنى الكلمة في الذوق العربي يرمي إلى أن أساس الثقافة هو حسن التربية وصحة الإدراك والتقدير للأشياء وسلامة التفكير، ويرمي كذلك إلى اعتبار الأخلاق الفاضلة قبل كثرة المعلومات\"(2)

 

يعرف الثقافة أديب العربية الكبير محمود محمد شاكر:\"هي الأصول الثابتة المكتسبة التي تنغرس في نفس الإنسان منذ مولده حيث استودع هذا الإنسان فطرة باطنة تتوجه إلى رب خالقه وحافظه، وهي معارف للإيمان بها أولاً، ثم للعمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان، ثم الانتماء إليها بعقله وقلبه، انتماء يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار\"(3) وعلى هذا الأساس في غائبة الثقافة، فإنها تزود الفرد بأنماط السلوك الصحيحة والطريق المؤدي إلى الصلاح، وهذا هو الذي أشار إليه الحديث النبوي حين حذر المسلم وطلب منه أن يتعوذ من علم لا ينفع، فمن أهداف الإسلام نفي الأفكار الجاهلية والأوهام النفسية التي تعيق الإنسان عن التفكير السليم والعمل الصالح.

 

الثقافة تجري في الأمة مجرى الدم، وتطبع الناس بطابعها فيصبح سلوك الناس متعلمين وغير متعلمين متشابهًا ويعالجون مشاكلهم بطريقة متقاربة، أي أن هناك شيء من التجانس الفكري فيما بينهم، فعندما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من رأي منكم فيّ اعوجاجاً فليقوّمه، قام إليه رجل من المسلمين وقال: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا.

 

فالمجتمع الإسلامي حينذاك كان منطبعاً بطابع متجانس ذي ثقافة واحدة، وحين تحققت الوحدة والتآلف بين المسلمين (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم)\"حين ذاك دخل عنصر مهم أو تركيب من تراكيب الثقافة وهو الواقع العملي والواقع الأخلاقي المشخص\"(4) وإذا أردنا تعريف الثقافة بثمراتها، فإن ثقافة المجتمع الإسلامي مثلاً لا تقبل بأي حال من الأحوال إهمال الكبار في السن ووضعهم في بيوت العجزة بينما في الثقافة الغربية السائدة اليومº فهو تصرف طبيعي، وفي الثقافة الإسلامية يبرز الطابع الأخلاقي في فنون الأدب من شعر أو نثر. فانتحار إنسان في قصة مأساوية هو في منتهى التأثير والتأثر والإعجاب في الثقافة الغربية، بينما هي عند المسلم تدخل في باب المحرمات، الثقافة الإسلامية جعلت المسلم يكره المنظر القبيح والفعل القبيح كما جاء في الحديث\"إن الله جميل يحب الجمال\"، وهي التي أعطت المسلم الفعالية في الحياة (واقصد في مشيك واغضض من صوتك)، (ولا تمش في الأرض مرحاً) فالمثقف سواء كان مثقفاً عادياً أو أكاديمياً خبيراً في شأن من الشؤون هو صاحب قضية، وصاحب رأي واهتمام في رفع مستوى أمته، ويملك رؤية بعيدة لمصائر الأحداث.

 

المثقفون في الأمة الحية هم خيارها تقوم الأمة نحوهم بواجب التقدير، ويقومون بواجب التوعية وواجب النقد والتصحيح والتجديد، ولذلك يجب أن يكون مكانهم في أمنع المواقع بعيداً عن الأذى، وإن غياب هؤلاء عن مركز القرار ورسم السياسات أضر كثيراً بالعالم الإسلامي. فالمؤسسات العلمية لم تعد تخرج (المثقف) الذي يحول الفكرة إلى عمل وسلوك، ويجسد الشخصية الإسلامية بعلمه وخلقهº بل تخرج (حامل الشهادات)، المتزين بها، الذي يتقن مهنة\"التعالم\"، ومع الأسف فإنه في الآونة الأخيرة أبعد دور المثقف لصالح دور الخبير الإداري وهي بضاعة أمريكية ومع الأسف أيضاً فإن صورة المثقف كانت سابقاً في الوطن العربي (المثقف العلماني) الذي ينظر إلى الدين كتراث يستحق التأمل فيه، وهؤلاء الذين يسمون أنفسهم مثقفين ملأوا الدنيا صراخاً حول موضوع الحريات والديمقراطيات، لكنهم لا يحتملون وجود (المثقف المسلم) هؤلاء الذين يسمون أنفسهم\"تنويريين\"ويتحككون بالمعتزلة الذي يمثلون بنظرهم التيار العقلاني والفئة المثقفة في التراث الإسلامي لا يتذكرون أن هؤلاء المعتزلة هم الذين استعانوا بالسلطة لفرض آرائهم بالقوة على الإمام أحمد وأهل السنة، فمن هو المتنور؟ ومن هو الظلامي؟ هل الذي يتعرض لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم- ولصحابته - رضي الله عنهم -بالتشوية والشك يسمى مثقفاً؟ وهل إصرار محمد أركون على تفكيك النص القرآني شأن ما فعله علماء النصارى البروتستانت بالتوارة والإنجيل يسمى (ثقافة)؟!.

 

إن كلمة (مثقف) في الخطاب العربي المعاصر لا تعني الرجل الحاذق العالم الذي يحمل هموم الأمة، بل أقرب ما تعنيه هي كلمة intellectual الإنجليزية، أي طبقة الذين يشتغلون بالفكر ولا يعملون بأيديهم. إننا نخشى أن تُسمّى الأشياء بغير سمياتها، أو نلبسها خلاف لبوسها، ويصبح المتعالم البعيد عن المواقف الثابتة والمبادئ القويمة يُسمى حكيماً وعاقلاً وخيّراً، وليست هذه هي مهمة المثقف.

 

____________________________

(1) لسان العرب 1/492 مادة: ثقف

(2) محمد البشير الإبراهيمي: الآثار الكاملة 2/126

(3)رسالة في الطريق إلى ثقافتنا /72

(4)مالك بن نبي: مشكلة الثقافة /50

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply