لا يمكن أن نصف أي نظام اقتصادي بالإسلامي وهو لم يصمم ليعمل على الواقع


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كثيرة هي مشكلات التنمية في البلدان العربية والإسلامية فالعالم العربي قد أخفق في تأسيس السياسات التنموية في بلدانه. وتأتي التحولات الكبيرة في المنطقة لتدفع التنمويين إلى ساحة المجتمع المدني. وقد أجرت «المحايد» مع المستشار عبد العزيز القاسم الباحث في شؤون التنمية حواراً حول «المدخل الفقهي للتنمية».

* التنمية مطلب حضاري. ويستحيل تصور نموذج تقدمي للحضارة معزولاً عن البعد التنموي. كيف ترون التنمية من المنظور الإسلامي؟

ـ أولاً عندنا في جوانب التنمية قسمان... القسم الأول الجوانب التوقيفية التي نعرف بها الأبعاد التي نريد تحسين تصور الناس لها وتفاعهلم معها (جوانب توقيفية) التصور العقدي، الغايات ـ النظام الأخلاقي... أو ما يسمى بمنظومة القيم بشرط أن نربطها بتطبيقات معينة... وهنالك نموذج متميز مختلف (جوهر التوحيد ـ رعاية الفضائل) أما عن جوهر التوحيد فالآيات كثيرة جدًا تبين أن غاية النبوات أن يعبد الله وحده. الشق الثاني هو تنمية الأخلاق وهذه بينها الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بشكل محكم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)... وهنا عمودان أساسيان تختلف بهما عن مشروعات التنمية المتاحة حاليًا.

أما الجزء الثاني فهو توزيع الاهتمام حول حياة الدارين (الدنيا والآخرة) بعد تنموي كذلك فإذا كنت أعتني بخاتمة الإنسان بعد الموت بمفهومي للتنمية فسأحرص على تقديم وسائل السعادة في هذه الحياة الأخرى... فأصبح لدي جزء آخر للتنمية غير موجود في مفاهيم التنمية المتاحة، وهذا لا يعني أن الغرب خارج عن الحضارة الدنيوية ولكنه لا ينشئها كبعد تنموي... والجانب المهم الآخر هو «العاديات أو المعاملات أحكام غير التوقيفية وما كان أصله الإباحة... مثل استغلال الأشياء ومثل نماذج عديدة يمكن أن تجمل في حديث النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ «أنتم أعلم بأمر دنياكم» هذا البعد نستطيع أن نستثمر فيه بالاشتراك مع مجموعة ثقافات وليس ثقافة واحدة... فلا نستطيع أن نخلط هذين الحقلين (الحقل التوقيفي والمباح والمتروك لاجتهاد الإنسان) قد تتلاقى مفاهيمنا والمفاهيم الأخرى في المجالات المباحة في التنمية باعتبارها مشترك إنساني..

* كيف يمكن تصور الفقه كمدخل للتنمية الحضارية للبلدان العربية والإسلامية؟

ـ ليس لدينا شك في تأكيد الضوابط الإسلامية للتنمية... فكثير من النصوص قد لا تكون لها علاقة بمشروعات التنمية. والمجموعة الثانية هي أن المنتجات الحضارية التي ينتجها العالم المسلم مستلهمًا ومستبطنًا المفاهيم الإسلامية المتعلقة بالحضارة الدنيا، هذا الأخير إذا تواصل وأخذ مداه وتواصل إنتاجه يمكن أن نسميه «رؤية إسلامية للتنمية» حيث لا يمكن أن نسمي نظاماً اقتصادياً إسلامياً لم يصمم ليعمل على الواقع ويعالج مشكلات هذا النظام الاقتصادي، ستحتاج إلى سلسلة من المؤسسات وسلسلة من المفاهيم المطورة الجديدة ستحتاج إلى فقه في جوانب كثيرة يؤدي إلى بروز منتجات في النهاية، مصبوغة بالصبغة الإسلامية ويمكن أن تصفها بفلسفة التنمية الإسلامية بعد أن نربط بين مجموعها لتتضح الصورة.

الجزء الثالث في هذا التفريق هو عملية نقد التنمية المعاصرة، هذا عمل مهم جدًا والاطلاع على فلسفات ومفهوم التنمية المعاصرة ضرورة المعرفة هي مناطات ما نتحدث عنه من النصوص... فإذا أردت من الفقيه أن يجعل من الفقه أساسات ومرجعيات للتنمية، فأنت تريد منه أن يتحدث عن شيء لا يعلمه من خلال الفقه. فكيف سيعرف أن هناك ضرورة لقيام مؤسسات مساعدة للعملية الاقتصادية حتى تقوم نظم المشاركة بإنتاج نظام مالي يوزع أو يضخ أو يسمح بسلامة دراسة التدفق بين مالك النقد ومالك الفرصة... فأنت تحتاج إلى مؤسسة توفر قراءة الفرص، ومؤسسة تقرأ آليات الإدارة ونظمها، ومؤسسة تقرأ النظام المحاسبي المناسب للمشاركة، ومؤسسة تقرأ النظام المناسب لائتمان المشاركة، وهكذا مجموعة من المؤسسات لا يستطيع الفقيه أن يصل إليها إلا بالنظر إلى الواقع... فالواقع هو الذي يفرض على الفقيه النظر في مناطات الشريعة التي تضمنت الإطار العام للتنمية... والتجارب التنموية كذلك ستظهر للفقيه مناطات العملية التنموية ومن ثم سيشغل من خلال إدراكه للإشكاليات، سيشغل ذهنه في المادة الفقهية الموجودة أمامه وسيفهم شيئًا لا يدركه الفقيه الذي كتب النص نفسه لأن الفقه الإسلامي مشدود بإطار هائل هو الوحي... متماسك لا يأتيه الباطل بمحكاماته فقد نفهم في بعض المتشابهات فهمًا باطلاً لكن محكمات هذا الوحي ونصوصه القطعية الراجحة ـ لمن أدرك المعنى الراجح منها ـ ستمثل إطارًا يشد نظامًا متكاملاً هو إطار التنمية... ولكن حتى نصل إلى هذه النقاط يجب معالجة مشكلات التنمية... فمثلاً موضوع البطالة معضلة كبيرة (فرص عمل قليلة ـ ناس كثيرون بدون عمل ـ وسائل الإنتاج غير نامية مع حجم السكان) هنا تظهر أسئلة: ما السبب في ضيق الفرص؟ السبب هو أن نظام الائتمان ضعيف... لماذا؟ لأنه لا يوجد تنفيذ مناسب للرهن... وتسهيل التداين عملية مراعاة بالنسبة للفقيه أثناء التفكير في التعامل مع قواعد الرهن... فالمرتهن كي يقبض الرهن لا يضمن ولو ضمن لتعطل الرهن وأدى إلى تضييق المداينات.

* كثير من الباحثين العرب ـ في قضايا التنمية ـ يعزون ملامح الأزمة التنموية إلى ثلاثة اعتبارات [المنهجية ـ الحداثة ـ التبعية] فما رأيكم؟

ـ بالنسبة للتبعية أصبحت قضية ضخمة ومثبتة منهجيًا بل بعض العلوم قائمة على تقريرها مثل «علم اجتماع التنمية» وهناك كتابات عديدة مثل كتاب «الدولة المستوردة» ولكن يجب ألا نغالي في نفي التبعية... فالغرب يملك علمًا ويملك تقنية ويملك نظماً مالية وإدارية ومؤسسية عملاقة ولا يمكن أن نتحدث عن إنتاج جديد لنظم من الصفر وهذه هي المعضلة... ويمكن أن نقتبس بسهولة... مثلاً هناك نظام حاسوبي مصرفي لتنظيم تدفقات النقد في المصارف هذا منتج غربي ويمكنك بإجراءات معينة أن تصحح فيه ليتناسب مع أصول ثابتة قطعية لما يمكن أن نسميه مرجعية التنمية الإسلامية... ومن هنا يصبح تصعيب مسألة قيام تنمية مستقلة ولكن يمكن قيام تنمية راشدة ومختارة قائمة على الإبداع الذاتي في نقاط التماس والاختلاف وتتحدث عن تحديث النظم والسياسة.

قارن النموذج التركي مع النموذج الياباني الذي كان محافظًا بشكل عجيب على عهد الميجي في ثورة 1867م حيث تبنت الاستقلال في استخراج التشريع وتبنوا الدستور الألماني مع تعديلات تحافظ على توازنات المجتمع... وكان الفرق بين اليابان وتركيا فرقاً هائلاً لأن اليابان كانت تعيش في تلك اللحظة حياة اجتماعية تشبه الظروف التي نشأت فيها الدولة الحديثة في أوروبا (سقوط الإقطاع وغياب المؤسسية) فأنشأ فراغًا يمكن أن تفلح فيه المنظومة السياسية الجديدة لتكون نقطة توازن جديدة. وفي تركيا كان العكس بأن كان التوازن قائماً بنظام الآخر وهذا ما أدى إلى صراع الدولة ونظمها الجديدة مع المجتمع وقواه التقليدية من علماء وعشائر وقبائل... إلخ.

* النموذج الخليجي للتنمية على عكس كثير من النماذج كان مبنيًا على أساس الطفرة وليس الندرة فما تعليقكم على ذلك؟

ـ أولاً في منطقة الخليج بشكل عام المسألة التنموية مختلفة كثيرًا عن أية منطقة في العالم الثالث أو العالم الإسلامي وهذه هي النقطة المهمة... لأن دول هذه المنطقة تحظى بكنوز هائلة ولا تعاني من ندرة الموارد المالية، ومع ذلك لا يختلف وضع كثير منها من الناحية العامة بتأثرات وتقلبات المناخ أو بالمؤشرات التنموية الأخرى مثل معدلات التعليم ومعدلات البطالة مثل كفاءة تشغيل رأس المال أو الأموال المهاجرة وغيرها المؤشرات التي توجد في دول النفط متشابهة مع الدول غير النفطية... وفي تصوري أن الحالة الخليجية مرتبطة بمجموعة مشكلات أولها طبيعة المجتمعات مفككة ذات أنظمة اجتماعية مختلفة عن نظام هيكل الدولة الحديثة... النقطة الثانية دول الخليج مسكونة بهاجس الوفرة المالية... فالدول لم تكن قلقة بإيجاد المصادر البديلة خاصة عن مستوى تأهيل الإنسان العادي... لا يهمني أن يظهر أمامي عدد من المتخصصين في تخصصات معينة بل يهمني كم معدل القاعدة ذات المهارات الحرفية المتخصصة التي يقدم عليها المجتمع.

ويكفي ـ لنعرف فداحة هذا الجانب ـ أن تنظر في حجم المؤسسات التي تتولى التدريب المهني والمؤسسات التي تتولى التدريب الجامعي.. كم هائل من الخلل.. فالصحيح أن تنشأ مؤسسة ضخمة لتأهيل هذه القاعدة العريضة وتصطفي من هذه القاعدة من يملك التأهيل لشغل الوظائف القيادية وهذا جانب ظاهر في التنمية الخليجية وهذا ما يفسر بطالة الخليجي الذي لا يملك الخبرات التي تصنع مستقبل مجتمعه وهو (...) يفسر من جهة أخرى عدم مقدرة رأس المال على إيجاد حركة ملائمة... فالنظم تتعامل مع موظف أجنبي ومع رأس مال مهاجر وخبرات مهاجرة وخبرات مستوردة ورأس مال مستورد!! وأصبحت المشكلة مضاعفة!!

من ناحية أخرى هذه الوفرة أدت إلى غياب خطر كبير جدًا أن وسائل الرقابة المالية التي تحمي من الخلل في التعامل خاصة مع المال العام من التسرب أو الفساد أو العبث ومن أسباب الضعف الرقابي هو الوفرة لأن وجود المال بوفرة لا يدعو إلى مناقشة تسربه.

من ناحية أخرى لا توجد استراتيجية واضحة طويلة المدى... ومن يقرأ خطط التنمية في دول الخليج يكاد يرسم على ضوئها خطوطا منفرجة... فترة موجهة للبنى التحتية ومع توجيه التنمية للبنى التحتية تنشأ قطاعات عمل ضخمة، تتراكم فيها خبرات ضخمة على سبيل المثال قطاع المقاولات أثناء تأسيس البنى التحتية أنشأت الدول الخليجية قطاعا عملاقا للمقاولات في المنطقة، وبمجرد انتهاء وظيفتها تمت تصفية هذه القطاعات ومعها الخيرات وكأن لم تكن بالمنطقة هذه الخيرات فأفلس من أفلس وضاع ما ضاع ومن بعد (في الاحتياجات) تستورد قطاعات المقاولات لأن المؤسسة القديمة لا تنمو أصلاً لغياب استراتيجية تنموية للمؤسسات التقليدية.

* هل من الممكن أن نضيف لمشكلات التنمية قضية التخطيط.. (قضية الصناعات البتروكميائية) على سبيل المثال؟

ـ موضوع التخطيط هذا متفق عليه ولا نزاع حوله من ضرورة التخطيط الواعي البعيد الأجل والأخذ في الاعتبار بالأبعاد الحيوية لعملية التنمية ونأخذ مثال ماليزيا التي تعيش خطة من أكثر من 20 سنة مرسوم فيها أهداف واضحة وحققتها أو مجملها وهذا من أثر التخطيط... ومثال آخر لممارسة التخطيط بشكل واعي في دول الخليج وتوطين ضخم للعمالة في البتروكيماويات هذا عمل واعي ومخطط ولكنه خارج عن النسق العام للتنمية الاستراتيجية إذا تحدثنا عن عمق... ومن يقرأ عن أهداف التنمية في دول الخليج يلاحظ أنها انعكاس مباشر لمؤشرات النفط في أسواق النفط العالمية من حيث الأهداف ومن حيث الاتجاهات والأولويات.

* كيف يمكن المحافظة على خطط التنمية؟ وبم تتنبأ لمستقبل التنمية وآثارها الاجتماعية؟

ـ في هذا الموضوع أحب أن أركز على مجموعة نقاط... النقطة الأولى: لا يمكن أن تنشأ تنمية في ظل توتر اجتماعي خاصة توتر اجتماعي على مستوى الهوية وقلق التحديث طائفة لا تتحدث إلا عن الهوية وحمايتها وكأن مشاكل المجتمع غائبة... النقطة الثانية أننا في زمن انفتاح إعلامي ولابد من أن نقدم الرأي عبر لوازم هذا الانفتاح وأن نتحدث في الرأي البناء وأن نفرق بين التواصل مع الآخرين للتكامل والتواصل للإقصاء في كافة قطاعات المجتمع على مستوى الحاكم والمحكوم وعلى مستوى الخبير والمثقف... الخ. البعد الثالث يتمثل في الوعي بآليات إنتاج التنمية واختلافها بين الحضارات غائب للأسف بين قطاعات المجتمع.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply