مسلمو الدنمرك .. في مواجهة الحقد الصليبي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لعل المتضرر الأول من نشر جريدة (يلاندز بوستن) الدنمركية للرسوم المسيئة للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - هم المسلمون المقيمون في الدنمرك أو الدنمركيون الذين اعتنقوا الإسلامº فقد وضعتهم الأزمة بين شقي الرحىº فهم مطالبون بإظهار سخطهم على الرسوم والحكومة التي أيّدت نشر الجريدة للصور فهو واجب شرعي تحتمه العقيدة الإسلامية التي ينتمون إليها..في المقابل فهم يقيمون بين ظهراني المجتمع الدنمركي الذي يطالبهم بالانتماء إليه، فلعل مهمتهم في المجتمع الدنمركي حالياً أصعب بكثير من مهمة المواطنين العرب والمسلمين المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث سبتمبرº إذ كان عليهم أن يثبتوا فقط أنهم ليسوا إرهابيين، أما مسلمو الدنمرك فليس مطلوباً منهم ذلك فقطº بل يمتد هذا إلى إثبات وقوفهم بجانب الدنمرك في هذه الأزمة ودعمها في مواجهتها مع العالم الإسلامي، ومن نافلة القول التأكيد على أن الأغلبية الكاسحة من مسلمي الدنمرك قد اختارت الموقف الأول، وأيدت بشدة الاعتراضات الإسلامية بل وصل الأمر بزعماء المسلمين هناك إلى التأكيد أن سلاح المقاطعة الاقتصادية هو الوحيد القادر على ردع الدنمرك وإجبار رئيس وزرائها (راسموسين) على تقديم اعتذار للإسلام والمسلمين عن الجريمة النكراء التي ارتكبتها الصحيفة الدنمركية وتبعتها عدة صحف أوروبية في حق نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم -.

ويصل تعداد الجالية المسلمة في الدنمرك إلى أكثر من (200) ألف مواطن يعانون أصلاً من مظاهر عداء وعنصرية من مدة طويلة بشكل سافر يفوق ما تتعرض له الجاليات العربية والإسلامية في بلدان الاتحاد الأوروبي،

وربما يزداد هذا الوضع تفاقماً في المرحلة القادمة، خصوصاً وأن هناك نظرة عدائية للإسلام تضم أغلب مواطني الدنمرك بداية من الملكة ومروراً برئيس الوزراء (رسموسين)، نهاية بأقل مواطن هناك، فلن ينسى العالم التصريحات المعادية للإسلام التي تخرج كل فترة من ملكة الدنمرك التي يملؤها الحقد والكراهية للدول الإسلامية، ومطالبتها شعبها بالاستعداد لمعركة طويلة مع الإسلام الذي يشكل خطراً على المستويين العالمي والمحلي بسبب من وصفتهم بالمتطرفين.

ولم تكتف الملكة بذلك بل طالبت حكومتها بعدم إظهار أي نوع من التسامح تجاه الأقلية المسلمة في البلاد.

 

عداء سافر نحو الإسلام

وتكشف هذه التصريحات مدى العداء الذي تحمله الحكومة الدنمركية للإسلام والمسلمين، والذي ظهر جلياً في تقرير صادر عن المفوضية الأوربية يؤكد أن كوبنهاجن تمارس كافة الأساليب العنصرية ضد مواطنيها المسلمين بدءاً من عدم الاعتراف بالإسلام كديانة، وعدم السماح لهم بإنشاء مساجد، ومنعهم من ارتياد الأماكن العامة، وإقرار قوانين مجحفة حيالهم والتي كان آخرها قانون مكافحة الإرهاب الذي يسقط الجنسية الدنمركية عن أي مهاجر يتورط في أعمال إرهابية أو حتى التحريض عليها داخل البلاد وخارجها، وفرَض القانون قيوداً على ارتداء الحجاب، وأكل اللحم الحلال، بل ويمنع المواطنين المسلمين من بناء مقابر خاصة بهم.

ويقطن مسلمو الدنمارك في المدن الكبرى مثل: العاصمة كوبنهاجن، ومدن بروتدبي، وأورهوس، وأوردنسا، حيث يشكل الإسلام الديانة الثانية بعد المسيحية اللوثرية، ويواجه مسلمو الدنمارك صعوبات كثيرة ومشاكل معقدة يأتي في مقدمتها عدم الاعتراف بالإسلام كديانة رسمية بهمº فالمسلم الذي يلاقي ربه في إحدى مدن الدنمرك أمامه خياران: أحدهما الدفن في موطنه الأصلي، أو يُدفن في مقابر مسيحية، ولا شك أن هذا التقرير والأحداث الأخيرة التي واكبت قضية الرسومات المسيئة للرسول - صلى الله عليه وسلم - يفتح الباب أمام إلقاء الضوء على أوضاع المسلمين في الدنمرك الذين يشكلون 4 % من عدد السكان البالغ (6 و5) مليون نسمة، ويصل عددهم إلى 210 آلاف نسمة، منهم (17) ألف عربي، وستون ألف تركي و(30) ألف باكستاني، والباقي من أصول وعرقيات مختلفة، منهم آلاف الصوماليين الذين تدرجهم الحكومة الدنمركية في التصنيف كأفارقة، وهو ما يترتب عليه العديد من التعقيداتº فهم لا يستطيعون بناء مساجد حسب القانون، وكثيراً ما يلجأ المسلمون للتحايل لتجاوز هذه المشكلة عن طريق تحويل بعض الأماكن إلى قاعات يصلون فيها، كما أن عدم الاعتراف بهم كديانة يجبرهم على دفن موتاهم في مقابر خاصة بالمواطنين المسيحيين.

 

تدنيس المقابر:

وقد كشفت تقارير صحفية أن القسم الخاص بمقابر المسلمين قد تعرض لحوالي مائة عملية تدنيس في العاصمة كوبنهاجن وحدها، وهو ما يكشف حالة العداء الشديدة التي يتعرض لها المسلمون التي زادت حدتها بعد أحداث 11 سبتمبر، والتي يقودها حزب الشعب الذي يتمتع بنفوذ متعاظم في الدنمركº إذ يشكل مواجهة الوجود الإسلامي في الدنمرك أولوية في برنامجه السياسي، ولا يقف العداء لهذا الوجود عند حزب الشعب فقط بل إن ما زاد الغرابة أن الحزب الاشتراكي الليبرالي يستخدم نفس الخطاب على الرغم من أنه حزب يساري من المفترض أن يدعم حقوق الأقليات، وكثيراً ما خرج أحد الزعماء السياسيين البارزين في الدنمرك ويُدعى (مونيس غلستروب) يدعو إلى طرد المسلمين وتجميعهم في معسكرات وبيع أكثر من ستة آلاف من فتياتهم ونسائهم في أسواق النخاسةº فوجودهم (أي الجالية المسلمة) يلحق أشد الضرر بالمجتمع وبالاقتصاد القوميº فهم يطالبون بقطع العمل أربع مرات يومياً من أجل الصلاة.

ولا تختلف هذه اللهجة العنصرية مع نتائج استفتاء عن انطباع مواطني الدنمرك عن الجالية المسلمةº فقد جاءت النتائج تؤكد أن 31 % من المواطنين يرون أن رؤيتهم لأشخاص من أتباع ديانة مغايرة يمثل إزعاجاً لحياتهم اليومية، وهذه النسبة لا نظير لها في أي من بلدان الاتحاد الأوروبي، كما أظهر استفتاء آخر أن 80 % من الشعب الدنمركي لم يتعامل البتة مع مواطنين مسلمين أو يقرأ أي شيء عن مبادئ الإسلام مما يجعله الشعب الأوروبي الأجهل بهذا الدين الحنيف.

الأجواء العنصرية المحيطة بالمسلمين هناك ساهمت ولا شك في انكفاء أبناء الجالية على أنفسهم، وعدم سعيهم للعب دور سياسي في البلاد، فهم على الرغم من وجود نائبين في البرلمان الدنمركي أحدهما لبناني والآخر باكستاني إلا أنهم أخفقوا في استغلال هذا الأمر لوقف مظاهر التمييز والعنصرية التي يواجهونها، كما أن الخلافات والتنافس الذي يحكم الجالية بسبب رغبة الكثير من الدول الإسلامية في فرض نفوذها عن طريق مواطنيها قد أجّج الخلافات في صفوف الجالية لدرجة أن رئيس الوزراء الدنمركي (راسموسين) استطاع تشكيل مجلس إسلامي يضم عدداً من الجنسيات العربية والإسلامية لسحب البساط من تحت أقدام الرابطة الإسلامية بقيادة محمد فؤاد الرازي التي لعبت دوراً مناهضاً للحكومة في قضية الرسومات المسيئة للرسول - صلى الله عليه وسلم - مما أدى إلى شق صفوف مسلمي الدنمرك بين مطالب بتفعيل سلاح المقاطعة، وبين مطالب بالحوار كبديل لحل الأزمة.

 

نجاحات إسلامية:

وعلى الرغم من مظاهر التضييق على المسلمين في المجتمع الدنمركي إلا أنهم نجحوا في الفترة الأخيرة في تحقيق العديد من الإنجازات أهمها بناء مسجد كبير ومركز ثقافي بدعم من رابطة العالم الإسلامي، وهو المبنى الذي بذلت الرابطة الإسلامية في الدنمرك جهوداً جبار لانتزاع موافقة الحكومة عليه، وعدم الانصياع لضغوط الأحزاب اليمينية الراديكالية المدعومة من اللوبي الصهيوني، والمعترضة على وجود أي مؤسسة إسلامية في البلاد، والتي تقود من آنٍ, إلى آخر حملات تربط بين الإسلام والإرهاب، وذهبت إلى حد التهجم على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك موافقة وزارة التربية والتعليم الدنمركية على تدريس مادة القرآن الكريم في ضوء الإقبال المتزايد وغير المسبوق من الدنمركيين على دراسة الإسلام، وهو ما يحقق فائدتين للحكومة الدنمركية أولها إذابة المسلمين في المجتمع، وتعريف المواطنين بمبادئ الإسلام، وتخفيف العداء الكامل لكل ما يخص الإسلام في المجتمع الدنمركي، وكذلك قامت شبكة التلفاز الحكومي ببث خطبة الجمعة من أحد مساجد المسلمين، وهو ما أرجعه المراقبون بالسعي للجم غضب أبناء الجالية المسلمة من التمييز والعنصرية ضدهمº إلا أن هذه النجاحات ما لبثت أن اصطدت بواقع مرٍّ, خلّفته قضية الرسومات التي ستزيد من مرارة واقع الجالية المسلمة هناك، وستزيد من حدة العداء لها في المجتمع الدنمركي، مما سيخلّف حالة من الفتور والشك بين الجالية والحكومة والشعب الدنمركي، وسيفشل المحاولات التي قام بها الطرفان لدمج المسلمين في المجتمع الدنمركي.

وقد أسهم هذا المناخ المتطرف في تراجع الأصوات المطالبة بدمج المسلمين في المجتمع الدنمركي خصوصاً أن الثقة بين الحكومة والجالية المسلمة قد تلاشت بعد رفض الحكومة تقديم اعتذار رسمي عن الرسوم المسيئة للرسول - عليه الصلاة والسلام -، وتأييد أعضاء الجالية المسلمة لغضبة العالم الإسلامي على الإساءة للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومطالبتهم بتفعيل سلاح المقاطعة، وهي أمور ستزيد من أوضاع المسلمين في البلاد تعقيداً على التعقيد الذي كان موجوداً على خلفية مشاركة الدنمرك في الحرب ضد العراق ودعمها اللامحدود للكيان الصهيوني في مساعيه لتصفية الشعب الفلسطيني، وقد كرّست الأزمة الأخيرة إحساساً بالتهميش لدى أبناء الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين الذين يشعرون بالدونية على الرغم من أنهم وُلدوا في البلاد وتلقّوا تعليماً عالياً في مدارسهمº غير أن هذا الأمر لم يقلل من أساليب التمييز التي يواجهونها في سوق العمل، وتضطرهم إلى الذهاب إلى بلدان مجاورة.

 

سلاح المقاطعة

فيما يرى د. عبد الله الأشعل الدبلوماسي والمحلل السياسي أن الدانمرك تُعدّ من أشد الدول عنصرية تجاه المهاجرين من العرب والمسلمين لدرجة أن (راسموسين) رئيس الوزراء قد نجح بأغلبية كبيرة على الرغم من رفض الدنمركيين لمشاركته في الحرب على العراق، إلا أنهم أيدوا حزبه بسبب تبنيه لخطاب متشدد ضد الجالية المسلمة والمهاجرين بصفة عامة، وينبه الأشعل إلى أن استخدام المسلمين لسلاح المقاطعة ضد المنتجات الدانمركية وتأييد رموز الجالية لذلك سيزيد أوضاع الجالية سوءاً في البلاد، وسيفشل أي محاولات لوجود قبول دنمركي بتحسين أوضاع الجالية، مشيراً إلى انكفاء الجالية المسلمة هناك على نفسها والخلافات الشديدة بين أبنائها يزيد من قتامة أوضاعها.

وطالب "الأشعل" أبناء الجالية المسلمة في الدنمرك بفتح حوار مع الفعاليات الثقافية والدينية في الدانمارك للوصول إلى كلمة سواء فيما يخص تحريم ازدراء الأديان وتحقير الرموز الدينيةº لأنه بدون التوصل إلى مثل هذا الاتفاق فيمكن أن تتكرر الأزمة، وهو ما سيجعل مستقبل الجالية المسلمة في الدنمرك في مهب الريح.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply