السوق السوداء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 - 1 -

في ديوان رياسة الوزراء بتونس، رئيس الوزارة مصطفى الكعاك يستقبل في مكتبه السيد مختار القاسمي رئيس (لجنة الإسعاف التونسية) لتخفيف المجاعة.

 

الكعاك: مرحباً بم يا بني، إنك من أبناء البيوتات الكريمة في تونس ولذلك أوليتك شرف مقابلتي في مكتبي الخاص.

 

مختار: شكراً يا دولة الرئيس إنك استدعيتني فحضرت تلبية لأمرك.

 

الكعاك: أجل ولكني لا أستدعي كل من هب ودب لمثل هذه المقابلة إنما يحضر عندي هنا فخامة المقيم العام ورؤساء المصالح وبعض العلية من الفرنسيين ومن الفرنسيات أيضاً، ولكن معظمهن يزرنني في بيتي، ومعهن أزواجهن أو أصدقاؤهن طبعاً..حذار أن يجول غير هذا في خاطرك كلهن من أرقى طبقات المجتمع الفرنسي في هذا البلد..مثال الجمال والأناقة وخلاصة في الثقافة والتهذيب.. أتدري فيم يتحدثن؟

 

مختار: (بجفاف) لا يا سيدي.

 

الكعاك: عن بودلير وجورج صاند وفرلين ورامبو وأمثال هؤلاء ومن حسن حظ تونس أن رئيس وزارتها يستطيع أن يساجلهن في ذلك كله، فيندهشنَ مني ويعجبن بلغتي الباريسية.. ألا تعلم أنني أتكلم بالفرنسية كأحد أبناء مدينة النور؟

 

مختار: (متضايقاً) هذا عظيم يا صاحب الدولة.. ألا تخبرني.

 

الكعاك: هل تحب أن أكلمك بالفرنسية؟ إنك تعرفها طبعاً.. تخرجت من كلية الحقوق بباريس أليس كذلك؟

 

مختار: نعم ولكني أفضل أن تكلمني بلغة البلاد، وأن تخبرني عن سبب استدعائي.

 

الكعاك: أجل.. أجل.. أريد أن أكلمك بصدد لجنة الإسعاف التونسية.

 

مختار: ما بالها يا سيدي؟

 

الكعاك: هل تعلم أن جلالة الباي غير راض عن تأليف هذه اللجنة؟

 

مختار: لم يا سيدي.

 

الكعاك: قد بلغه أنها أنشئت للقيام بدعاية الباي محمد المنصف.

 

مختار: هذا افتراء على اللجنة من قوم لا خلاق لهم.

 

الكعاك: من ذا تعني؟

 

مختار: أعني الذين قالوا ذلك لجلالة الباي كائنين من كانوا، إن اللجنة إنما تقوم بعمل إنساني محض، ولا شأن لها بالسياسة البتة، وإني لعلى استعداد أن أمثل بين يدي جلالته لأثبت له هذه الحقيقة، فهل لك يا سيدي أن تيسر لي هذه المقابلة السنية؟

 

الكعاك: إني لا أرى ما يدعو إلى ذلك.

 

مختار: ولكن اللجنة ترى من واجبها أن تطلع جلالة الباي على حقيقة أمرها، لتدفع عن نفسها تلك الشبهة، وما يخامرني شك أن سيدي محمد الأمين سيكون أول من يشجع هذا العمل الإنساني المحض.

 

الكعاك: كلا يا بني.. لا داعي إلى ذلك البتة.

 

مختار: لا ينبغي أن ندع مليكنا يظن بنا ما ليس بحق.

 

الكعاك: لا تخف.. إن جلالته لن يمس لجنتكم بسوء، مهما كان رأيه فيه، أستطيع أن أؤكد هذا لك.

 

مختار: لكن يهم اللجنة كثيراً أن تصحح رأي جلالته عنها حتى يشملها برضائه السامي.

 

الكعاك: كلا لا سبيل إلى ذلك، فلابد لمقابلة الباي من إذن خاص من فخامة المقيم العام.

 

مختار: فليكن ذلك بإذنه.. يستطيع سيدي أن يستأذن لنا فخامته في مقابلة جلالته!

 

الكعاك: (متأففاً) يظهر أنك تريد أن توقعني في ورطة، ليغضبن المقيم على أن فعلت.

 

مختار: عجباً.. لماذا؟

 

الكعاك: إن فخامته يستنكر هذه اللجنة، ويعدها عملاً عدائياً موجهاً ضد الحكومة.

 

مختار: وهل جلالة الباي يرى مثل هذا الرأي؟

 

الكعاك: لا شأن لك بجلالة الباي.

 

مختار: لكنك أخبرتني آنفاً أن جلالته..

 

الكعاك: انس الآن كل ما قلته عن جلالته.. المهم هو رأي فخامة المقيم.

 

مختار: لا يهمنا رأي المقيم الفرنسي، بقدر ما يهمنا رأي مليك البلاد!

 

الكعاك: أنصحك أن تبتعد عن هذه المزالق، فما أظنك تجهل من يملك النفع والضر في هذه البلاد رجل رحيم القلب، ولكنه مضطر بحكم منصبه إلى اتخاذ الصرامة في كبح جماح الحركات الثورية، فعلينا معشر التونسيين ألا نستفزه إلى ذلك.

 

مختار: لكن أعمال اللجنة ليست ثورية، وليس فيها ما يستفز غضبه.

 

الكعاك: هذا رأيك أنت، أما هو فيرى أن اللجنة تتخذ جمع الإعانات لتخفيف المجاعة ستاراً تبث من ورائه التحريض ضد الحكومة، ودعوة الأهالي إلى الثورة، وأن للحزب الدستوري الحر يداً في توجيهها.

 

مختار: هذا غير صحيح، إنني أتحدى من شاء أن يثبت أن لمشروعنا الخيري المحض أي صلة بالحزب الدستوري، أو أن له أي صبغة سياسية.

 

الكعاك: أو ليس الحبيب أبو رقيبة والسيد محيي الدين القليبي هما اللذان أوعزا من مصر بتأليف هذه اللجنة؟

 

مختار: سبحان الله.. ألا يمكن أن نقوم بعمل إنساني كهذا لتخفيف المجاعة القاسية في بلادنا إلا بإيعاز من مصر؟

 

الكعاك: ألا تعلم أن هذين الرجلين يحبذان لجنتكم ويقومان لها بدعاية في مصر؟

 

مختار: من أين لي علم ذلك والحكومة تحظر دخول الصحف العربية إلينا، والرسائل كلها خاضعة للرقابة كدأبها في أيام الحرب؟

 

الكعاك: يجب إذن أن نعترف أنك لا تقدر أن تدفع هذه التهمة.

 

مختار: وما ذنب اللجنة إن أيد هذان الرجلان أو غيرهما عملها الإنساني؟

 

الكعاك: إنهما لا يؤيدان إلا كل عمل عدائي ضد الحكومة.

 

مختار: ولكن عملنا ليس عدائياً ضد أحد، ونحن مستعدون أن نطلع الحكومة على قانون اللجنة الخاص بتأليفها وأغراضها.

 

الكعاك: لن يقتنع فخامة المقيم بذلك، والسبيل الوحيد لنفي الشبهة عنكم هو أن تحلوّا اللجنة.

 

مختار: كلا لن نحلها بأيدينا فإن شاءت الحكومة حلها بالقوة فلتفعل، ليشهد العالم كله أن في الدنيا حكومة متمدنة تعد إسعاف المنكوبين في بلادها جريمة توجب العقاب.

 

الكعاك: فاستقل أنت من رياسة هذه اللجنة المشبوهة.. أقبل نصيحتي خير لك.

 

مختار: يؤسفني أنني لا أستطيع قبول نصيحتك.

 

الكعاك: هأنذا قد أنذرتك فإن أصابك سوء فلا تلومن إلا نفسك.

 

- 2 -

 

السيد مختار في منزله، وعنده أحد دلالي الحبوب.

 

مختار: كم جمعت لنا يا محمود؟

 

الدلال: ثلاثين قنطاراً.

 

مختار\" ثلاثين فقط؟

 

الدلال: هذا كل ما استطعت جمعه الآن بعد جهد جهيد، إن القمح لا وجود له في هذه الأيام، وكل من عنده شيء منه يخفيه ولا يفرط فيه.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply