أيتام .. في عالم القسوة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
في ذلك المساء، وقفت أنهرهم كالعجائز، قلت لهم: أليست لكم قلوب؟! هذه جراء مسكينة، وبكيت «كانت الجراء تنبح أيضاً، إنها يتيمة لو كانت لها أم لحمتها من أيدي أولئك الصبية، ستنبح في وجوههم فيركضون كالفراخ المذعورة.

وفي ذلك المساء عدت إلى منزلي مجروحة القلب، الأيتام يملؤون قلبي وجعاً، نظراتهم المنكسرة تهزني، تجعلني أتكور على نفسي تسحبني إلى دركات معتمة..

(كم أنتم صغار، وكم أنتم متعبون.. ) لماذا لا تبكون في وجوه الناس؟ من علمكم الصمت أيها الصغار؟! من جمد هذه العيون وأفرغها إلا من أحزانها؟

إنني أراهم مرة تلو أخرى في الشوارع والحدائق وقرب أبواب المطاعم، يتشممون الروائح وينتظرون بقايا الأطعمة أو فضلات الأثرياء النقدية.

 

هم حفاة أقدامهم تشبه أقدام أبي، معروقة وجافة وسميكة الجلد.. ثمانون عاماً شكلت أقدام والدي فكيف فعلت بهم ذلك أعوامهم القليلة؟!..

 

إنهم متسخون أيضاً، هم أيتام بلا ريب، لا أم تترك أطفالها يلهثون في الشوارع عراة وحفاة وجائعين، إنها تطعمهم من قلبها هكذا هي الأم.

 

أما أولئك الصبية فهم كتلك الجراء غير أنهم لم يبقوا قادرين على البكاء لقد نضبت دموعهم وأضحت عيونهم متسخة، بقاذورات قساة القلب، أحدهم يرميهم بنظرة ازدراء، وآخر يعاملهم كما لو كانوا أكبر النصابين، سمعت أحدهم يقول ذلك:

- أنتم تبتزوننا..

نعم هكذا قال لطفل صغير يشبه طفله إلا أن هذا يتيم ومسكين.. إنه متسخ وحاف، لذا استحق منه تلك النفايات يلقيها في أذنيه.. في عينيه في قلبه الصغير.. ويوسخ جوهرة روحه..

- أنت أليس لك طفل مثله؟

هكذا صرخت في وجهه، كنت أريد أن أمرغ أنفه تحت أقدام ذلك الصغير، (إن قدميه أطهر وأنظف من قلبك).. بصقت على ملابسه النظيفة وحذائه الصقيل، وبكيت.. لم أستطع الامتناع عن البكاء... إنهم قساة، وأولئك صغار ومتعبون. لقد كرهت ملابسنا النظيفة وأحذيتنا التي نستبدل بها كل شهرين أخرى، كرهت مائدة الطعام التي نأكل عليها، وكل الأشكال المبهرجة كحياتنا المتسخة من الداخل.

 

اكسر مرآتك وانظر إلى نظافة وجهك في وجوه أولئك المشردين. هناك ستحصل على قلبك.. متسخاً وجافاً.. هم قلوبنا أولئك الصغار الحزينون.

لو كان لك طفل بينهم أكنت تستطيع أن تأكل وتلبس وتنام؟ هم أطفالك.. من قلبك لا تبصقهم في الطريق، لأنهم لا يشبهون صغارك.. قد يكونون هم وأنت لا تعلم.. أو ربما سيكونون مثلهم عندما تغيب عنهم يوماً... ويصبحون أيتاماً.. أيتام الأم والأب والقلوب الرحيمة والوطن الدافئ والآمن.

 

في ذلك المساء كنت أصرخ في وجوه الصبية وأبكي.. كم هو مؤلم نباح الجِراء، جراء البشر.. صغار ومتعبون.. رأيتهم يقلبون (الكراتين) الفارغة وينامون تحتها.. يستمدون من حضنها الدفء والأمن والنوم، وإن كان بارداً، حينها رأوني وأنا أبكي.. ولأول مرة رأيتهم يبكون ويبكون.. كانوا يطهرون العالم بدموعهم بينما هو يوسخهم كل يوم.. وكانوا يبكون كأقمار صغيرة، وينزفون دمعة ضوء حزينة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply