بسم الله الرحمن الرحيم
مؤسّس الحركة النوريّة بتركيا، عالم جليل مجاهد، باعث الحركة الإسلاميّة بعد الانقلاب الكمالي، وإلغاء الخلافة الإسلاميّة، عضو المجلس العلمي الكبير. من أصل كردي.
ولد في قرية نورس بولاية بتليس في شرق الأناضول، ونشأ في أسرة مشهورة بالتقوى والورع، وكان والده صوفيّاً، أما والدته فلم ترضع أطفالها إلاّ على طهر ووضوء وكانت امرأة فاضلة.
بدت عليه علامات النجابة والنبوغ في سنّ مبكّرة، وذاعت شهرته لتعدد قابلياته، وفرط ذكائه، ولقب بديع الزمان.
حفظ القرآن، وكثيراً من أمّهات الكتب وتلقى علومه على علماء عصره أمثال: الشيخ محمد جلالي، ومحمد أمين، وفتح الله أفندي انكبّ على دراسة العلوم الدينيّة، ونال الإجازة العالميّة في العلوم الدينيّة سنة 1305/1888 وارتدى ثياب الدراويش.
واشتغل بتدريس العلوم الدينيّة في ماردين سنة 1892 ونهض للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنكر على الظلمة حتى نفوه إلى بتليس، ثم انتقل إلى مدينة وان سنة 1894 حتى عام 1909 ثم انتقل إلى استانبول، وأنشأ جامعة إسلاميّة في شرق الأناضول، لتعليم العلوم الإسلاميّة، وخدمة القرآن إلى جانب العلوم الحديثة باسم (مدرسة الزهراء).
كرّس حياته لإظهار إعجاز القرآن، وربط المسلمين بكتاب الله حيث قال: لأبرهننّ للعالم بأنّ القرآن شمس معنويّة لا تنطفئ، ولا يمكن إطفاء نورها.
وكان خطيباً لا يلحن، شديد التأثير على مستمعيه، يأسر القلوب، ويخطف الألباب.
اتخذ موقفاً سلبياً من الطرق الصوفيّة وقال: يجب على الفرد أن لا يكون له أي ولاء خاص بالطرق، إنّ منهج رسائل النور هو الحقيقة وليس الطرق.
قضى الكثير من أوقاته بين عامي (1923-1925) متعبّداً متأمّلا، ثم نفي إلى بارلا، وألّف فيها معظم رسائله وقضى فيها بين عامي (1926-1934) وقدّم إلى محكمة قضت بسجنه أحد عشر شهراً، بتهمة تأليف رسالة يدعو فيها النساء إلى الحشمة، ثم نفي إلى مدينة قسطموني بين عامي (1936-1944) ثم نفي إلى أميرداغ وسط الأناضول بين عامي (1944-1950).
طاف الأناضول، وعارض استبداد السلطان عبد الحميد، ولم يوافق على حكم (الاتحاد والترقي) وشارك في حرب الاستقلال، وناصر عبد الحميد في مأساته.
زج في السجن لمعارضته العلمانيّة، ومقاومته الانحراف عن مبادئ الإسلام، وإلغاء الشريعة.
قال: إنّ الشريعة الغراء باعتبارها أزليّة قديمة، فإنّها ستبقى إلى الأبد، وأنّ الخلاص والنجاة من ظلم النفس وشرّها، لا يكون إلاّ بالاعتماد على الإسلام، والتمسّك بحبل الله المتين، وقال أيضاً: لو أنّ لي ألف نفس لما تردّدت بفدائها في سبيل حقيقة واحدة، وحكم واحد من أحكام هذه الشريعة، إنّها طريق السعادة، والعدالة، والفضيلة، المحضة. أسّس دعوته الإصلاحيّة التي حرّكت الشعور الديني الذي لم يخمد، وكان من بركتها قيام (حزب السلامة الوطني) و(حزب الرفاه) و(حزب الفضيلة).
التزم حياة الزهد، ورفض الوظيفة الدينيّة، وقاوم الهزيمة.
التحق بالجيش العثماني برتبة ضابط، وقام بتنظم كتائب الأنصار لمحاربة الروس، وخاض المعارك ضدّهم حتى سقط جريحاً، فأسر وسجن في سيبيريا إلى أن تمكّن من الفرار إلى ألمانيا.
رفض زعامة الحركة الكرديّة، وقال قولته المشهورة: إن كنتم تريدون إرجاع الدولة العثمانيّة فأنا معكم، وإن كنتم تريدون إقامة دولة كرديّة فلا.
وسعى لتوحيد صفوف الأتراك والأكراد معاً، وإحياء الإيمان في نفوسهم كشرطين لجمع الأمّة على أساس الإيمان.
ولدى اتهام الاتحاديّين له بأنّه يعمل على تقويض إنقلابهم، والدعوة إلى عودة العهد الرجعي، أجاب النورسي: إذا كان الانقلاب عبارة عن استبداد جماعة بالحكم، ومخالفة لأحكام الشريعة، فليشهد الإنس والجن بأنّني عامل على تقويضه، وأنّني أوّل رجعي.
وعندما أرسل الاتحاديّون إليه اليهودي (قرهّ صو) لإغرائه بالانضمام إليهم، خرج من عنده يقول: لقد كاد هذا الرجل العجيب أن يدخلني في الإسلام بحديثه.
وكان يرى أنّ السياسة المبنية على المنافع وحش رهيب.
وتجلّت مهمّته التي نذر نفسه من أجلها، في إنقاذ الإيمان من تهديد الزندقة، والإلحاد، والشك، والقلق.
ثبّت أركان الإيمان بالأدلّة الرصينة، وإنشاء جيل مؤمن قادر على المواجهة الفكريّة، والمغريات الماديّة، بما لديه من مقوّمات الصمودº وأوجد علم كلام قرآني، ونقل علم التوحيد من نظريّات فكريّة مجرّدة إلى سلوك وممارسة يوميّة
ولما وجد النورسي أن بعض العلماء الذين لا يحملون أي شرط من شروط الاجتهاد، يسوّغون كل التطوّرات غير الدينيّة التي جرت في تركيا باسم الاجتهاد، رأى أنّ هناك موانع تحول دون فتح باب الاجتهاد في عصره.
وأنّ أي حديث عن الاجتهاد في مثل هذا الجو لا يكون مبنيّاً إلاّ على أسس بعيدة عن الورع والتقوى.
ودعا إلى الأخذ بأسباب الحضارات الصناعيّة، لأنّها من ضرورات إقامة الحياة القويّة.
رأى أنّ الحريّة لا تتحقق ولا تنمو إلاّ بتطبيق أحكام الشريعة، ومراعاة آدابها، وأنه في ظل الاستبداد لا يمكن أن يكون هناك حريّة، وأنّ على طلاب الحريّة أن يموتوا، أو يبقوا في السجون محتمين بالله - تعالى -قائلين: (حسبنا الله ونعم الوكيل).
وكان متمسّكا بالحرف العربي، والأذان العربي، والصلاة بلغة القرآن التي حاربها الدونمة والعلمانيّونº مؤمناً بأنّ الإسلام هو السبيل الوحيد لوحدة شعوب الدولة العثمانيّة، رافضاً ادّعاء الطورانيّين بأنّ الأتراك هم أصل الحضارات.
وتعتبر الحركة النورسيّة التي أسّسها في طليعة الحركات الإسلاميّة السنيّة الواسعة الانتشار في البلاد التركيّة
ربّى تلاميذه تربية روحيّة على حبّ العرب، وعشق أهل الإيمان، وكتب لهم: (رسائل النور) حيث قدّم الإسلام شاملاً للكون، والحياة، والإنسان، في أكثر من مائة وثلاثين رسالة بين عامي (1926-1950) باللغة التركيّة، معتمداً على حقائق القرآن الكريم، وإثبات معانيها وهي موزّعة وفق ترتيب الدكتور عبد المحسن عبد الحميد على الوجه الآتي: (المقالات) وتضم 33 مقالة، في 650 صفحة، و(المكتوبات) وتضم 33 مكتوباً في 450 صفحة، و(اللمعات) وتضم 33 لمعة، في 430 صفحة، و(الشعاعات) وتضم 15 شعاعاً، في 640 صفحة، وهناك رسائل أخرى في مسائل مستقلة في كتب صغيرة منها: (المدخل إلى عالم النور) و(مفتاح النور) و(المحاكمات) و(سيرة ذاتية)، ورسائل كتبها باللغة العربيّة وهي 15 رسالة أهمها: (المثنوي النوري) و(إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز)، وهناك رسائل أخرى في مسائل إسلاميّة دقيقة، أو في الدعوة لتثبيت تلاميذه، كانت تتداول بين جماعته بسريّة، ثم كشفت وطبع بعضها في مجلد مستقل في 220 صفحة بعنوان (ختم التصديق الغيبي).
ومن هذه المؤلّفات: (دليل الشباب) و(الاجتهاد في العصر الحاضر) و(قطوف من أزاهير النور) و(محاكمات عقليّة في التفسير والبلاغة) و(المعجزات القرآنيّة) و(مرشد أهل القرآن إلى حقائق الإيمان) و(الإيمان وتكامل الإنسان) و(الإخلاص والأخوّة) و(الشيوخ) و(الشكر) و(المعجزات المحمديّة).
وهذه المؤلّفات تدل على ثقافة واسعة، وقدرة على هضم المعارف الإنسانيّة في عصره، وقدرة على التأمّل العميق.
ووجد د. عبد المحسن عبد الحميد أنّ رسائل النور تمتاز بالأسلوب الأدبي الرفيع غير المتكلّف، مع الإيجاز دون الإطناب، وضرب الأمثال بكثرة تلفت النظر، وذلك لتقريب المفاهيم الإيمانيّة إلى الأذهان، والتركيز على معاني الأسماء الحسنى، وإظهار تجلّياتها على جميع الموجودات، وحل كثير من المعضلات على نورها، وردّ الشبهات عن الإسلام دون ذكر الشبهة نفسها، وإيراد الأمثلة الواقعيّة والعلميّة المبسّطة، بحيث يفهمها الجميع.
وتمثل كتاباته الصراع الفكري في عصره تمثيلاً تاماً، وتضع الأسس الفكريّة لتنشئة جيل مؤمن يعرف كيف يتعامل مع العصر.
قضى أواخر أيّامه معتزلاً في مدينة إسبارطة، وتوفي بأورفا في 27 رمضان 1397 ونقلت الحكومة العسكريّة بعد الانقلاب على الحزب الديمقراطي قبره إلى مكان مجهول، في محاولة منها لإلغاء الذاكرة الدينيّة.
كتب في سيرته: سمير رجب (الداعية الإسلامي بديع الزمان سعيد النورسي) ومصطفى ربحي العاشور (بديع الزمان النورسي نظرة عامّة في حياته وآثاره) ومحمد حرب (سيرة إمام مجدّد بديع الزمان النورسي) ومحمد سعيد رمضان البوطي (النورسي حياته وبعض آثاره) ونجم الدين شاهين (جوانب غير معروفة عن حياة سعيد النورسي) و(ذكريات عن سعيد النورسي) التي ترجمها إلى العربيّة أسيد إحسان قاسم، وكتب محسن عبد الحميد (النورسي متكلّم العصر الحديث) وإحسان قاسم الصالحي (بديع الزمان سعيد النورسي نظرة عامّة عن حياته) وعبد الله محمود الطنطاوي (منهج الإصلاح والتغيير عند بديع الزمان النورسي) وجمال الأحمر (الإمام بديع الزمان النورسي، حياته ودعوته وجهاده).
وفي مؤتمر عالمي عقد سنة 1992 حول (بديع الزمان النورسي وتجديد الفكر الإسلامي) ألقيت مجموعة من البحوث، ترجمها إلى العربية ونشرها: أورخان محمد علي.
--------------------------------------------------------------------
(1) سيرة إمام مجدد بديع الزمان النورسي ص 15 محمد حرب. (2) حركة الجامعة الإسلامية ص 54 أحمد فهد الشوابكة. (3) الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا ص 49 أحمد النعيمي. (4) صحيفة اللواء ع 1185 س 1996 مقال: رائد الصحوة الإسلامية في تركيا. (5) مجلة الأمة ع 19 س 2 رجب 1402/ أيار 1982، مقال: النورسي رائد الفكر الإسلامي الحديث في تركيا، د. محسن عبد الحميد. (6) صحيفة اللواء الأردنيّة ع 1277 س 26 مقال:النورسيّة في تركيّا ومؤسسها سعيد النورسي، لمحمد علي الصويركي الكردي.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد