خيمة على نهر الأبيض


 

بسم الله الرحمن الرحيم

خيمة

في ليلة واحدة تحول حامد عبد الواحد من طفل إلى رجل.

لم يزدد طولاً ولا عرضاً، ولم تنبت له لحية ولا شوارب، إنما ارتفع سقف تفكيره، واتسعت زاوية الرؤية لديه إلى الإنسان والحياة والكائنات، حتى أصبح شخصا ًآخر.

كيف كان ذلك؟

في صيف عام 1955م التحق حامد بمنظمة إسلامية منذ تأسيسها في جسر الشغور. كان آنذاك بين السادسة عشرة والسابعة عشرة من عمره، وكان من أنشطة تلك المنظمة، القيام برحلات ومخيمات كشفية، مما يستهوي الفتيان والشباب.

في ظهيرة يوم قائظ من أيام ذلك الصيف وجد خمسة عشر فتى أنفسهم يحملون أمتعتهم من طعام وفراش خفيف في طريق غير معبدة، يقطعون ثلاثة كيلو مترات..حتى يصلوا عصراً إلى أرض حصباء رحبة منبسطة بيضاء من نهر الأبيض، الذي يتحدّر من السفوح الشرقية لجبال اللاذقية، شمال مدينة جسر الشغور، ليصب في نهر العاصي، قبل (حمامات الشيخ عيسى)، بعد أن تقلب في أحضان القمم العالية والأودية العميقة، وبين أشجار السنديان والدلب والحور والصفصاف وأدغال الآس، وأخيراً افترش الحصى الأبلق في المنبسط، كما يبسط الأطفال ألعابهم.

في غير فصل الصيف يكون هذا القاع مكسواً بالماء العذب الرقراق.أما الآن فهو ساحة رملية، مزينة بحبيبات الحصى من مختلف الأحجام. حين يحضر الماء من الأعالي يأتي فجأة بلا إنذار، يهدر ويجرف في طريقه كل ما يصادفه من بشر ومن حيوان ومن أشجار. برغم ذلك اختار الفتية من قاع النهر الأجرد.. أخفض بقعة، تتيح لهم رؤية أوسع رقعة من الأرض والسماء.

بمرح وهمة توزع الفتيان الأدوار: بعضهم ينصب الخيمة، وبعض آخر يعدّ الطعام والمنام، كما وضعوا نظاماً للحراسة الليلية: يتناوبون اثنين اثنين كل ساعتين.

 

بداية عمر

بدأت التجليات حين مالت الشمس إلى الغروب. جلس الفتية في حلقة دائرية يتلون القرآن والأدعية، ثم قاموا، فأذن أحدهم، وأدوا صلاة الجماعة. حركات بسيطة، لكنها في نفس حامد رموز ومفاتيح للنظام والانسجام وللتخطيط الهادف. كل ذلك يبدأ بالمتعة الشخصية، ثم يوغل في عالم الأماني، وفي شعاب المستقبل المغيب.

اليوم وبعد ستين عاماً من ذلك الحدث الصغير.. يسترجع حامد مسيرته التي بدأت من تلك النقطة، ولم تتوقف لحظة واحدة.

إنها بداية عمر، تذكر ببداية النبي (يوسف) لما رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين. فدارت الأحداث والأيام، ولقي يوسف ما لقي من إخوته ومن الناس، حتى أصبح (عزيز مصر)، وحتى جاءه أبواه وإخوته إليه ساجدين. أما حامد، فقد لقي كذلك الألاقي، لكنه لم يسجد له أحد، بل أصبح شريداً خارج الوطن كله.

في تلك الرحلة قال لهم عريفهم وهو لايكبرهم في السن كثيراً:

منذ هذه اللحظة تبدؤون حياة جديدة، حياة لا علاقة لها بالماضي. إنها حياة الجدّ والعمل البنّاء. مدوا أيديكم للبيعة على ذلك.

 

حامد مع الليل

وفي ليلة قمراء جاء دور حامد للحراسة، وهو الدور الذي يدخل فيه التاريخ لأول مرة.

وحده حامد مع الليل والقمر والنهر والنجوم وعواء الثعالب من بعيد.

وحده مع الهواء الطلق والمسافات والآفاق غير المتناهية.

وحده مع (الذات) المتصلة بالجغرافية والتاريخ وبنبضات الكون الصامت.

لم يكن حامد قد بات حتى تلك الليلة خارج منزل أهله. لم يكن اضطجع على الأرض بغير فراش صوفي سميك. لم ينفرد مع خمسة عشر فتى في مثل عمره، بعيداً عن الناس والضوضاء ومشاغل الحياة اليومية.

لم يحسّ من قبل أنه إنسان له آماله وأفكاره ومطامحه وشخصيته المستقلة.

لم يسبق له أن اتخذ قراراً يخصه وحده.

إنه الآن يرسم في مخيلته مستقبلاً لنفسه ولأسرته ولبلده ولقطره ولمجتمعه وللإنسانية جمعاء. هكذا دفعة واحدة.

هل هكذا يفعل الراشدون؟

لا يهم. أنا أشعر هذا الشعور، وأنا حاضر الذهن والوعي، مستنفراً كل خلايا الإحساس والتفكير، والرضى النفسي العميق، ببهجة، باطمئنان، بتفاؤل، بإقدام لا مثيل له.

سوف أقطع علاقتي بالماضي، بالمراهقة، بالتحرش بالبنات، بنظم الأشعار الغزلية، بالغيبة، بالنميمة، بتشتت الأهواء والأفكار، بالخضوع لمؤثرات المذاهب الغريبة، بالاستسلام إلى العادات والتقاليد البالية، بالثورة عليها ثورة هوجاء، لا تميز بين الصالح والطالح. إنني أمسك في كلتا يدي بمعيار واضح، بفرقان يرسم الطريق، ويفرز بين العناصر والمكونات فرزاَ بصيراً راشداً: لا قلق. لا مراوغة. لا استهتار.

أحسّ بالنجوم والقمر والنسيم العليل البليل والأشجار والحصى وبعواء الثعالب البعيد كلها تتحدث معه، تؤمّن على قراراته بانسجام كوني، وصفاء هادئ لا حدود له.

ما أروع أن ينسجم الإنسان مع فطرته، ومع الكائنات الطرية؟!

 

ميلاد جديد

ما أمتع أن يولد الإنسان من جديد، ولادة يحس بها إحساساً حميماً؟!

في هذه الولادة صار للأشياء طعم جديد، معنى جديد، دلالات جديدة.

النهر الذي يحتضن في قاعه الفتيان.. هو أشبه بالحياة التي تبدأ من نقطة محددة، ثم تنتهي إلى نقطة محددة. نقطة تتجمع فيها مع نقاط أخرى، فتصبح ساقية، الساقية تصبح جدولاً، الجدول يغدو نهيراً، النهير يصب في النهر الكبير، النهر الكبير يصب في البحر، البحر يتصل بالمحيط، المحيط يتصل بالمحيطات، المحيطات تحيط بالكرة الأرضية، الكرة الأرضية جزء من الكون كله، الكون كله خلق من خلق الله.

وهكذا الحصى الأبيض اللامع، والنجوم المتألقة، والأشجار الوارفة، والثعالب العاوية، والبشر والكائنات، في صفحة الوجود الواحدة الموحدة.

أيّ سرّ يربط بين هذه الكائنات، فتغدو أسرة واحدة، تسبح بربّ واحد، وتتجه إلى اتجاه واحد؟!

هل هذه صوفية؟؟

لا تهمّ الأسماء ولا المسميات. المهم: الإحساس. الصدق. السعادة.

لما عاد حامد من حصة الحراسة إلى النوم، لم يعد ليمارس عادة مألوفة، لإشباع حاجة لا غير. إنما عاد ليؤدي دوراً، أو جزءاً من الدور الذي يؤديه الحارس خارج الخيمة، يقظة في النوم ونوم في اليقظة، يستأنف بعده في اليقظة دوراً، وهكذا دواليك يحيا من جديد. لذلك يبدأ بدعاء النوم، ثم يتلقى راضياً عالم الأحلام الواعدة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply