تنطلق المشاريع الثقافية الضخمة من أحلام وليدة، لا تمتلك في البدء سوى الأنين والهمس الذي لا يثير صدى، وما تلبث هذه الأحلام ـ بعد اكتمال رؤيتها حول الواقع المعرفي الممكن للتحقق ـ إعطاء تصوراتها إمكانيات فعلية لتحويل مرحلة الولادة إلى مرحلة فتية تدرك المسار، وتصنع القرار، وتؤسس الخطاب، وتبني المدركات المتسمة بالخصوصية، والمتجهة نحو استقلال مضموني، وإبداع شكلي، إنها خطوة مهمة للسعي نحو تحقيق الذات، وتكوين النهج الثقافي المتميز.
لقد اتسمت جامعة الموصل ذات المسيرة التاريخية والمعرفية الجادة والرصينـة، اتسمت ـ مع مثيلاتها من الجامعات العراقية ـ بمتابعة كلّ جديد، وملاحقة كلّ ما يمنح العلم تطورا ونفعا وازدهارا، وقد قدمت هذه الجامعة إمكانياتها في رفد مسيرة التوجهات العلمية البانية والمحملة بمدركات وتصورات معرفية وثقافية، فضلا عن منح فرص لطلبة العلم من اقتناء موضوعات علمية جديدة تسهم في دفع عجلة التطور، وتغني النهج العلمي المتبع فيها.
إنّ من بين التوجهات العلمية الجديدة في الساحة الدولية الثقافية والمعرفية: ميدان التصور الإسلامي في الجانبين: (الإنساني والعلمي)، ونعني بقولنا ميدان التصور الإسلامي المعاصر: تلك الرؤية المنفتحة والمتفتحة على التوجهات العالمية، دون أي إحساس بالدونية، هي توجه يحاور الآخر، وينهل من حكمته، ويقدم الأنا، ويعلي من تصوراتها، إنها رؤية خالية من (العُقَد)، شمولية، وعالمية، وخُلقية، لا تقيد نفسها إلا بحدود الشريعة، ولا تداهن في تقديم نتاجاتها، غرضها الإسهام في البناء العالمي الحضاري الجديد ـ بعد غياب لعدة قرون ـ، وهدفها تقديم المعطيات الإسلامية التي تحمل خزيناً معرفيا، وتجربة حضارية وإبداعا متواصلا، إنه التصور للحياة وللكون وللإنسان، من خلال رؤية إسلامية كونية، تبدأ مع الوحي، وتعمل بالنص، وتبدع بالعقل.
مرّت جامعة الموصل في ظروف صعبة جداً ـ وكذا الجامعات العراقية كلها ـ من حصار علمي وثقافي ومعرفي فرضته قِوى الجهل والظلام، وقد منع هذا الحصار من إطلاع الجامعة على مستجدات الساحة العربية والعالمية، ومنها نتاجات الأدب الإسلامي، ولم تعرف ذلك إلا من خلال نشاطات رابطة الأدب الإسلامي العالمية / مكتب العراق، إذ بدأ العمل أولا بتشكيل (جمعية رابطة الأدب الإسلامي في العراق) ومقرها الموصل، ثم ما لبثت أن انضمت إلى رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وهي الآن تابعة للمكتب الإقليمي في الأردن، على أمل تشكيل مكتب إقليمي في العراق بعد أن يهدأ الوضع في البلد إن شاء الله - تعالى -، وقد عقدت الرابطة في العراق مؤتمرات عدة عن الأدب الإسلامي ونقده، ومهرجانات شعرية في مناسبات دينية متنوعة، حضرها جمهرة من رواد الأدب الإسلامي في الوطن العربي، وقد حمل المؤتمر الأول اسم: (مؤتمر البردة الأول للأدب الإسلامي)، والآخر: (مؤتمر البردة الثاني للأدب الإسلامي)، والثالث: (مؤتمر الإسراء)، هذا فضلا عن ندوات أقيمت في دار الأرقم للدراسات والبحوث الإستراتيجية التي ينهض بها مجموعة من الفتية اللذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، وجاء اللقاء الأول للأدب الإسلامي في هذه الدار بعنوان: (المناهج النقدية: المثاقفة والممانعة)، ثم ما لبثت أن عصفت بنا الأحداث تباعا من تدمير واحتلال وتخريب وفتن، أدت إلى توقف بعض النشاطات.
وتحمل رابطة الأدب الإسلامي العالمية / مكتب العراق على كاهلها الآن مهمة إقامة محاضرات نصف شهرية، وإصدار مجلة شهرية، ونشرات داخلية نصف شهرية، ومهرجانات شعرية، وأمسيات ثقافية.
ومن النشاطات المهمة التي نهضت بها الرابطة في العراق، تشجيع طلبة الدراسات العليا على تسجيل موضوعات في الأدب الإسلامي المعاصر، ومحاولة توفير المصادر المناسبة التي تعينهم في الكتابة، وقد تمّ ذلك بعونه - تعالى -، إذ تم تسجيل أربعة أعمال أكاديمية في جامعة الموصل حسب، ما بين رسالة ماجستير وأطروحة دكتوراه، ونأمل أن يزداد العدد في السنوات القالبة إن شاء الله، والأعمال الأكاديمية المسجلة هي:
1. الخطاب النقدي عند نجيب الكيلاني، رسالة ماجستير، ديوالي حجي، 2005.
2. الشخصية في روايات نجيب الكيلاني الإسلامية، أطروحة دكتوراه، أحمد طه، 2005.
3. البناء السردي في روايات عبد الله عيسى السلامة، رسالة ماجستير، بان صلاح الدين، 2005.
4. جهود الدكتور عماد الدين خليل في النقد الأدبي الإسلامي، أطروحة دكتوراه، ورقاء البزاز، 2005.
ويمكننا تقديم موجز علمي عن تلك الأعمال، كما يأتي:
تناولت رسالة الخطاب النقدي نتاجات الكاتب والروائي الإسلامي الكبير نجيب الكيلاني بالدرس والتحليل، مقسمة إياها على محاور ومرتكزات منها: ما يتعلق بالمناهج النقدية، ومنها ما يتعلق بالرواية الإسلامي، وأخرى بميزات النص الإسلامي الأدبي، وما هي سمات القصيدة الإسلامية المعاصرة، وقد قدّم لنا الباحث قائمة بأعمال الكيلاني النقدية والإبداعية، ويمكن القول أنّ الباحث قد بذل جهدا كبيرا في استقصاء كل ما كتبه الناقد الكيلاني، وكلّ ما كُتب عنه أيضاً.
ويتحدث العمل الثاني عن البناء القصصي للشخصية في روايات الكيلاني الإسلامية، مقدما تصوراته حول البناء النفسي والموضوعي والفني والواقعي للشخصيات وارتباطهم بالأحداث، وموقعهم في العمل السردي الروائي، بوصفهم ثيمات أساسية في العمل الروائي، وقد قسم الباحث عمله هذا على قسمين: قسم تناول فيه الشخصيات الرئيسة ودورها في بناء الحدث، وتقديم الزمان والمكان، وحوى القسم الثاني الشخصية الثانوية ودورها في تقديم الشخصية الرئيسة، ويمكن وصف هذا العمل الأكاديمي بأنّه مشروع بحث علمي جاد، سيغني المكتبة الإسلامية الأدبية والنقدية، ويغدو محفزا للأقلام البحثية الواعدة من دراسة الموضوع من كافة جوانبه.
أما العمل الثالث فيمارس مغامرة نقدية في ميدان الرواية الإسلامية المعاصرة من خلال رائد من روادها وهو: (عبد الله عيسى السلامة)، ويحاول هذا العمل أن يكتشف سر البناء السردي، وقدرته على تقديم المضمون، بمعنى بيان الآصرة التي تربط الشكل بالمضمون في النتاج الإبداعي الإسلامي، وكما هو معروف فقد شغلت قضية الشكل والمضمون في التنظير والنقد الإسلامي مساحة مهمة، ما بين معارض ومتبنٍ,، لإمكانيات اتحاد الشكل بالمضمون في تقديم الأعمال الإسلامية الإبداعية، في مقابل الأصوات التي تدعو إلى أن يكون الأدب الإسلامي أدب مضمون وحسب، لأنه يتجه في الأساس نحو تبليغ رسالة ذات قصد وهدف، وقد منح هذا العمل الأكاديمي نفسه الحق في التوجه نحو تقسيم منهجه على العناصر السردية المعروفة، لاكتشاف البناء السردي وتقديم معطياته.
ويتجـه العمـل الأخيـر إلى المفكر الإسلامي الكبير، والرائـد في ميدان الأدب الإسلامي (الدكتور: عماد الدين خليل)، الرجل الذي قدّم أعمالاً نقدية وإبداعيـة وتنظيريـة عدة: منها ما يتعلق بفلسفة التاريخ، وأخرى بالعمارة الإسلامية، وأخرى بالفن والموسيقى والرسم والتشكـيل..الخ، وقد قسمت الباحثة عملها على قسمين اثنين: كان الأول منهما لدراسة النقد التنظيري، والثاني لدراسة النقد التطبيقي، ويعد هذا العمل هو الأول من نوعه، إذ تناول بالدرس والتحليل مبدعا من مبدعي الأدب الإسلامي المعاصر، بشكل شمولي ونقدي، ويمكن القول أنّ هذه الدراسة ستضفي ظلالا على الدراسات المستقبيلة التي ستأخذ الدكتور عماد الدين خليل بالدرس والتحليل، لا سيما وأن الباحثة تجهد نفسها في سبيل تقديم قائمة كبيرة جدا من أعمال عماد الدين خليل والدراسات التي كتبت عنه، وهي بذلك تمنح خدمة جليلة لطلبة الدراسات العليا، والباحثين الذين سيقبلون على هذا النوع من الدراسات.
وفي الختام يمكن القول: إنّ التدرج في صناعة الإبداع، هو سنة ربانيـة كونية في الخَلق، وأنّ العجلة نزوة شيطانية، وبذلك ارتسمت معطيات الكون الإبداعي في مختلف الميادين بخطوات وأقسام، يشير كل منها إلى مرحلة معينة، تتسم بإفرازات الواقع المشكل لها، وينهض الأدب الإسلامي في هذا السياق بوصفه ممكنات متحققة في حقل الميدان التخصصي يمتلك رؤية متميزة، ويحمل بطاقات دلالية تنتسب بشكل أصيل لمعطيات موغلة في القدم، وتستند إلى ميراث إسلامي محمل بقيم السماء، وسعادة الإنسان على صعيدي الفن والجمال والرقي السلوكي.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد