بسم الله الرحمن الرحيم
صوت قادم من داخل الأزهر الشريف يقول إن هذه المؤسسة الدينية العتيدة التي حرست الدين الإسلامي واللغة العربية طيلة ألف عام ويزيد قد انتابها الضعف..وإن هذا الضعف مرده إلى أسباب من داخل المؤسسة وأسباب من خارجها..وإنه لا بد من تلافي عوامل الضعف هذه حتى ينطلق الأزهر إلى دوره التاريخي المنشود. هذا الصوت الجريء هو صوت الشيخ جمال قطب أمين عام الدعوة والأعلام بالأزهر سابقاً من خلال هذا الحوار.
* الأزهر كمؤسسة دعوة له طبيعة خاصة.. فما هي هذه الخصوصية طالما أنه ليس في الإسلام سلطة دينية؟
** إن المؤسسات تنشأ في العالم كله إما بقرار سياسي أو بخبرة تاريخية أو بتقليد لمجتمع آخر، وقد وردت آيات في القرآن تفرض أن تكون هناك مؤسسة دينية ليس بمعنى الوساطة في العلاقة بين العبد وربه ولكن كمؤسسة دعوة ومنها قوله - تعالى -: [فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون]. فالآية تدعو إلى إيجاد فئة متخصصة يكون عليها أن تتخذ لها مكاناً تلتقي فيه، كما أن قوله - تعالى -: [ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم].. هذه الآية تفرض أن ينشأ في المجتمع مؤسسة ترعى شئون الدعوة.. فلا بد أن يكون هناك مجمع أو ملتقى أو مؤسسة تجمع من لهم قدرة على الاستنباط الذي هو دراية بما نزل من السماء ودراية بواقع الناس. ولما نزل قول الله - تعالى -\'اقرأ\' كان أمراً للتعليم، والتخطيط للتعليم والبرمجة له، وكل ذلك يحتاج إلى مؤسسة ليس لها سلطة على الناس إلا بالمقدار الذي تنظم به عملها مع العاملين فيها.. لكن لا أحد في هذه المؤسسة الدينية يملك رقاب الناس ولا يتوسط بين العبد وربه، ولذلك فقد ميز الإسلام بين فتوى الفقهاء وحكم القاضي.. فحكم القاضي ملزم أما فتوى المجتهدين فغير ملزمة إلا لمن يقتنع بها ويريد أن يتفاعل معها.. وكذلك الحال بالنسبة للمؤسسة الدينية فهي موجودة ولكن ليس لها حكم.
* تأسيسا على هذا الكلام.. هل المسجد مؤسسة؟
** المسجد ليس مؤسسة، بل فرع من الفروع التي تتبع مؤسسة الدعوة وتنظر في أصول الفقه وواقع الناس. كما أن مؤسسة الدعوة ليست قاصرة على إقامة الصلاة وجمع الزكاة أو التنبيه إلى ذلك. إن الناس حينما يتعرضون للأزمات يقولون تخلى الأزهر عن دوره ويضيفون: إن المسجد هو الذي قاوم نابليون وهو امتداد لدار التشريع وملتقى رسول الله والصحابة.. الخ. لكن ينبغي أن ندرك أن هذا الدور كان دوراً تاريخيا وليس أمراً إسلاميا، لأنه لم تكن هناك بنايات ينعقد فيها مجلس أركان القوات المسلحة الإسلامية، وإنما كان المسجد هو المكان الوحيد المتاح والذي كان يتسع لأعداد كبيرة. واجتماع مجلس الحرب في المسجد لا يعطيه مشروعية أن يكون هو المسئول عن التخطيط للحرب والدعوة وإنما يؤول ذلك إلى مؤسسات أخرى بحكم الزمن يتفرغ لها قوم بشروطهم. وما كان عليه الأزهر زمن نابليون ليس من أصول الإسلام وإنما هو أمر تاريخي وجد الأزهر نفسه مسئولا عنه لعدم وجود من يتحمل هذه المسئولية فتقدم الأزهر لتعويض النقص القائم. وقد رأى الناس في الأزهر منذ ألف سنة وإلى الآن أنه مؤسسة ضرورية لا غنى لهم عنها، وهم يطلقون عليه الأزهر الشريف، وهو يستمد هذا الشرف من قيامه على إبلاغ كلمة الله. وقد وثق الناس في الأزهر والتفوا حوله حينما قادهم للتصدي لنابليون وجعله لا يستطيع البقاء في القاهرة سوى سبعة أشهر ثم انسحب بعدها وترك الأمر لكليبر فقتل، وتسلم الأمر مينو فاضطر أن يعلن إسلامه لكي يتمكن من الرحيل بحملته. لذلك أدرك الاستعمار أنه طالما ظل الأزهر قائما بدوره فلن يتمكن من تحقيق أغراضه فوضع خططه لتفريغ الأزهر سياسياً بإنشاء مؤسسات تقتطع وظائفه أو بعضها وإيجاد مؤسسات تعليم وتثقيف أخرى تصرف الناس عنه، وقد كان هذا هو بداية الانحراف في تاريخ هذه المؤسسة.
* طالما كان الاستعمار الإنجليزي هو بداية إضعاف الأزهر، فما هو الدور الذي قام به للوصول إلى هذه الغاية؟
** حينما جاء الاستعمار الإنجليزي ورأى قوة الأزهر في صده ومواجهته اكتشفوا أن الأزهر مؤسسة دعوة كاملة تربي التلميذ وتوظفه وتتابعه، وتعمل على ترقيته فكراً وسلوكاً، فقالوا لابد أن نقطع هذه الحلقات. وبعد أن كانت المساجد في مصر ينفق عليها من أوقاف أصحابها، ويقوم شيخ الأزهر بإدارتها واعتماد مشايخها، ابتكر الاستعمار الإنجليزي منصب وزير الأوقاف ليتدخل في شؤون الدعوة، كان ذلك عام 1913، واحتج المعتمد البريطاني في مصر في ذلك الوقت \' كوتشنر\' [انه يجب أن تدخل إيرادات الأوقاف في رصيد الحكومة من أجل سداد أقساط الديون]، وبعد أن كان وزير الأوقاف محاسباً للإيراد والمصروف فقط أصبح متدخلاً في شؤون الدعوة، يعين الدعاة ويعزلهم، بينما شيخ الأزهر يقوم فقط بإعداد الداعية أكاديمياً، ولا يستطيع أن يوظفه أو يرقيه أو يتابعه، لأن ذلك كله أصبح يدخل في نطاق دور وزارة الأوقاف. وهكذا تقطعت المؤسسة الدينية إلى أجزاء، ووجد شباب الدعوة أنفسهم أحراراً في أن يفتوا، فتفسخت المؤسسة الدعوية وانفرط عقد الأداء.
ومن جهة أخرى تم العمل على قيام الجامعة الأهلية كمؤسسة تعليمية منافسة للأزهر تحت إشراف وزارة التعليم. وهكذا تم إجهاض قدرة المؤسسة الدينية على تثقيف الناس وتوجيههم وإعداد الدعاة وتوظيفهم. وعندما نجح الاستعمار في زرع منصب وزير الأوقاف في قلب الأزهر لمزاحمته وتفريغه من محتواه، فكروا في منصب آخر لم يكن له وجود حينذاك، وكان يساوي منصب المحامي العام، ألا وهو منصب المفتي. فقد كان القضاء في مصر شرعياً حتى الأربعينات من هذا القرن وكان من نظامه أن يقوم بتجهيز القضية نائب رئيس محكمة ودرجته تسمى \'مفتي\'.. فإذا كانت الخصومة ظاهرة من النصوص فإنه يفتي فيها ويحفظها. أما إذا كانت فوق ظاهر النصوص وتحتاج إلى إعمال عقل أحالها إلى المحكمة. وكان لكل محكمة ابتدائية مفتي، ويكون مفتي محكمة الاستئناف هو مفتي المحافظة.. فقد كان في كل محافظة محكمة استئناف، وكان نائب رئيس المحكمة الشرعية العليا هو مفتي الديار، ولا عمل له إلا الإفتاء في الأحكام القضائية فقط مع توليه أمر الإشهاد الشرعي وهو مثل التسجيل في الشهر العقاري الآن. وجاء الإنجليز بالشيخ محمد عبده مفتيا ومارس الدور بدعوى أن العلماء الأزهريين في حالة جمود وبحجة أنه يستطيع إيقاظهم وتحريكهم، إلا أنه اكتشف بذكائه أنهم جاءوا به ليس لتطوير الأزهر وإنما لكي ينازع الأزهر اختصاصه ولإيجاد مشروعية للدولة في ألا تأخذ برأي الأزهر.. وحينما اكتشف الشيخ محمد عبده ذلك استقال.. وهي معلومة يتعمدون إخفاءها في سيرة محمد عبده.
* لكن ما الضرر الذي أصاب دور المؤسسة الدينية من القيادة ثلاثية الأطراف [شيخ الأزهر وزير الأوقاف المفتي]؟
** الضرر جسيم ومحقق، فالقيادة الشرعية لهذه المؤسسة الدينية هي لشيخ الأزهر.. ولو انفرد وحده بقيادتها وعادت إليه أوقاف الأزهر لتخلصت هذه المؤسسة من كثير من أوجه الضعف التي تعتريها. إن الاستعمار حينما أوجد منصب وزير الأوقاف والمفتي لينازعوا شيخ الأزهر اختصاصه أخذ يخيّل على الناس أن المناصب الثلاثة متساوية، وهذا أدى إلى أن يسأل البعض دار الإفتاء ويرضي بفتواها ولا يرضى بفتوى الأزهر. إن المفتي موظف لدى وزارة العدل، ودار الإفتاء إدارة من إدارات وزارة العدل. وللأسف أدى ذلك إلى ظهور الجمعيات الإسلامية مثل الجمعية الشرعية وأنصار السنة وغيرهما بمالها من مساجد خاصة، ثم ظهور الجماعات الإسلامية، وكل يفتي على هواه بلا ضابط بعد أن كان رائد الجميع وموجههم هو شيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء. كما جاء منصب وزير الأوقاف ليسلب اختصاصات شيخ الأزهر المالية والإدارية وأصبح هو المسئول عن مرتبات الدعاة وتعيينهم ولم يعد شيخ الأزهر يملك إلا تربيتهم فقط.
* هل هناك أمور أخرى ساهمت في إضعاف دور الأزهر كمؤسسة دعوية؟
** سوء المناهج الدراسية وتضخمها وعدم الاهتمام بحفظ الطلبة للقرآن الكريم كل ذلك كان له تأثير سلبي على مستوى الدعاة فانخفض هذا المستوى إلى حد كبير وخطبة الجمعة شاهد على ذلك. كما أن فتح الأزهر لكلياته العملية كان فيه من الشر أكثر مما فيه من الخير.. فحينما يدخل طالبان الأزهر ويتخرجان ويصبح أحدهما شيخا ًيتقاضى مائة جنيه وليس له أعمال إضافية تزيد دخله.. ويصبح الآخر طبيبا يتقاضى مائة وخمسين جنيها وله عيادة وأعمال إضافية كثيرة... كل ذلك عمل على أن يترك المتفوقون حقل الدعوة ويفضلون التخصص العلمي.. وهكذا حرمت الدعوة من المتفوقين والمبدعين ولم يبق لها إلا نسبة من قليلي الذكاء.. قليلي الحفظ.. قليلي الطموح الذين يذهبون إلى كليات الدعوة والشريعة وأصبحوا هم المدرسين والخطباء.
* كيف يمكن الخروج من هذا المأزق وتفعيل دور الأزهر مرة أخرى؟
** لا بد أن تعود مؤسسة الأزهر إلى طبيعتها مؤسسة واحدة بعد أن تأكد أن تقطيعها إلى ثلاثة أجزاء أفقدها دورها، فلا بد أن يعود للأزهر استقلاله المالي وتعود له أوقافه التي ينفق منها على أنشطته وحتى يتقاضى الداعية مرتبه من الأزهر حتى يشعر باستقلاله فلا يداهن أحدا بتقواه، وهذا يستدعي إلغاء وزارة الأوقاف. كما لا بد أن يكون الأزهر مستقلا في توظيف أبنائه في المساجد بعد أن يعود له الإشراف عليها، كما ينبغي عدم التخييل على الأزهر بمنصب المفتي فهو منصب صغير ومتواضع إذا قورن بمنصب شيخ الأزهر، فمنصب شيخ الأزهر يحظى بخبرة تاريخية قوامها ألف عام ويحرم عليه طبقا للقانون أن يفتي دون الرجوع إلى مجمع البحوث الإسلامية أو أن يصدر عن غير قرار مجمع البحوث الإسلامية.. وإنما يعمل من خلال سياسة اشترك في وضعها ما يقرب من خمسين من كبار العلماء وإلغاء منصب المفتي أفضل.
* كيف ترى تزايد عمليات العنف وقتل المدنيين والأبرياء باسم الإسلام في بلادنا العربية؟
** الفكر الذي يحرك هذه العمليات فكر ليس متشدداً، وإنما فكر يفهم الآيات القرآنية بشكل خاطئ ويحملها معاني لا تقصدها، فالمسلم مطالب بإعمار الكون ورعاية مصالح المجتمع ولكن هناك خلط، فهناك فرق بين معاملة المسلم مع من يصل إليه من الخارج ضيفاً ومن يحتل أرضه. فمن يحتل الأرض يجب مواجهته بشدة وصمود، أما المعاملة وقت السلم فلا قوة ولا مدافعة أو حرب أو قتل فيها ولكن هؤلاء القوم أصحاب هذا الفكر العنيف خلطوا بين افتقادهم فيما ينبغي أن يعامل به العدو وما يُعامل به المسلم. إن أصحاب هذا الفكر اعتبروا أنفسهم قضاة ووكلاء عن الأمة لفرض ما يرونه فرضاً على المجتمع، فهم يعاقبون من يخالف العقيدة حتى وإن كان غير مؤمن بها، أي أنهم يرون أن شرب الخمر حرام لذلك يفرضون هذا الأمر على السائحين رغم أنهم لا ينتمون لعقيدة الإسلام ولمعالجة هذا الفكر يجب أن تكون المعالجة بالحوار ونشر الوعي الصحيح، وقبل ذلك يجب إعادة الثقة في المؤسسة الدينية وأن يكون للأزهر ذاتيته واستقلاليته.
* ما هو تعقيبك على ما يحدث في العراق من أعمال طائفية؟
** لقد كانت ومازالت الطائفية هي السمة الغالبة على الحكومات العراقية الشيعية الموالية للاحتلال الأمريكي، وخاصة حكومة الجعفرى، حتى أصبحت هذه الحكومة عنوان الأزمة في الملف العراقي، فهي مدفوعة من الأطراف الشيعية الموالية للجانب الإيراني، وقد فتحت البلاد للمخابرات الإيرانية التي أصبحت عنصراً مؤثراً في عمل وزارات الداخلية والدفاع والنفط والعدل، أي الوزارات الأربع المؤثرة في البلاد.
لقد اشتعل الملف الأمني بوجهيه، من حملات الاحتلال وقوات الحكومة الشيعية الأصل، ضد المدن والأقضية السنية من جانب، وعمليات التفجير والاغتيالات والتصفية التي لا يُعرف منفذوها في أحيان كثيرة، إضافة إلى تردى الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي يثقل كاهن المواطن العراقي، بالإضافة إلى أن هذه الأوضاع جعلت السنة يتحركون الآن من منطق الطائفة المستهدفة خاصة بعد الاعتقالات الممنهجة التي تخفت وراء اعتقالات رموزهم وعلمائهم وقياداتهم وأئمة مساجدهم، وهذا هو الذي جعل المقاومة المناهضة للاحتلال بل والمناهضة للحكومة الشيعية تتكون أساساً من السنة.
في ظل الحكومة الجعفرى، وحتى الآن، أصبح هناك تعطيل كامل لأحكام قانون الأحوال الشخصية، وتأسيس محاكم شخصية مذهبية، في الوقت الذي يوجد فيه 4 مليون عائلة عراقية مختلطة ناتجة عن زواج أطراف سنية من شيعية ونتج عنهم جيل كامل مختلط لا يمكن تحديد مذهب أي منهم. كما أكدت حكومة الجعفري إنفرادها وتميزها في تعذيب المعتقلين في السجون العراقية، وزيادة هذه السجون دون اعتبار لعلماء أو نساء أو شيوخ أو أطفال، الشيء الهام هو الإدلاء بالمعلومات والحصول عليها من المعذبين وضمان الولاء والخضوع والسكوت فقط، وقد رأينا مدى الصمت على التعذيب والاعتقال.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد