منهج الاستدلال الاجتزائي وخطره على المنهج


بسم الله الرحمن الرحيم

 

لما شرب أحد الصحابة الخمر في عهد عمر - رضي الله عنه - وسئل عن ذلك استدل بقول الله - عز وجل -: (( لَيسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )) الآية، والآية هذه جاءت في سياق آيات الخمر، فترك ما سبقها من الآيات وانتقى هذه انتقاء جهلاً منه ليس هوى، وقد عالج عمر - رضي الله عنه - الموقف.

ولما خرجت الخوارج على علي - رضي الله عنه - استدلوا بقول الله - عز وجل -: (( إنِ الحُكمُ إلاَّ لِلَّهِ )) اعتراضاً على تحكيم الرجال، وجاء ابن عباس - رضي الله عنه - ليضع قضية التحكيم هذه في سياقها الصحيح عند مناظرته لهم، وبيّن جواز التحكيم في صيد المحرم، وفي اختصام الزوجين، وظهر خطؤهم في انتقائهم دليلاً من الكتاب وتغييب غيره من الأدلة.

وإذا أردت أن تعرف خطر هذا المنهج فاجلس مع أحد المتشددين، واسأله عن منهج السنة في أي مسألة من المسائل الخلافية، ولتكن مسألة التعامل مع العصاة مثلاً، ثم استمع إلى الأدلة التي يعرضها عليك، وكيف تدعو إلى إنكار المنكر والأخذ على يد العاصي، وأطره على الحق أطراً، وعدم مجالسته وهجره وإلى غير ذلك من الأدلة الصحيحة.

ثم اجلس مع شخص آخر يرى بالتيسير واسأله نفس السؤال فسوف يعرض عليك مجموعة أحاديث ومواقف نبوية في رحمة العصاة، والحذر من تنفيرهم، ودعوتهم بالموعظة الحسنة، واستخدام الأسلوب الذي يحقق المصلحة ومحاولة تحبيبهم إلى غير ذلك من الأدلة الصحيحة أيضاً.

من تصدق من هذين الشخصين؟ المتشدد الذي ينظر من زاوية انتهاك حرمات الله والاستهتار بأوامره والتمادي في معصيته؟ أم الميسر الذي ينظر من زاوية الرحمة بالعصاة، والرفق بهم، والاعتراف لهم بالتوحيد والإيمان، وفتح أبواب الرجاء لهم؟ وكيف تتعامل مع كليهما وقد حشدا الأدلة الصحيحة، وأقوال السلف والخلف، فيما يذهبان إليه برغم التضاد والاختلاف؟

المتشدد لن يغفر للعاصي زلة مهما كانت المصلحة في السكوت، والمترخص لن يزعج العاصي مهما كانت مصلحة الإنكار، إن حياة رسول الله - صلى الله عليه و سلم - كانت وحدة متماسكة من الأحكام، وما احتاج إلى بيان فقد بينه من جاء من أكابر المسلمين، وإن قلت بأن هذه قضية خلافية فلن نسلم لكº لأن الخلاف المقبول هو ما جمعت أدلة مسألته ثم تعددت فيها الأفهام، لكن المنهج الاجتزائي الانتقائي هو أخذ أدلة والتغافل عن الأدلة الأخرى كما فعل الصحابي المذكور أو الخوارج أو غيرهم، دون النظر إلى الأدلة الأخرى التي قيدت مطلقاً أو خصصت عاماً، أو أحكمت متشابهاً أو نسخت سابقاً.

المذاهب الفقهية التي قامت بلا استثناء لم تكن انتقائية ولا اجتزائية، وإنما كانت محكومة بفهم أو درجة صحة أو فوات علم أو ثبوت ناسخ أو غير ذلك مع استحضار جميع الأدلة الممكنة لاستنباط حكم من الأحكام، ولا يخلو أي مذهب من أخطاء يقترفها تابع تعصب أو جنح، وقد تبرأ كل إمام خالف قوله السنة مما قاله، ومن كان له قول جديد أو قديم من أئمة المذاهب وغيرهم فيسقط قوله القديم من حيث النسبة إليه أثناء الاستدلال به، وأتباع المذاهب من الأئمة يرجحون القديم على الجديد أحياناً ليس انتقاءً ولا نسبة وإنما غاية في التجرد، وإن كان في ذلك تخطئة لإمامهم ومتبوعهم - رضي الله عنهم -.

في الصحوة المعاصرة داء خطير أدى إلى تخبطها يميناً وشمالاً فلم تعد تدري إلى أي طريق تسير إلى الحق أم إلى الهاوية؟ هذا الداء هو الاستدلال الانتقائي الذي يتخذه كثير من أبناء الصحوة لضرب المخالف حيناً، ولهوى عاصف حيناً، ولإخفاء عجز حيناً ثالثاً.

وكثيراً ما حاورت أشخاصاً من هؤلاء، وإن كنت لا أبريء نفسي فهو داء قل أن يلتفت إليهº لأن من يريد الانتصار لمذهبه أو رأيه فهو إلى كلمة تسانده من أي عالم أو إمام أحوج منه إلى الطعام والشراب حتى لو جاءت مبتورة، أو في مناسبة لها حكمها، أو كانت منسوخة بخالف قول.

ومن الباعث للسخرية والضحك أن فرقتان تنتميان إلى متبوع واحد تقول هذه بأقواله وهذه بأقواله المخالفة المناقضة وترى صراعات لا تنتهي، وكل يقدح في الآخر بأقوال ذات المتبوع.

هذا في جانب الإتباع، أما في جانب الذم والانتقاص فحدث ولا حرج قديماً وحديثاً، إنه توجه لا يبحث عن السقطات فهو امتياز عنده، ولكنه يتفنن في انتقاء القول واجتزائه وابتساره طلباً للذم واجتهاداً في الأذى، طبقاً لما أخذ من القرآن: (( لا تَقرَبُوا الصَّلاةَ )) وترك الصلاة، أو من السنة: (من صلى البردين دخل الجنة) وفرّط في الصلوات الأخرى.

إن الذي ينتقى الأدلة أو الأقوال ثم يبني عليها فهمه ومشربه لهو أشبه بالذي يبني بناءً عالياً على جزء من الأسس دون الجزء الآخر سرعان ما يتهاوى بناؤه وإن أعجبه منظره أو التف الناس حوله.

والصحوة الإسلامية بحاجة إلى إعادة نظر في هذا الجانب، إذ رأينا كثيراً من المعضلات التي وقعت بها ما جاءت إلا من هذا البابº مما أدى إلى طعن في الديانة، واستباحة للأعراض، وتزييف للحقائق، وإيمان ببعض الكتاب وإخفاء بعضه.

هذا الفعل هو ما كانت عليه بنو إسرائيل من قبل وإلى الآن، وهو ما أفضى بهم إلى زيغ القلوب وعميها عن الحق والنور.

وهذا داء له أسباب يجمل بنا الحديث عنها باختصار كي نجلو الغشاء عن هذا الفهم الضال عن الرشد والخير.

1- توظيف النص وتسخيره لخدمة الغرض الشخصي في إثبات فكرة أو رد على مخالف أو تتبع عثرة منافس:

وهذا أساسه الهوى، وذروة سنامه الفجور، الذي قال فيه حبيبنا - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا خاصم فجر)، أو يوظّف النصّ في التزييف والكذب وتمرير فكرة ما، هذا يدخل في قوله - عليه الصلاة و السلام - (وإذا حدّث كذب).

وانتشار هذا السبب في الاستدلال الانتقائي من أوضح الواضحات حيث وظفت أقوال كثير من السلف والخلف بهذا الأسلوب الشائن الذي جعل الأمة في أحيان كثرة تموج في أفكار لا أول لها ولا آخر.



2- ضعف القراءة التحليلية:

تلك القراءة التي لا تبرح النص حتى تفك رموزه، وتعلم مداخله ومخارجه، وتدرك مقاصده، وتحلله تحليلاً علمياً متجرداً، ولما ضعفت هذه السجية فينا أخذنا في التخبط في الأحكام، والتقول على صاحب النص بداية بالوحي المنزل، ونهاية بأقوال الناس على كافة مشاربهم، والأمثلة على ذلك لا تحصى سواء في أحكام الشريعة، أو في الحكم على أصحاب النصوص، وانتشرت فينا ظاهرة مرضية وهو أننا نقرأ أو نسمع ثم يكون ثمرة ذلك كله مجرد انطباع شعوري دون أي علم مأثور أو فكرة فضلاً عن التحليل والتنقيب.



3- غياب المنهج التكاملي في قراءة الفكرة أو النص:

أنت عندما تقرأ كتاباً أو تسمع خطاباً أو حتى آية أو حديثاً ثم تتخذ الحكم من خلال هذه الجزئية تكون في عداد المتقولين على الله أو على رسوله أو على عباده بغير علم، فكل نص غالباً ما يكون مرتبطاً بغيره على شكل تكاملي يضبط بعضه بعضاً من ناحية البيان أو التقييد أو النسخ أو المناسبة، فمن أراد أن يستدل بقول من الأقوال فيلزمه وجوباً أن يجمع كل ما أمكن من الأقوال والحيثيات المصاحبة، ثم يتخذ بعد ذلك حكماً يعذر ويؤخر معه وإن كان مخطئاً، ومن كان له مئة كتاب أو مثل ذلك فلا يصح أن يؤخذ فكره وتصوره ويحكم عليه من كتاب واحد.



4- الجهل بمناسبة الأقوال:

مهم جداً معرفة مناسبة القول حتى لا يضل المستدل الطريق، ويأتي بما لم يؤمر به أو يقع فيما نهى الشرع عنه.

في عهد الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - كانت تظهر مفاهيم غريبة لبعض النصوص الموهمة بظاهر المعنى فلما سمعها الصحابة عدلوا هذه المفاهيم، وبينوا المناسبة التي قيلت فيها وهو الجانب المجهول عند الناس حينئذ، كقوله - تعالى -: (( ولا تُلقُوا بِأَيدِيكُم إلَى التَّهلُكَةِ ))، وقوله - تعالى -: (( يَا أَيٌّهَا الَذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرٌّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهتَدَيتُم )) وأمثال ذلك من نصوص الكتاب والسنة، وأفعال الراشدين وأقوالهم، ومذاهب الأئمة ومن جاء بعدهم من العلماء والمجددين والقادة المصلحين.

وبلا مواربة فقد وقع في هذا المنهج أقوام من السلف والخلف، وبشريتنا تأبى علينا العصمة إلا من عصم الله - عز وجل -، والمؤسف أن أتباع من أخطأوا استمروا على هذا الخطأ دون الخروج من دائرة التبعية العمياء الممتدة عبر قرون طويلة، ولا زالت آثار هذا المنهج تسير العلاقات بين المسلمين أنفسهم دون مراعاة لوجوب النظر، أو الخروج من الأسباب التي ذكرنا، ولهذا فيجب على المعنيين بالصحوة الإسلامية إعادة ترتيب الأوراق، وتشكيل عقلية الاستدلال، والنظر إلى جميع الأقوال والنصوص وتفسيراتها بمنظار النهج الاستدلالي التكاملي لا المجتزأ ولا الانتقائي، وهذه مهمة كل عالم في تخصصه، والمجمعات الفقهية والفكرية أول المعنيين بذلك على طريقة الفقه المقارن الذي هو مفخرة من مفاخر هذه الأمة.

لا يزال هناك من يرى أئمة مجددين ومصلحين ضلالاً ودعاة غواية، وما قرأوا لهم كتاباً واحداً، وما علموا هل قالوه حقاً أم لم يقولوه، أم قالوا به قديماً ثم رجعوا عنه، أم قالوه في حال وموقف لا يحتمل سواه لا يقولون به في غيره، والأفعال مثل الأقوال في ذلك.

على أننا لا نبرئ علماء من التناقض أحياناً ومن التعصب أحياناً، ومن فوات العلم أحياناً أخرى، ولكن ذلك كله لا يظهر إلا بالمنهج الذي ذكرنا (( ولا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إنَّ السَّمعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلٌّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسؤُولاً )) غفر الله لنا جميعاً، وغفر لسلفنا وخلفنا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply