ساعة أخرى مع حسان بن ثابت حلقات في منهج النقد الإسلامي


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الثانية 

اجتمعت أقوال نقدة الشعر على تقديم حسان على أترابه الثلاثة من الأنصار وقد ذكرت لك ذلك

وبينته … فكان حسان يفضلهم..في ثلاث: فهو شاعر الأنصار في الجاهلية وشاعر الرسول في الإسلام وشاعر اليمن بعد الفتح …

وعده الأصمعي من الفحول..بيد أنه أشار إلى قضية دعتنا إلى إفراد ساعة ثانية معهº إنها قضية النحل ولين شعره في الإسلام كما يذكرون.. وقد علل الأصمعي هذه الظاهرة في شعر حسان بقوله: \" الشعر نكد لا يقوى إلا في الشرº فإذا دخل في الخير ضعف ولان.

ولك أيها القارئ الكريم أن تأخذ بهذا القدر من الاستدلال … وترضى بهذا التعليل وتسلم لهؤلاء العمالقة بمطلق الرأي.. وتعفي ذهنك من مكابدة البحث

ولك، أيضا، أ ن تنتظر فنسمعك في القرن الواحد والعشرين ما يخالف حدود ظنك ويتجاوز معالم معرفتكº فما نراه في حسان بعد إسلامه غير ما يراه الأصمعي.. فهل لك أن تسير معنا إلى حيث نريد أن نصل بك، فتسمع منا كما سمعت للأصمعي.

ولا أريد أن أعرض لما عرض له الأقدمون من شأن النحل -على شاعر الإسلام- فذلك أمر أرى فيه ما يرتئون وأقبل ما يقبلون،

أما أن حسان شاعر فحل فذلك أمر لا يتمارى فيه ناقد…. ولا يختلف فيه اثنان، يقول عمرو بن العلاء: \" حسان أشعر أهل المضر.. وقال الأصفهاني: \" حسان فحل من فحول الشعراء.. وقد سمع النابغة الذبياني شعر حسان فقال له: إنك لشاعر.. وكذلك شهد الأعشى.

وأنت لو أتيت حسان من أي ناحية أردت لوجدته شاعر… أجاد المدح والرثاء والوصف والهجاء.

ولئن قارنت بين حسان -وهو من المخضرمين - والحطيئة المخضرم، أيضا، قد تجد في الحطيئة جزالة اللفظ، وفخامة العبارة، بيد أنك لن تجد سماحة الطبع ورقة التصوير وأخلاقية الفنº فأين الحطيئة الذي ينضح باللؤم وقذاعة اللسان من شاعر الحق وصوت المصطفى الإعلامي.

وما يعنيني- هنا - مناقشته يطال قضيتين لهما علاقة بشعر حسان الإسلامي، وما يتبع ذلك من قضيتي \" اللين والضعف\" والتي اسميهما أنا خصائص أسلوبية توافق ما يدعو إليه منهج الإسلام.. ولعلك تنتظر مني توضيحا يليق بمقام البحث ويهيئ الذهن لعملية إبداعية في الفهم والاستقبال.

أقول، لعل ما تقوله عن الحطيئة بأنه كان تلميذا لزهير صاحب مدرسة الصنعة وهي مدرسة الفن الخالص في عرفنا.. (وهم أولئك الذين يعتقون الشعر ويثقفونه حتى يخرج إلينا في أبهى حلة بعد عام كامل.. وهؤلاء وأمثالهم أقدر على حسن السبك والديباجة من شعراء النقائض والحروب المطبوعين على سجية المباشرة كما في قضية حسان)

… أقول أن الفن بوصفه فن يقتضي نوعا من الإبداع المطبوع ولا يعقل أن تكون عملية الخلق الصناعي سمة تفرض نفسها على النص،، فالنص المطبوع في عرفنا القادر على التشكل الفطري وفق الحاجات السريعة في أريحية عبقة هو الأقدر على إبراز حالات الصدق ودلالات الانفعال ومهارات الإبداعº ألا ترى أنك تشعر بشيء من الغرابة وأنت تتتبع نصا قضى فيه صاحبه ساعات من التحسين الشكلي ليخرج لك بشيء عرفه القدماء بالتعقيد اللفظي …. وتتهيج مشاعرك وتأنس نفسك لندفق العواطف في شكلها العفوي السادر في ثوب الرصانة المطبوعة التي تريح النفس وتدفع بالنص إلى عالم الأريحية في نص ساقه صاحبه في يسر ورقة دون ركاكة وحوشية

إن ما أخذه النقاد على شعر حسان شيء من هذا الذي ذكرته لك من سماحة الطبع، ورقة التصوير وكان القوم ما زالوا على صلة بجلافة الصحراء وصلافتهاº فظنوا الخير كله في الغريب الصعب.. ولو أنك رجعت معي إلى السر الجوهري في تفضيل عمر لزهير على غيره لعلمت أن الإسلام غير في طباع بعضهم ونشر بين أعلامهم معالم المنهج الجديد فكان وضوح العبارة والبعد عن الحوشي والغريب هو ديدن التنافس وموطن التفوق … يقول عمر - رضي الله عنه -  معللا إعجابه بزهير: لأنه كان لا يعاظل ولا يفحش في القول ولا يذكر الرجل إلا بما هو فيه

هذا هو المعيار النقدي الجديد الذي فرضه دين السماء على طباع القوم فهاجت به مشاعرهم ورضيت بذلك نفوسهم وسمحت دلالات النص عندهم

إذن حسان جزل في جاهليته وإسلامه ولا يعقل أن يكون الإسلام بعظمتهº… الإسلام الذي جاء العرب بكتاب مبين.. فحارت به العقول ووجمت أمامه الطاقات.. لا يعقل أن يكون هذا النمط الكتابي الجديد الذي دعا دهاقنة القوم لوسمه بالسحر والكهانة وما ذلك إلا لبليغ قوله وقوة تأثيره.. ولو نظرنا إلى سمات النص القرآني لرأيناها تخالف القوم في معاييرهم وسمتهمº فقد مال النص القرآني إلى اليسر والوضوح وتمشى مع طبيعة النفس وسجية اللغة فابتعد عن الغريب فكان قريب المأخذ حلو الديباجة متدفق العاطفة قوي التأثير، تنساب موسيقاه عذبة، و تتعانق فيه الفواصل عناقا ينم عن أريحية تحلو وتعلو.. ولم يصدر عن القوم المجبولين على الغرابة إلا إذعان وإعلان لمنهج السهولة واليسر. فاليسر في عبقية التصوير، فن واللين في جمالية التصوير فن ولا حاجة للزعم إن كل سهل مشين وكل صعب رصين.

كان حسان في رأينا من الصنف الثاني الذي رضيه القرآن ولعل حسان قد تأثر بهذا النص الإلهي المنزل العظيم فاقتدى حيث أراد، واقتفى المنهج الوسطي في التعبير

فانظر إليه في سماحة طبعه وحسن تخلصهº حين ينتقل بك من التشبيب إلى ذكر الحبيب:

فدع الديار وذكر كل خريدة *** بيضاء آنسة الحديث كعاب

واشكو الهموم إلى الإله *** وما ترى من معشر متآلبين غضاب

كيف يزعم زاعم أن وراء هذه الرقة وحسن التخلص لين وركاكة وانظر إليه وقد خضعت له عناق الكلم فقادها رضية حيث اشتهى إلى موطن الضرب والصراع:

حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا  قتل النبي ومغنم الأسلاب

وغدوا علينا قادرين بأيدهم  ردوا بغيظهم على الأعقاب

بهبوب معصفة تفرق جمعهم  وجنود ربك سيد الأرباب

لعله من السهل أن يصل بك التقدير إلى تحديد المشهد الذي صوره حسان من قصة الأحزاب وما حل بهم من عواصف وقلب القدور، ولعلي أراك هنا تحث الخطى لتقول بأن ما أوردته لك من السهل القريب المطبوع ولكنني أتحسس مواطن ذوقك فأجدك قد أكبرت هذا الطبع ورضيت من حسان بما أتى ولا أحسب انك ستقول كما قال الأصمعي أن حسان في هذه القصيدة قد خرج عن سماحة الشعر وجزالة اللفظ وأحسب أنك ستقول ما كان للأصمعي أن يزعم زعمه فها أنا ذا أرى في هذا الشعر ما يشنف الأذن وينعش القلب ويقر العين

أرأيت كيف أنني قدمت لك من حسن التعليل ما يثبت لك أن الأمور لا تؤخذ كما أراد لها القوم

وأختم بهذه الكلمات العبقة من شعر حسان في رثاء عمر الفاروق - رضي الله عنهم - أجمعين:

رؤوف على الأدنى غليظ على *** العدا  أخا ثقة في النائبات نجيب

متى ما يقل لا يكذب القول فعله ***  سريع إلى الخيرات غير قطوب

ولعلك تلمز هنا بطرف خفيº تريد أن تذكرني بتلك الآية العظيمة في حق محمد وأصحابه (محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ………)

ولعلك قائل أيضا بأن حسان تأثر بتلك الآية بيد أنني أقول لك أيضا ألا تلمح معي أن حسان قد تمثل منهج الفاروق في خاصيتيه العظيمتين: الصدق الفني والصدق الأخلاقيº فلم يمدح الفاروق إلا بما هو فيه ولم يثقل نصه بأي حوشي أو غريب

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply