أزمة دارفور... والهروب من الحقيقة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

عجيبة هي حقاً أمور المسلمين - وخاصة العرب - في الوقت الحاضر، تتألق أمامهم الحقائق في وضح النهارº فيتركونها للبحث عنها في غياهب الظلمات.

وينطبق هذا الوضع المحير على الأزمة المفتعلة حالياً في جنوب العالم الإسلامي وهي الأزمة التي تعرف بقضية دارفور، فعلى الرغم من الظهور الجلي للأسباب الحقيقية وراء افتعال تلك الأزمة من قبل العالم الغربي انسياقاً وراء أمريكا، نجد الكثير من قادة الرأي في العالم العربي يجهدون أنفسهم في البحث والتحليل لأسباب وهمية غير أساسية وراء اشتعال الأزمة، وفي محاولة وضع تصور للخروج منها 'بسلام'.

ـ نعم، هناك العديد من الأسباب والدوافع المحركة لهذه الهجمة الشرسة والتكالب المخيف على السودان، إلا أن هذه الدوافع والأسباب في أفضل حالتها يمكن أن تكون غير أساسية أو تابعة للسبب الحقيقي، ألا وهو الدافع العقدي، ومسلسل تضييق الخناق على العالم الإسلامي.

ـ نعم، توسيع نفوذ الإمبراطورية الأمريكية وما يتطلبه ذلك من استمرار تدفق مخزونات النفط من شتى بقاع الأرض - خاصة مع الحديث عن الاكتشافات المستمرة للذهب الأسود في السودان - بالإضافة إلى إغلاق بوابة العرب المطلقة على أفريقيا، وحرمان العرب من سلة الغذاء الواعدة هناك، وإضعاف مصر بالتحكم في مياه النيل، أيضاً ما أعلنه خبراء جيولوجيون يعملون في شركة نفطية غربية كبرى لصحيفة [الخليج الإماراتية]: أن واشنطن والدول الغربية الكبرى حريصة على التدخل في السودان بسبب اكتشافات كميات ضخمة من اليورانيوم في منطقة حفرة النحاس بدارفور، يمكن أن يكون ذلك ضمن أسباب الانقضاض الأمريكي على السودان، إلا أن الدافع العقدي يبقى هو المحرك الأساسي.

ـ ومن العجيب أن يترك المسلمون - خاصة العرب - جوهر القضية، وينشغلون بما يروجه مخططو الحملة على السودان، مثل مزاعم المقابر الجماعية، والإبادة الجماعية، ومعاناة اللاجئين، ودور الجنجويد في ذلك، ودعم الحكومة لهم، والأفضل حالاً يحاولون تفنيد تلك المزاعم، وإظهار الصور الحقيقية للأزمة وأنها لا تعدو كونها صراعاً بين قبائل حول المراعي استغلها الغرب لافتعال أزمة وحجة وهمية.

ـ وليس معنى ذلك أنه لا توجد أزمة لاجئين ومعاناة في دارفور، لكن تلك المعاناة ليست هي التي يصورها الإعلام الغربي، وتروج لها - بقصد أو بدون - بعض وسائل الإعلام العربية، وهذا ما كشفته بعثة أطباء مصريين ذهبت لمساعدة اللاجئين، لكنها فوجئت بصورة مغايرة لما كانت تراه في وسائل الإعلام.

وأوضح الطبيب منصور حسن رئيس البعثة أن الوفد الطبي الذي التقى بمجموعة كبيرة من السيدات في المعسكرات، وقام بإجراء فحوص طبية على حوالي 17 ألف مريض، لم تصادفه أية حالات اغتصاب، كما لم يتقدم أي فرد للشكوى من وقوع شيء كهذا له.

وأضاف حسن الذي يشغل منصب الأمين العام لنقابة الأطباء بالإسكندرية في تصريح لـ[الجزيرة نت]: لقد أخذنا معنا أدوية ومستلزمات طبية ضد إصابات الحروق وتكسير العظام الناتجة عن الحروب، لكننا فوجئنا بعدم وجود أية حالات من هذا النوع اللهم إلا حالتين مضت عليهما 6 أشهر.

وكشف الطبيب منصور حسن ممارسات منظمات الإغاثة الأجنبية العاملة في دارفور التي تتناقض مع العمل الإغاثي، منها قيام المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بنقل بعض النازحين إلى معسكر مهمل في مدينة الفاشر عشية زيارة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان حتى تبدو أحوال هؤلاء النازحين في غاية السوء، لكن الحكومة السودانية أحبطت هذه المؤامرة، وتمت إعادة النازحين إلى معسكراتهم الأصلية.

ويكشف الطبيب المصري واقعة أخرى دارت أحداثها في معسكر مورني بالقرب من معسكر الجنينة، حيث سعت المنظمات الإغاثية إلى منع النازحين من العودة الطواعية إلى قراهم استجابة لدعوة الحكومة للمزارعين لكي يعودوا إلى قراهم قبيل موسم الزراعة.

وفي تفنيد لمزاعم الإعلام الغربي، تحدث منصور حسن حول قيام ممثلي وسائل الإعلام الغربية بتصوير المقابر الخاصة بتلك المناطق والكائنة أصلاً، بزعم أنها مقابر جماعية.

وفي ختام تصريحاته أوضح رئيس البعثة الطبية المصرية أن قضية دارفور ليست بهذا القدر من التضخيم كما يصورها الإعلام الغربي.

ـ وهذه المزاعم هي الحجج الجديدة لتبرير توسعات الإمبراطورية الأنجلو أمريكية، ويطالب بذلك منظرو الجمعية الفابية البريطانية المنتجة لفكر حزب العمال وحكومة توني بلير، حيث يطالبون بضرورة تنحية قضية أسلحة الدمار الشامل، والحرب على الإرهاب جانباً كذريعة لشن الحروب الاستباقية، وتغيير الأنظمة، خاصة بعد الفضائح الكبيرة التي برزت في حربي أفغانستان والعراق، والتوجه نحو التدخل العسكري، وتغيير الأنظمة لأسباب إنسانية، وبسبب انتهاكات حقوق الإنسان فيها.

ـ نعم العقيدة هي المحرك الأساسي:

ـ إذا كانت المشكلة في دارفور - كما ذكرنا سابقاً - لا تعدو كونها صراعاً قبلياً على أماكن الرعي، ومصادر المياه، خاصة مع وجود حالة من الجفاف، وكان هذا الصراع سرعان ما يجد له حلاً من خلال زعماء القبائل، ومعلوم أن هذا النوع من المشاكل يعتبر شيئاً عادياً في جميع المناطق القبلية، وهو من نوع الخلافات الطبيعية التي تنشأ في المجتمعات القبلية المتحركة، ومع عدم وجود مقابر جماعية أو إبادة بشرية كما ذكرت البعثة الطبية المصرية، بالإضافة إلى عدم  وجود نصارى في دارفور يدافع عنهم الغرب، حيث يشكل المسلمون نسبة 99% من أهالي دارفور سواء كانوا أفارقة أو عرباً، فلا يبقى بعد ذلك سوى العقيدة التي تحرك أمريكا ومِن ورائها أوروبا تجاه السودان.

ويتضح ذلك عندما نعلم أن 'ريتشارد سيزيل' رئيس الاتحاد الوطني للمنصرين، و'جاري إدموندز' سكرتير التحالف العالمي للمنصرين هما من يقوما بتنسيق مواقف جماعات اليمين المسيحي لمطالبة بوش بتبني مواقف أكثر تشدداً مع السودان.

ويزداد الأمر وضوحاً بمعرفة أن أنصار المسيحية الصهيونية في أمريكا - والتي ينتمي إليها بوش وإدارته - تؤمن بأن المواجهة بين المسيحية والإسلام أصبحت حتمية بعد سقوط الشيوعية، وأن الساحة الحقيقية لهذه المواجهة هي أفريقيا التي مازالت بالنسبة لهم بكراً دينياً، والسودان هو ساحة المعركة الأنسب لبدء المواجهة.

خاصة وأن السودان الذي يمكنه أن يلعب دوراً بارزاً في نشر الإسلام، تحيط به من الجنوب والشرق دول يحكمها نصارى يرتبطون بالمصالح الغربية.

ومن جانبهم، دخل الصهاينة ولأول مرة بصورة علنية على خط أزمة دارفور، حيث طالبت هيئة 'ياد فاشيم لإحياء ذكرى الهولوكوست' يوم الأحد 18/7/2004 زعماء العالم باتخاذ رد فعل فوري لوقف 'المأساة في دارفور' قبل أن تتفاقم، وفي تحريض للإدارة الأمريكية على التدخل في السودان أعلن الحاخام ديفيد سبارستين رئيس مركز العمل اليهودي أن الإدارة الأمريكية لا يجب أن تقلق هذه المرة من التدخل العسكري، لأن الدعم الدولي في صفها.

وبادر المركز اليهودي للإصلاحات الدينية إلى تنظيم مظاهرة احتجاجية صاخبة أمام السفارة السودانية في العاصمة الأمريكية، وشارك في الحملة المخططة بعض الأسماء اللامعة التي تجذب الانتباه مثل القيادي اليهودي إيلاي ويزيل الحاصل على جائزة نوبل للسلام بحجة أنه يريد تسليط الضوء على العنف في السودان تحت شعار: 'أنا لا يمكن أن أكون منعزلاً'، وشاركته في الحملة والرأي روث ميسنجر رئيسة منظمة اليهود الأمريكية التي صرحت بأنها تستطيع عن طريق هذه الحملة جمع أموال طائلة لـ'أكثر من غرض'.

وساهمت مجموعة يهود منطقة واشنطن بتنظيم ورشة عمل دينية لتتخذ مواقف احتجاجية ضد ما وصفته بـ'العنف المستشري' في غرب السودان، وقام جيري فاولر مدير لجنة 'الضمير اليهودي' بزيارة معسكرات اللاجئين السودانيين في تشاد، ثم كتب بعدها لصحيفة 'واشنطن بوست'.

كما أوقف متحف المحرقة اليهودي نشاطه اليومي لمدة نصف ساعة ليلفت الأنظار إلى أحداث دارفور، وقامت مجموعة 'ائتلاف' اليهودية [تضم 45 مجموعة] بإنشاء مكتب خاص مهمته جمع التبرعات لدعم احتياجات اللاجئين السودانيين في تشاد.

ـ وليس هذا الحماس اليهودي تجاه افتعال الأزمة وتصعيدها بغريب، فقد كشف 'الصادق هارون' أحد القيادات المنشقة عن حركة تحرير دارفور لصحيفة 'البيان الإماراتية' في 4/1/2004 عن لقاء مسلحي دارفور مع مسؤولين صهاينة بتنسيق إريتري في مقر السفارة الصهيونية بإحدى دول غرب أفريقيا الذي أسفر عن تمويل صهيوني للتمرد.

وللمزيد من الاطلاع على العقيدة المسيحية الصهيونية المحركة لليهود تجاه السودان نشرت [مفكرة الإسلام] تقريراً بعنوان 'إسرائيل جديدة جنوب السودان، هل تعلم به حكومته؟'، يتحدث حول الدوافع العقدية التي تحرك العالم الغربي بزعامة أمريكا تجاه افتعال الأزمات في السودان تمهيداً للتدخل العسكري والسيطرة عليه، وذلك من خلال بعض النصوص التي يقول اليهود: إنها من التوراة.

وأما عن توغل منظمات التنصير تحت حجة هيئات الإغاثة الدولية، ودورها المشبوه في دارفور، والتي قال عنها يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان مخاطباً المسؤولين عن المنظمات التنصيرية العاملة في أفريقيا: 'إنني أحدثكم عن دارفور، تلك المنطقة التي تشهد كارثة إنسانية، وهي بحاجة إلى صلواتكم، هلم إليها، إنها بحاجة إلى كلمة المسيح'، ودفع هذا التوغل شبكة المشكاة الخيرية السودانية إلى توجيه نداء للمسلمين من على شبكة الإنترنت قائلة: 'إخوانك في دارفور بغرب السودان، مهددون في دينهم وحياتهم وغذائهم ودوائهم، لا تتركهم للمنصرين'، فهناك تقرير 'دارفور... صرخة نذير من خطر التنصير'.

فلماذا الهروب من الحقيقة؟

ـ إذا كان الأمر كذلك فلماذا نحاول الهروب من مواجهة تلك الحقيقة، أو بمعنى أدق، لماذا يحاول البعض أن يبعدنا عن تلك الحقيقة؟

ـ إن تحييد المسلمين وتصوير الصراع مع الدول الاستعمارية الجديدة على أنه صراع مصالح وحدود - وأي شيء غير أنهم يندفعون من منطلق عقيدتهم - كان هو السبب المباشر في ظهور الاحتلال الصهيوني، واحتلال أفغانستان والعراق، وجميع الكوارث التي حلت بالعالم الإسلامي.

وعلى الرغم من أن بوش أعلنها صريحة قبل ذلك في قوله: 'إنها حرب صليبية'، فهل يتم تحييد المسلمين تجاه السودان كما حدث في العراق؟! لأن النتيجة الحتمية لمعرفة المسلمين لحقيقة الصراع، هي ما أعلنه تنظيم يسمى 'جيش اللواء الإسلامي' في أول بيان له، هدد فيه بشن حرب ضارية ضد القوات الأجنبية، وتوعد بجعل البلاد جحيماً على الحملة الصليبية الجديدة، مؤكداً أنه لا ينبري للدفاع عن حكومة الإنقاذ أو سواها، وأن للسودان خبرة في قتال الصليبيين منذ عهد المهدية، كما التزم بإعلان الجهاد، واستنفار المسلمين في بقاع العالم منذ اليوم الأول لدخول القوات الأجنبية في السودان.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply