مازال الفرات يجري.. قل ماؤه أو زاد.. مازال يدندن أغنية قديمة حفظها من خبر الحياة وأدرك منتهاها.. أراني أهمس إليه.. توقف لحظة دعنا نتسامر كم بنيت عليك من سدود يظنها الناس أنها (روضتك) فاستكنت لواقعك..
فاسمع الإجابة خريراً.. ولكنه الفرات... والماء يحفر الصخر الأصم..!
وتقول موجاته: هدوء النهر وبطء جريانه.. استراحة محارب، فقد ظل آلاف السنين مرعباً مخيفاً، فلا بأس أن يرتاح وسنوات لا تقدم ولا تأخر في شهادة ميلاده وحسن سلوكه.. وسيرته الذاتية فالفرات الذي نعجز أن نخرج له ورقة قيد نقرأ فيها تاريخ الولادة... أو العمر الافتراضي له.. مازال يجري بيد أن هناك كماً من الأوراق التي تحوي ولادة سد هنا وآخر هناك..
والعمر المقدر لكل سد، وما يخلفه من مصائب إذا ما انهار أحدها يوماً!
هذا النهر الذي تولد قطراته من مكان قصي... ويقطع الأميال عابراً الفيافي والحقول.. لتنتهي به المسافة إلى الخليج.. يضرب مثلاً في الهجرة والتجوال... وتوحيد الشعوب.. ولم ينم يوماً... ولو قدر له الحديث لروى قصصاً من الحب والعذاب.. وذكر أمنيات مات دونها أصحابها وردد أسماء.. نعجز عن أن نحصيها.. ولضاقت كل الحواسيب عن استيعابها ومازال يجري..!
لماذا أنت صامت أيها النهر.. كصمت أبي الهول أو أشد صمتاً؟
هل لي أن أحمل معي كأس ماء من عذب مائك معي.. وأشربها بغربتي؟
ولكن كم من كؤوس أحتاج؟. ولكني سأبقى ابن الفرات وإن شربت من النيل أو من سواه!
أصحيح أن الفرات موصوف للذكورة؟ أم أنها أسطورة لفقها من سمعوا بالفرات ولم يسعفهم حظهم أن يشربوا من مائه؟
وادعوها علاجاً!
أرى أن عشقنا لك قد حولنا إلى أطفال رضع، نبكي إن لم يسعفنا حليب الأمهات.
أيها النهر يا صديق العمر... دعني ألقي عليك السلام مفتخراً بأنك كريم أكثر منا، فأنت تمر بمدن شتى، تسقي كل حي.. لا تنظر إلى طبائع البشر الغني والفقير، الأمين والسارق، الصادق والمنافق...
فما حجبت يوماً كأس ماء عن أحد.. ولا فكرت بقطع رزق أرض تعتاش على مائك.. مهما كان أصحابها.. بل من تسقيهم يفعلون.. !
سلاماً أيها النهر، واعلم أنا نحملك في داخلنا... وتجري في دمائنا.. فهل لي أن أودعك أمانة؟!
فهلا أبقيت لي حصتي القليلة من مائك إن طال السفر؟!
وأن يغسلني ماؤك إن غاب العمر!
أظنك لا تبخل..ولكن هل يفعلها البشر..؟!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد