بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
هل أبدأ بالأدب العربي كأنموذج للذاتية العربية الأصيلة والعميقة في معاني الروح التي نفخت فيه! أم أبدأ بالحديث عن الحزن كظاهرة في الأدب العربي بكافة مجالاته وفي الشعر بشكل خاص وإعطائه تلك النكهة الخاصة؟
إذًا ليكن حديثنا عن الشاعر نفسه وما دفعه إلى الالتحام مع الحزن وصيرورته كتوأم روح لا ينفصل ولا ينفك عنه إلا في الحالات القلائل..
فلا تكاد تقرأ ديواناً سواء للقدماء من الشعراء أو لحديثهم إلا وقد رسمت غيمة الحزن والصبابة والفراق والألم على صفحات كتابه..
والغريب في ذلك هو ميل النفوس والأذواق إلى هذا النوع من الموسيقى الروحية وربما كان الاتجاه إلى التنفيس عن الرغبة الداخلية في بعض الأحيان اتجاهًا خاطئًا أو خائنًا أو عاجزًا في التعبير للعامة من الناس فيدفعهم ذلك إلى البحث عن عامل مشترك بين الأرواح الغريبة!
ذلك أن الشاعر نادرًا ما يكون خارجًا عن دائرة الأحزان والظروف المهيأة لها
فغالب الشعراء نشأوا إما أيتاما أو فقراء أو مغتربين عن البلاد أو مهجرين قصرًا، أو عاشقين لعشرين فتاة.. يقل أو يزيد عن ذلك، ولا يجد بعد ذلك حظًّا مع إحداهن!!
لذلك هو أصدق ما يكون في شاعريته وفي كلماته وحتى في تلويحه يديه ولغة عينيه أعمق وأعمق..
فالأصالة والصدق تعيش دهورًا لتتحدى كل زيف أو نور باهت..
لقد عانيت كثيرًا وأنا أبحث عن لغة الحزن في الشعر العربي لا لقلتها بل لكثرة ما وجدته.. فذاك ينعى نفسه، وذاك ينعى وطنه وحظه، وذاك يفضل الموت على الحياة إذا ما اشتد نصبه وآخر ينتظر.. وماذا ينتظر؟!
والأجمل من ذلك حين يسابقك الشاعر إلى طبيب قد يعالج بعض ما يؤلمك فينوب لسان أحمد مطر عنك ليقول:
جس الطبيب خافقي وقال لي:
هل هاهنا الألم؟
قلت له: نعم
فشق بالمشرط جيب معطفي
وأخرج القلم!
هز الطبيب رأسه.. وابتسم
وقال لي:
ليس سوى قلم!!
فقلت: لا يا سيدي
هذا يدُ... وفم!
رصاصة... ودم!
وتهمة سافرة... تمشي بلا قدم!!
بل وتكفي الإشارة وربع السطر هذا ليجسد ما يعانيه الشعراء حين سأل أحدهم ماذا يريد أن يكتب له بعد الوفاة على شهادة قبره فقال:
وصيتي إذا مُتّ أن تكتبوا على شاهدتي: "هنا يرقد جبر.. من بطن أمه للقبر"!
وآخر يشكو من يعذله فيقول:
لا تعذليه فـإن العذل يُولِعُه
قـد قلت حقـاً، ولكـن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حداً أضر به
من حيـث قدرتِ أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيـبه بــدلاً
من عذله، فهو مضنى القلب موجعه
قـد كان مضطلعاً بالخطـب يحمله
فـضيِّقت بخطـوب الدهـر أضلعــه
يكفيه من لوعة التـشـتـيت أن له
من النوى كـلَّ يــوم مـا يـروّعـه
ويختم قصيدته بهذه الأبيات:
لأصـبـرن لدهرٍ, لا يـمتـعـنـي
بـه، ولا بـي فـي حالٍ, يمتعه
علـماً بأن اصطباري مُعقبٌ فرجاً
فأضـيق الأمر إن فكـرت أوسعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقـتـنا
جسمي، ستجمعني يوما وتجمعه!!
لقد جسم الشعراء الصراخ في الصمت والحياة في الموت، ولهذا يعبر مثلاً الشاعر جبران خليل جبران عن بعض الغموض الذي يعيشونه في قوله:
سكوتي إنشاد، وجوعي تخمة
وفي عطشي ماء، وفي صحوتي سكر
وفي لوعتي عرس وفي غربتي لقاء
وفي باطني كشف وفي مظهري ستر
وكم أشتكي همًّا وقلبي مفاخر
بهمي وكم أبكي وثغري يفتر
وكم أرتجي خلا وخلي بجانبي!!
كما وإن الشعراء يتمتعون بنظرة مختلفة للأشياء الحسية والمتعارف عليها
فالأرقام مثلاً تختلف لدية فالواحد يمثل الوحدة والفراق، والاثنان يجسد اللقاء وهكذا تختلف الصور والإيحاءات..
فهاهو الشاعر الكبير بدر شاكر السياب رغم أنه قد حفر قبره بنفسه معتبرًا أن اللحد أوسع من ذلك الشبر الذي نوضع فيه كلنا عندما ينتهي العمر، بل إن الموت عنده بداية التكوين، والغاية عنده هي أن نجد المبرر للحياة لا للموت، وهكذا نجده يعالج ثنائية العلة والمعلول، المطر والحزن، الأمل واليأس، الحب وأشياء أخرى، حتى إنه رغم حبه لما يزيد عن 20 فتاة ينفي أن واحدة منهن قد أحبته!
كشاعر مأساوي رحل مع العوز والفقر والمرض والاحتراق السياسي دون أن ندرك سر مأساته الحقيقة سوى حبه لجيكور تلك العامرة بأشجار النخيل التي تظلل السهول النائمة وتردد فيها الحمائم ألحانها..
وبهذه المحنة تنتهي دائمًا حياة الشاعر العربي لتولد من جديد في الأجيال القادمة من بعده!!
ولكن هل ينتهي الحزن هكذا.. دون بصيص نور أو أمل؟ ربما!!
ولشاعرنا المذكور أعلاه سعة في الأفق ونظرة يتميز بها صاحب الحس المرهف، ليخرج من دائرة الحزن والألم إلى دائرة الفأل والعالم الأوسع..
لقد صور لنا أيام حياته الأخيرة المثقلة بالمرض بأبيات تنتفض لها السكنات، وهو يصور الرزايا بأنها عطايا!!
لكَ الحَمدُ مهما استطالَ البلاء
ومهما استبدٌ الألم
لكَ الحمدُ إن ٌ الرزايا عطاء
وإنٌ المَصيبات بعض الكَرَم
ألم تُعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟
شهور طوال وهذي الجِراح
تمزّق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى.
ولكنّ أيّوب إن صاح صاح
لك الحمد، إن الرزايا ندى
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمٌ إلى الصدر ِ باقتها
هداياكَ في خافقي لا تَغيب
هاتها... هداياكَ مقبولةُ
أشد جراحي وأهتف
بالعائدين
ألا فانظروا واحسدوني
فهذى هدايا حبيبي
وإن مسّت النار حرّ الجبين
توهّمتُها قُبلة منك مجبولة من لهيب.
جميل هو السّهدُ أرعى سماك
بعينيّ حتى تغيب النجوم
ويلمس شبّاك داري سناك.
جميل هو الليل: أصداء بوم
وأبواق سيارة من بعيد
وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد
أساطير آبائها للوليد
وغابات ليل السٌّهاد، الغيوم
تحجّبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر
وإن صاح أيوب كان النداء
لك الحمد يا رامياً بالقدر
ويا كاتبًا بعد ذاكَ الشفاء
قد نفهم ما يقولونه حينًا، ولكن في غالب الحين لا نفهمه غير أنا نستمتع لمجرد نكهة الحزن والعذاب!! بل ونحفظ عن ظهر غيب بعض قصائد "القصائد حتى لو لم نعرف وجوه كاتبيها.. ويظل السر في روعة أنغام الحزن وانتصاره على طبول الفرح.. هو ما أودعه الله في الإنسان من حاجته إلى الحزن!! فأبينا آدم - عليه السلام - حين وصف الله له الجنة بأن يعيش فيها بلا نصب ولا جوع ولا شقاء ولا حزن.. كانت النهاية بعد اختباره أن انزل إلى الدار الدنيوية، واختير له أن يعيش فيها، ليبدأ صراعه مع الشيطان والنفس والأحزان!.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد